الفرق بين الرئيس باراك أوباما والرئيس المنتخب دونالد ترامب، مثل الفرق بين الجليد والنار. وبينما يتعامل أوباما مع العالم ومشاكله من منظور عقلاني وواقعي وحذر، يوظف ترامب حدسه ويميل إلى تفضيل انطباعاته الشخصية الأولية، فعندما يتحدث أوباما فإنه فصيح وبليغ، بينما ترى ترامب يمارس العنف ضد اللغة باختياره لمفرداته الفقيرة التي يكررها في جمله المتلاصقة إلى ما لا نهاية. أوباما يفضل الإسهاب في المؤتمرات الصحفية والمقابلات والخطب الطويلة والتفصيلية إلى درجة الشعور بالملل والضجر. أما ترامب فيفضل إيصال رسائله السريعة والقصيرة والنابية في معظم الأحيان عبر تويتر، حيث يغرد علينا في أوقاته المفضلة من صباح كل يوم بلهجة مباشرة وقاطعة وحتى مطلقة لا تقبل النقاش. أوباما من جهته، يفكر قبل أن يختار كلماته بدقة. أما ترامب فإن كلامه أحيانا يسبق تفكيره، وهذا يفسر تسرعه في التغريد، على أن يعود لاحقا إلى توضيح أو تبرير تغريداته، ودائما يصر على عدم الاعتراف بأي خطأ يرتكبه. أوباما بطبعه المعتدل يدرس بتأني وبطء كبير كيفية معالجة المشاكل الكبيرة التي واجهها كرئيس لدرجة أنه كان يضحي أحيانا بفرص نجاحه لأن قراراته تأتي متأخرة أو ناقصة. ترامب يرد بشكل تلقائي وسريع، ونادرا ما يدرس مضاعفات اجراءاته وردود وخاصة اذا اعتقد انه يتعرض لانتقادات غير مبررة. أوباما لا يحب تصفية الحسابات مع منافسيه ونادرا ما يفعل ذلك علنا، بينما ترامب يتلذذ بتصفية حساباته علنا، ويفاخر بأنه دائما يرد بشدة وبسرعة على من ينتقدونه.
أوباما يؤمن بالاقتصاد المفتوح والمعولم، بينما يريد ترامب بناء الجدران العازلة. أوباما يقرأ الكتب، بينما ترامب يتبجح بأنه لا يقربها. حياة أوباما الشخصية والعائلية محافظة ولم تشوبها شائبة خلال ثماني سنوات في البيت الأبيض، وحتى خصومه السياسيون يعترفون بذلك. حياة ترامب الشخصية والعامة حافلة بالنزوات والصراعات والمحاكم القضائية. وحكم أوباما وفقا للأعراف السياسية المقبولة، بينما تبين مختلف المؤشرات أن ترامب سوف يحكم بالتجريب ووفق انطباعاته الشخصية، وليس انطلاقا من أي اعتبارات ايديولوجية بما فيها المسلمات السياسية الجمهورية.
في الأسبوع المنصرم انعكست هذه الخلافات والفروقات الشخصية والسياسية الكبيرة بين أوباما وترامب في تعاملهما مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ومع إشكالية التعامل مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين في أعقاب التدخل الروسي السافر في انتخابات الرئاسة الأمريكية.
فلسطين بين أوباما وترامب
منذ بداية ولايته الأولى أكد الرئيس أوباما موقفه المبدئي من معارضة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، حين طالب بتجميد الاستيطان في سياق استئناف مفاوضات السلام. هذا الموقف وضع أوباما في مواجهة استمرت ثماني سنوات مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، نرى اليوم انتهائها بفوز نتنياهو الذي نجح بزيادة عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية من 300 الف عند بدء ولاية أوباما في يناير 2009 إلى 400 ألف مستوطن مع نهاية 2016 ومغادرة أوباما للبيت الأبيض، ومن زيادة عدد المستوطنين في القدس من 193 ألف قبل 8 سنوات إلى 208 الف مستوطن في 2016. اهتمام أوباما لإحياء مفاوضات السلام الفلسطينية-الإسرائيلية كان جادا وصادقا، وانعكس ذلك بتسميته للسيناتور السابق جورج ميتشل في الأسبوع الأول من ولايته كمبعوث أمريكي لإحياء هذه المفاوضات. وخلال ولايته كان أوباما يتدخل ولكن ليس بشكل ثابت وقوي لتعزيز المفاوضات، وكان في معظم الأحيان يجد نفسه غير قادر أو أنه غير مستعد ولأكثر من سبب من استثمار الكثير من وقته وموارده في مواجهة التصلب الإسرائيلي أو معالجة الانقسامات الفلسطينية أو تهور “حماس”، وكان يعلق دوره إلى وقت لاحق. في ولايته الثانية وافق أوباما على القيام من خلال وزير خارجيته جون كيري بجهد هام لإحياء المفاوضات والتوصل إلى الخطوط العريضة للحل النهائي للنزاع خلال تسعة أشهر. ولكن جهود كيري الكبيرة وصلت الى طريق مسدود، لأكثر من سبب من أبرزها التصلب الإسرائيلي وهذا ما أوضحه أكثر من مسؤول أمريكي بمن فيهم السفير السابق في إسرائيل مارتن انديك الذي شارك مع كيري في هذه الجهود.
