أي قراءة دقيقة لخطاب المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية دونالد ترامب حول مكافحة الإرهاب وتحديدا تنظيم ما يسمى “الدولة الإسلامية” (داعش) تؤكد أن فهمه لهذا الخطر وكيفية معالجته وما تقوم به الولايات المتحدة وحلفاؤها في هذا المجال تؤكد نظرته الضحلة والتبسيطية لهذا الخطر بالتحديد، وللعلاقات الدولية في هذه المرحلة التاريخية بشكل عام.
ولم يتطرق ترامب في خطابه يوم الإثنين حول الأمن إلى التحديات الأخرى التي سيواجهها الرئيس الأمريكي الجديد، مثل خطر الترسانة النووية لكوريا الشمالية، ومحاولات الصين فرض سيطرتها على مياه وأجواء شرق آسيا وتحدي مصالح الولايات المتحدة في هذه المنطقة الحيوية، كما تجاهل تماما الترددات المستمرة لاحتلال روسيا لشبه جزيرة القرم قبل سنتين، ودورها في خلق الإضطرابات في شرق اوكرانيا، مكررا دعوته لتعاون عسكري مع روسيا ضد داعش في سوريا، ومن دون أن يوجه أي انتقاد لبشار الأسد، ويكون بذلك أعطى الأمريكيين والمجتمع الدولي صورة أكثر وضحا عن العالم في عهد الرئيس دونالد ترامب.
ومع أن المسؤولين في حملة ترامب قالوا قبل الخطاب إن المرشح الجمهوري لن يكرر موقفه المعروف من منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، وإنه سيوف يتحدث عن ضرورة التعاون مع الحلفاء والأصدقاء في اوروبا والشرق الأوسط ضد إرهاب داعش، إلاّ أن الخطاب لم يتضمن أي تغيير نوعي أو جذري في مواقف ترامب من هذه المسائل. وبعد أن أشار إلى أن العامل “المشترك لجميع الهجمات الإرهابية الإسلامية” التي شهدتها الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة هو أنها تمت بأيدي “مهاجرين أو أبناء مهاجرين” مسلمين، دعا إلى إجراء تحقيقات شاملة وقوية في خلفية أي مهاجر من دولة مسلمة والسماح فقط بدخول “أولئك الذين يشاطروننا قيمنا ويحترمون شعبنا”, وشدد على ضرورة اعتماد ما اسماه ” تحقق متشدد” (أو متطرف)، في خلفية أي مهاجر مسلم، دون أن يوضح كيفية التحقق من ذلك، ومتناسيا أن ما يريده عمليا هو فرض “امتحان” ديني، وهو أمر يتعارض مع القوانين والأعراف الأمريكية. وفي هذا السياق، كرر ترامب ادعاءات اليمين المتشدد في الولايات المتحدة بأن العديد من المسلمين في البلاد يريدون تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، حين قال أنه يجب عدم السماح لأي مهاجر مسلم بدخول البلاد “إذا كان يؤمن بأن أحكام الشريعة يجب أن تستبدل الدستور”. ولا توجد هناك أي أدلة بأن أي منظمة إسلامية-أمريكية او أي أكاديمي أو شخصية دينية إسلامية جدية تشكك بسيادة القانون الأمريكي النابع من الدستور.
ورسم ترامب صورة قاتمة لعالم يعاني من هجمات “الإسلام المتطرف” وخاصة في دول اوروبا، وكذلك في الولايات المتحدة، وعدد بالتفصيل هذه الهجمات وتواريخها وضحاياها، قبل أن يؤكد، أن أمريكا في عهد الرئيس ترامب سوف تواجه “الإيديولوجية الحاقدة للإسلام المتطرف”، وتابع في إشارة ميتافيزيقية عامة إلى أننا “لا نستطيع أن نسمح لهذا الشر بالإستمرار”، وأكد أن أمريكا في عهده ستهزم “إرهاب التطرف الإسلامي…ولكننا لن نهزمه بأعين مغلقة، أو أصوات صامتة” وانتقل بعدها لينتقد الرئيس أوباما لامتناعه عن مهاجمة التطرف الإسلامي بالاسم.
نهاية حقبة بناء الأمم
وفي انتقاد موجه لسياسة الرئيسين جورج بوش الأبن، وباراك أوباما في افغانستان والعراق، قال ترامب “استراتيجيتنا الراهنة بشأن بناء الأمم وتغيير الأنظمة قد أثبتت فشلها. لقد خلقنا الفراغ الذي سمح للإرهابيين لأن يتوسعوا ويزدهروا”. وتابع ترامب “إذا انتخبت رئيسا، فأن حقبة بناء الأمم سوف تنتهي بسرعة وبشكل حاسم.” وأضاف “وأسلوبنا الذي يجب أن يعتمده الحزبان، وحلفاؤنا في العالم، وأصدقاؤنا في الشرق الأوسط، هو أنه يجب وقف انتشار الإسلام المتطرف”. المفارقة هي أن الرئيس جورج بوش الأبن خلال حملته الانتخابية في سنة الفين، أعلن رفضه لسياسة بناء الأمم (بسبب كلفتها ونتائجها غير المضمونة) ولكنه اضطر لتغيير موقفه بعد غزوه لافغانستان والعراق. والمفارقة لا تتوقف مع بوش، بل تصل أيضا للرئيس أوباما، الذي برر في 2011 قراره بسحب ما تبقى من القوات الأمريكية في العراق (تمهيدا لحملة اعادة انتخابه في 2012) حين خاطب البلاد قائلا ” أميركا، لقد حان الوقت لأن نركز على بناء الأمة في هذا الوطن”.
ووصف ترامب الرئيس أوباما بأنه “غير كفء” لأنه وقع على الاتفاق النووي مع إيران، ولأنه سمح للإوضاع في العراق وسوريا بالتدهور بشكل كارثي، ولأنه لم يدعم بقوة نظام الرئيس حسني مبارك في مصر، وادعى أن المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون التي شغلت منصب وزيرة الخارجية في ولاية أوباما الأولى،”تفتقر إلى القدرة العقلية والجسدية” لمواجهة داعش.
ولكن كيف سيواجه “الرئيس” ترامب خطر “الإرهاب الإسلامي”؟ الحل هو عقد مؤتمر دولي، والعمل المشترك جنبا إلى جنب “مع حلفائنا في الشرق الأوسط، بمن فيهم حليفنا الأكبر إسرائيل. وسوف نتشارك مع الملك عبدالله في الأردن، والرئيس (عبد الفتاح) السيسي في مصر، وجميع من يؤمن بأن إيديولوجية الموت هذه يجب أن تستأصل”. ومن الواضح أن إشارة ترامب إلى إسرائيل هدفها الإسترضاء ليس أكثر، كما أن مصر بعكس دول خليجية لم يذكرها ترامب لا تشارك عسكريا في مواجهة داعش في المسرحين السوري أو العراقي، حيث يتركز اهتمامها الأساسي على مواجهة تنظيمات إرهابية تنشط فوق أراضيها.
وفي تعديل بسيط (ولكن غير صحيح) لموقفه السابق من حلف شمال الأطلسي (الناتو) قال ترامب “سوف نعمل عن كثب مع الناتو في هذه المهمة الجديدة” وتابع “لقد قلت في السابق إن الناتو لم يعد مفيدا لأنه أخفق في التعامل بشكل فعال مع الإرهاب. وبعد مواقفي هذه، غيروا سياستهم ولديهم الآن فرقة جديدة لمواجهة تهديدات الإرهاب”. ولكن الواقع هو أن الناتو لم يعدل من استراتيجيته بسبب تصريحات ترامب، ولكن إشارة ترامب هذه تهدف إلى طمأنة قادة الحزب الجمهوري الذين لا يوافقون على طروحات ترامب السابقة والهادفة إلى تهميش هذا الحلف الذي صان الأمن الاوروربي لسبعين عاما. وفي تأكيد جديد لرغبة “الرئيس” ترامب بإعادة صياغة العلاقات مع روسيا، والإعتراف بمصالحها في المنطقة، فقد دعا بوضوح لعمليات عسكرية أمريكية-روسية مشتركة ضد داعش، قائلا “أنا أؤمن أيضا أننا قادرون على إيجاد أرضية مشتركة مع روسيا في القتال ضد داعش. وهم أيضا لديهم مصلحة في ما سيحدث في سوريا، وهم خاضوا أيضا معاركهم مع الإرهاب الإسلامي”.