وخلال سنواته الثمانية في البيت الأبيض، وفر أوباما لاسرائيل الغطاء الدبلوماسي في مجلس الأمن الدولي حتى حين كانت تلجأ إلى الاستخدام غير المبرر للقوة العسكرية ضد الفلسطينيين، كما وفر لإسرائيل أنظمة صاروخية متطورة ومكلفة. وأنهى أوباما عهده بتوقيع اتفاق عسكري تاريخي وسخي مع إسرائيل يقضي بتزويدها بمعدات عسكرية بقيمة 38 مليار دولار خلال العقد المقبل. ولكن هذا السخاء لم يغير من حقيقة أن نتنياهو لم ير في أوباما إلاّ معارضته لسياساته الاستيطانية ورفضه لتصلبه تجاه الفلسطينيين. وبقي أوباما يلعق جراحه، ويتحمل إحباطه لسياسات إسرائيل وكان يرفض توجيه الانتقادات القوية لسياسات نتنياهو، وخاصة بعد أن قررت هيلاري كلينتون الترشح لمنصب الرئاسة، لأنها لم ترغب بأن ترث علاقات متوترة مع إسرائيل يمكن أن تؤثر عليها سلبا خلال معركتها الانتخابية نظرا لحاجتها تأييد القوى المؤيدة لإسرائيل والنافذة جدا في الحزب الديمقراطي.
بعد إخفاق جهوده للتوصل إلى اتفاق أولي لحل النزاع، حض وزير الخارجية كيري الرئيس أوباما على ضرورة قيام الحكومة الأمريكية أما بشخص الرئيس أو من خلاله كوزير للخارجية بتحديد موقف الولايات المتحدة بشأن كيفية حل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي والمبادئ الضرورية للحل، وتسمية الطرف والأسباب التي تسببت بفشل مساعيه. ولكن أوباما رفض الاقتراح، لأنه أراد تفادي مواجهة اضافية مع نتنياهو، ولأنه لم يكن يريد تحميل هيلاري كلينتون عبء التوتر المتوقع مع إسرائيل. هذا التاريخ المعقد والمحرج لأوباما وكيري في تعاملهما مع بنيامين نتنياهو اوصلنا قبل أيام إلى الخطاب الذي ألقاه اخيرا الوزير كيري والذي قال فيه إن حل الدولتين أصبح “في حالة خطر” وحمّل سياسة الاستيطان التي يعتمدها نتنياهو المسؤولية الأساسية في تعطيل “عملية السلام”، قائلا “الوضع الراهن يقودنا إلى دولة واحدة، أو احتلال دائم”. وتحدث كيري بلهجة قوية وحتى عاطفية غير معهودة منه تجاه نتنياهو لم تخف إحباطه العميق – وإحباط أوباما- لأن مساعيه السلمية انتهت بالفشل.