نظام عالمي جديد؟
خطاب ترامب الأخير، يتضمن بعض الملامح الإضافية لتصوره للعالم في حقبته، إذا قرر الأمريكيون انتخابه في الثامن من نوفمبر المقبل. هذا العالم يختلف عن العالم الذي آمن به أو دافع عنه رؤساء الولايات المتحدة، على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية. هذا العالم لا تعتبر فيه الديموقراطية مطلبا أمريكيا جوهريا. ترامب في خطبه يعرب عن إعجابه بالزعماء الأقوياء غير المقيدين بأنظمة وقيم وممارسات ديموقراطية وشفافة، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تبادل مع ترامب رسائل إعجاب متبادلة على شكل ثناء ومديح علني. في عالم ترامب هذا، لا مجال للرئيس الأمريكي لأن ينتقد رجب طيب أردوغان رئيس دولة أجنبية وحليفة مثل تركيا بسبب ممارساته غير الديموقراطية، لأن البيت الأمريكي بحاجة إلى إعادة ترتيب قبل توجيه مثل هذه الانتقادات لرؤساء الدول الأخرى على حد قوله. في عالم ترامب، الذي تتداخل فيه الأساطير بالحقائق، ويصبح فيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما ووزيرة خارجيته السابقة مسؤولان عن تأسيس داعش، ليس من المستغرب أن يثني حسن نصرالله، زعيم تنظيم “حزب الله” الطائفي في لبنان والأداة المذهبية في يد إيران في لبنان وسوريا والعراق، على اتهام دونالد ترامب للرئيس أوباما بتأسيس داعش. وزايد نصرالله على مزايدات ترامب حين قال “هذا ما يقوله مرشح للرئاسة الأمريكية. وما يقوله مبني على حقائق ووثائق”.
في عالم ترامب، تصبح علاقات الولايات المتحدة مع دول العالم، بما في ذلك حلفائها القدامى ، في حلف الناتو على سبيل المثال، علاقات مالية- تجارية صرف، لا صلة لها بالقيم المشتركة، أو بتنفيذ الالتزامات الأخلاقية والأمنية لأمريكا تجاه حلفائها، وخاصة الدول الصغيرة، مثل دول بحر البلطيق المعرضة أكثر من غيرها للضغوط والابتزازات الروسية. موقف ترامب هذا يتناقض ويتعارض بالمطلق مع مواقف وسياسات الرئيس الجمهوري الراحل رونالد ريغان، وهو “أيقونة” الجمهوريين المفضلة، تجاه الاتحاد السوفياتي القديم، والذي يدعي ترامب أنه من المعجبين به جدا.
اللافت، أنه قبل يوم من خطابه، كشفت صحيفة نيويوك تايمز في مقال مطول لها أن مدير حملة ترامب بول مانافورت، كان قد حصل على نحو 13 مليون دولار على شكل دفعات نقدية من حكومة الرئيس الاوكراني المخلوع في 2014 فيكتور يانوكوفيتش. ووفقا للصحيفة، استولت السلطات الاوكرانية على وثائق وجداول مكتوبة بخط اليد (صورتها الصحيفة) تبين أن الحكومة الاوكرانية خصصت لبول مانافورت مبلغ 7ر12 مليون دولار. وكان من اللافت أن مانافورت نفى حصوله على “دفعات نقدية” (لم يقل إنه لم يحصل على شيكات او تحويلات مالية لحسابات خارج أمريكا على سبيل المثال). ولبول مانافورت علاقات ومصالح مالية مع الثري الروسي اوليغ ديريباسكا والمقرب من الرئيس بوتين. كل ما نعرفه بيقين، أن علاقات مانافورت المعروفة مع حليف موسكو السابق في كييف، بخطوطها العريضة، سوف تبقى تحت المجهر، وربما برزت تسريبات جديدة يمكن أن تضر بمانافورت وبما تبقى من صدقيته كمدير لحملة ترامب. ويعتقد أن علاقات مانافورت بحلفاء ومقربين من الرئيس بوتين، يمكن أن تفسر ولو جزئيا إعجاب ترامب ببوتين، فضلا عن توافق السياسات فيما بينهما بما يخص الحرب في سوريا، وحلف الناتو.