جاء خطاب كيري بعد خمسة أيام من موافقة مجلس الأمن الدولي على قرار أدان سياسة الاستيطان الإسرائيلية، بعد أن رفضت واشنطن استخدام حق النقض “الفيتو” ضده كما طالب نتنياهو. وقبل التصويت، طلب نتنياهو مباشرة من الرئيس المنتخب دونالد ترامب التدخل اما لسحب القرار أو ضمان نقضه من قبل إدارة أوباما. وسارع ترامب إلى الطلب من مصر سحب مشروع القرار الذي تقدمت به بعد التشاور مع الفلسطينيين ودول أخرى. ولساعات بدا أن القرار سوف يوضع على الرف، بعد أن قامت مصر بتنفيذ طلب ترامب. ولكن اسراع دول أخرى لتقديم القرار ذاته، أدى إلى قيام إدارة الرئيس أوباما للمرة الأولى خلال ثماني سنوات برفع غطاء الحماية الأمريكية عن إسرائيل في مجلس الأمن. ولكن حتى قبل أن يلقي كيري خطابه، لجأ ترامب إلى سلاحه المفضل: إطلاق التغريدات الحادة قائلا ” لا نستطيع أن نسمح بأن تعامل إسرائيل بمثل هذا الاحتقار. كانوا يرون في السابق صديقا كبيرا في الولايات المتحدة، ولكن ليس بعد الآن”. وتابع ترامب في تغريدة أخرى موجهة ضد أوباما “بداية النهاية كانت في الاتفاق الإيراني (النووي) الرهيب، والآن هذا، قرار مجلس الأمن. ابقي قوية يا اسرائيل، موعد العشرين من يناير يقترب بسرعة” في إشارة إلى اليوم الذي يتسلم فيه ترامب صلاحياته الدستورية كرئيس. وسارع نتنياهو لشكر ترامب على موقفه هذا بتغريدة أثنى فيها على دفء صداقته ودعمه الواضح لإسرائيل. ومرة أخرى قام ترامب بمخالفة الأعراف المعمول بها خلال الفترات الانتقالية بين ولاية الرئيس وقبل استلام الرئيس المنتخب لصلاحياته. وأطلق ترامب سهامه الجارحة ايضا ضد الأمم المتحدة واصفا إياها “بالنادي” الذي يستخدمه البعض لقضاء وقت جيد.
واتسم النقاش السياسي والإعلامي الذي عقب التصويت في مجلس الأمن وخطاب كيري بالسريالية وحتى الخبث وإلى أقصى الحدود. وتحدثت إسرائيل وأنصارها عن “خيانة” إدارة أوباما، وادعت بأنها “تآمرت” مع دول أخرى في مجلس الأمن في صياغة وطرح القرار في مجلس الأمن، ووضعوا أوباما وكيري في موقف دفاعي وكأنهما يمثلان دولة من الدرجة الثالثة وهما يدافعان عن أنفسهم ضد هذه التهم. وانضم بعض كبار قادة الحزب الديمقراطي إلى نظرائهم من الجمهوريين في توجيه الانتقادات اللاذعة لأوباما وكيري. وخلال هذا السجال الغريب كان غياب الطرف الفلسطيني شبه كامل، على الرغم من أنه الطرف الرئيسي المتضرر من الاستيطان الإسرائيلي.
بوتين بين أوباما وترامب
العلاقات بين أوباما وبوتين لم تكن جيدة منذ بدايتها، وحتى بعد محاولات وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، اعادة احيائها. انتقادات كلينتون للانتخابات النيابية الروسية المزورة في 2011، كانت بداية سلسلة من الأحداث والتطورات التي عمقت من الخلافات بين موسكو وواشنطن، شملت ضغوط روسيا على دول بحر البلطيق، وتدخلها في شؤون الدول الأوروبية، وتحرشها بالسفن الحربية الأمريكية إضافة إلى قمع الأصوات الليبرالية والإصلاحية داخل روسيا. وجاء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، بما في ذلك احتلال وضم شبه جزيرة القرم في 2014 ليشكل انتكاسة نوعية للعلاقة نجم عنه سلسلة عقوبات اقتصادية أمريكية وأوروبية الحقت اضرارا جدية بالاقتصاد الروسي وعمقت من نقمة بوتين ضد إدارة أوباما. وازداد التوتر في أعقاب التدخل العسكري الروسي لصالح نظام بشار الأسد في سوريا، وهو التدخل الذي أنقذ النظام، وساهم في إحكام السيطرة العسكرية على مدينة حلب بكاملها بعد تحويل حياة سكان شرق حلب إلى جحيم حيث قصف الطيران الروسي المستشفيات والمدارس والمخابز والأسواق وقوافل الإغاثة بشكل عشوائي.
وفي تطور مذهل ولا سابقة له، تدخلت روسيا وأجهزتها الاستخباراتية خلال السنة الماضية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية من خلال اختراق البريد الالكتروني للحزب الديمقراطي والبريد الالكتروني الخاص لجون بوديستا، رئيس حملة هيلاري كلينتون الانتخابية، والذي عقبه تسليم آلاف الرسائل الالكترونية لمؤسسة ويكيليكس التي يرأسها جوليان أسانج التي قامت بدورها بتوزيع تلقائي لهذه الرسائل بطريقة محرجة لكلينتون وللحزب الديمقراطي. ولا يخفي أسانج معارضته لكلينتون التي كانت قد طالبت بملاحقته قانونيا. وقبل شهر من الانتخابات أعلن 17 جهاز استخباراتي أمريكي عن تقييم موحد جاء فيه أن روسيا هي المسؤولة عن اختراق أنظمة البريد الالكتروني لعدد من المؤسسات والشخصيات الأمريكية، وأن ذلك لم يكن ليتم دون موافقة السلطات الروسية البارزة، في إشارة إلى الرئيس بوتين.