ترامب :الإعلام الأمريكي فاسد ومثير للإشمئزاز
قبل أيام نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالا مبنيا على مصادر في حملة ترامب تحدثت فيه عن الخلافات والمناوشات بين المسؤولين عن إدارة الحملة ومع ترامب الذي قالت المصادر أنه مستاء للغاية ومحبط لأن منافسته كلينتون مستمرة في تعزيز مكانتها في استطلاعات الرأي. وساهم المقال في تركيز حملة ترامب المضادة على صحيفة نيويورك تايمز بالتحديد نظرا لاهميتها، وادعى ترامب أن الاعلام بشكل عام منحاز لكلينتون، وأنه لو كان الاعلام منصفا ” لكنت اهزم كلينتون بعشرين نقطة”.
وعلى الرغم من أن حملة كلينتون قد كبت أكثر من مرة وتعرضت لاكثر من نكسة في الاسابيع الماضية، واخرها كان الكشف عن أن مساعدي كلينتون عندما كانت في وزارة الخارجية قد ساهموا بسرية في اعمال الجمعية الخيرية لعائلة كلينتون، وهو ما وعدت بعدم القيام به عندما استلمت وظيفتها، الا أن ترامب قد عجز حتى الان في استغلال مكامن الضعف هذه في حملة كلينتون. وأي مرشح جمهوري “تقليدي” غير ترامب لكان في وضع أفضل من وضع ترامب الحالي. وقبل يومين كشفت شبكة التلفزيون أن بي سي عن خريطة جديدة للمجمع الانتخابي، اظهرت بوضوح أنه او جرت الانتخابات اليوم لكانت كلينتون ستفوز ب 288 صوتا في المجمع الانتخابي، أي اكثر ب18 مندوبا من الرقم السحري للفوز بالانتخابات، اي 270 مندوبا.
وما يجب أن يقلق حملة ترامب هو أن بعض الولايات التي كانت تميل تقليديا إلى الجمهوريين او ثابتة في المعسكر الجمهوري، اما انتقلت إلى صف هيلاري كلينتون او تميل في اتجاهها. ونقلت شبكة أن بي سي ولايات كولورادو، ونيوهامبشر، ونورث كارولينا، وبنسلفانيا، وفيرجينيا ونيبراسكا من خانة الولايات المتأرجحة وغير المحسومة، إلى خانة الميل للديموقراطيين.
الاستياء العميق في اوساط الحزب الجمهوري من تصرفات ترامب المتهورة واخفاقه في ضبط نفسه، وتحميله بشكل مسبق، اي قبل اكثر من 80 يوما من الانتخابات وسائل الاعلام مسؤولية هزيمته المتوقعة بالانتخابات، ازداد اتساعا في الأيام الأخيرة. واضافة إلى كبار الخبراء في مجال الأمن القومي من الجمهوريين أو المتعاطفين معهم، والذين عبروا عن معارضتهم لانتخاب ترامب في رسائل علنية، هناك 7 أعضاء في مجلس الشيوخ من الذين رفضوا تأييد ترامب، وهناك احتمال بقيام بعض أعضاء مجلس الشيوخ بالتحديد على سحب دعمهم السابق لترامب.
ووجّهت افتتاحية صحيفة وال ستريت جورنال، وهي ابرز صحيفة أمريكية محافظة وتؤيد عادة المرشحين الجمهوريين، يوم الأحد انتقادا لاذعا لترامب محملةً فيه شخصيا مسؤولية ايصال حملته إلى طريق مسدود. وأعربت الصحيفة عن دهشتها من اخفاق ترامب في استغلال مكامن ضعف كلينتون، خاصة وأن شعبيتها كمرشحة ديموقراطية هي الأقل في تاريخ الانتخابات الأمريكية. واضافت الافتتاحية أنه اذا اخفق مساعدو ترامب وأولاده في ضبطه والزامه ببعض المواقف الثابثة وإذا لم يؤكد جديته واتزانه، عندها يجب ألاّ يكون هناك خيار آخر أمام الحزب الجمهوري، غير التخلي عن ترامب وتركيز الاهتمام وتوزيع الموارد المالية على سباقات مجلسي الكونغرس لإبقائهما في أيدي الجمهوريين، وخلصت الافتتاحية إلى القول “أما بالنسبة للسيد ترامب فعليه أن يتوقف عن لوم الآخرين وأن يقرر ما إذا كان سيتصرف كمرشح يريد أن ينتخب رئيسا، أو أن يتنازل عن ترشيحه لصالح نائبه مايك بنس”. ولم يحدث أبدا أن أغضب مرشح للرئاسة أهم صحيفتين في البلاد، الليبرالية نيويورك تايمز، والمحافظة وال ستريت جورنال، ووصل إلى البيت الأبيض.