خلال حملته الانتخابية، بقي ترامب المعروف بتذبذبه وتغييره لمواقفه ثابتا على مواقف قليلة جدا من بينها الود الذي يكنه للرئيس بوتين وروسيا بشكل عام، حيث كان يتبرع بسبب أو دون سبب بالدفاع عن الرئيس الروسي، بما في ذلك ممارساته القمعية ضد الصحفيين. وبقي ترامب يرفض كل الاتهامات لروسيا، بما فيها اتهامات الاستخبارات الأمريكية بأنها كانت تحاول التأثير على الانتخابات، وكان يشكك بصدقية وجدوى هذه التأكيدات من أجهزة استخباراتية بما فيها (السي آي أي) التي سخر منها ترامب لأنها أخفقت في ملف أسلحة الدمار الشامل في العراق قبل الغزو الأمريكي. لا احد يعلم ما هي الأسباب الحقيقة لدفاع ترامب عن بوتين وروسيا، وهو دفاع وضعه في موقع المواجهة مع شخصيات نافذة في الحزب الجمهوري من بينهم قادة بارزين في مجلس الشيوخ مثل السيناتور جون ماكين رئيس لجنة القوات العسكرية في المجلس. وهناك من يعتقد أن ترامب، الذي يبدو أنه كان لشركاته مصالح اقتصادية في روسيا، ربما تلقى قروضا من أثرياء روس مقربين من بوتين، وأن هذا يفسر دفاعه الغريب عن بوتين وعن روسيا. ولكن إذا استمر ترامب في رفض الكشف عن سجلاته الضرائبية فلن يستطيع احد تأكيد مثل هذه التكهنات.
التدخل الروسي السافر في الانتخابات أدى إلى تحذير أوباما لبوتين بضرورة وقف هذه الاختراقات، ولكن الاختراقات استمرت حتى بعد إعلان أوباما عن رغبته باتخاذ إجراءات عقابية ضد روسيا، وبعد أن بدأ مشرعون جمهوريون وديمقراطيون في مجلسي الكونغرس بالتحضير لجلسات تحقيق في الاختراقات الروسية بهدف فرض إجراءات عقابية أخرى، يمكن أن تشمل الرئيس الروسي نفسه.
وحتى بعد قيام الرئيس أوباما بطرد 35 دبلوماسيا روسيا واقفال مجمعين روسيين في نيويورك وماريلاند يعتقد أنهما يستخدمان لأغراض التجسس، بقي ترامب على موقفه المشكك بصدقية الاتهامات الأمريكية لروسيا، وجاء رده غريبا ومثيرا للكثير من الأسئلة المحيرة، فقد قال الرئيس المنتخب في بيان عكس فيه عدم تعليقه أهمية كبيرة على الإجراء جاء فيه ” لقد حان الوقت لبلادنا لأن تتقدم إلى الأمام لتحقيق أشياء أكبر وأفضل. ومع ذلك، ومن أجل مصلحة بلادنا وشعبها الكبير، سوف التقي بقادة أجهزة الاستخبارات الأسبوع المقبل من أجل الاطلاع على آخر المستجدات حول هذا الأمر”.
ومرة أخرى، يؤكد ترامب استخفافه بالاستخبارات الأمريكية، واعتقاده أن المسألة غير ملحة، ولذلك تستطيع الانتظار حتى الاسبوع المقبل ليلتقي بقادة الاستخبارات. ولا يزال ترامب يرفض تلقي الإجازات الاستخباراتية اليومية التي يتلقاها الرئيس، والتي لا يمكن له أن يتخذ قراراته الدولية دون الاعتماد عليها. وبما إن أوباما اتخذ قراراته العقابية ضد روسيا عبر قرارات تنفيذية (رئاسية)، فان ترامب قادر نظريا على الغائها. ما هو واضح بعد ثماني سنوات في السلطة أن أوباما يغادر البيت الأبيض تاركا خلفه صديقا ودودا لبوتين بينما يشعر الأخير بأنه أقوى في أوروبا وسوريا أيضا.