تركز الدعايات التلفزيونية لحملة هيلاري كلينتون ضد منافسها دونالد ترامب على اظهار جهله بالقضايا والتحديات الخارجية التي تواجهها الولايات المتحدة، وانعدام خبرته السياسية، وعدم المامه بالشؤون الاستخباراتية والاستراتيجية، وميله لاصدار التصريحات الاستفزازية حتى ضد حلفاء الولايات المتحدة، كما تسخر من ادعاءاته الغريبة مثل قوله بأنه يفهم الخطر الذي تشكله “الدولة الإسلامية” (داعش) على أمن الولايات المتحدة “أكثر من الجنرالات”. وتهدف هذه الدعايات التي تبثها حملة كلينتون في عدد كبير من الولايات، وتحديدا الولايات التي ستحسم السباق الى التشكيك بقدرات ومؤهلات ترامب على اتخاذ القرارات الحكيمة والمتروية والمسؤولة المتعلقة بالأمن القومي. معظم هذه الدعايات تستخدم كلام وتصريحات ترامب نفسه لكشف غطرسته وتهوره وجهله. فهناك اللقطة التي يجاوب فيها ترامب على سؤال حول هوية الخبراء العسكريين الذين يستشيرهم قبل اتخاذ مواقفه، قائلا ” اتحدث مع نفسي.. فأنا املك دماغا جيدا” قبل أن تنتقل الدعاية لاظهار كلينتون خلال خدمتها كوزيرة للخارجية وهي تتفاوض مع زعماء العالم ” وتتصدى ” للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتعمل لوقف الاتجار بالاطفال، والعمل على وقف اطلاق النار بين الفلسطينيين واسرائيل وغيرها من القضايا المعقدة. وفي دعاية اخرى نرى ترامب يجاوب على سؤال مماثل حول مستشاريه العسكريين وهو يقول دون تردد أنه يراقب البرامج التلفزيونية التي تستضيف الخبراء العسكريين. وفي دعايات اخرى، نرى ترامب وهو يشتم خصومه، ويهدد بقصف اعداء أمريكا وكأن لا حدود لهذا القصف.
أهمية هذه الدعايات، التي تكمل إلى حد كبير، خطب وتصريحات هيلاري كلينتون وأركان حملتها، هي أنها تستخدم كلمات ومواقف ترامب حول هذه القضايا والتحديات، والأهم من ذلك أحيانا، استخدام تصريحات أخرى تتناقض كليا أو جزئيا مع تصريحات أولية لترامب حول القضايا نفسها. وتشدد كلنتون والمسؤولون عن حملتها دائما على خطورة وضع الترسانة النووية الأمريكية في يد رئيس متهور ومتقلب وموتور مثل ترامب. ومع أن بعض المراقبين يرون أن كلينتون تبالغ بمحاولة تخويف الأمريكيين من الخطر النووي الذي يمثله رئيس اسمه دونالد ترامب، لأن الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي انتهت بنهايته، كما أن هناك ضوابط عديدة تمنع الاستخدام السهل للأسلحة النووية، الا أن الرئيس الأمريكي وهو أيضا القائد العام للقوات الأمريكية المسلحة، يملك صلاحيات تنفيذية واسعة من بينها استخدام القوة العسكرية في الخارج دون الحصول على موافقة مسبقة من الكونغرس، ومن هنا خطورة وجود رجل مثل ترامب في البيت الأبيض.
رئيس لا يمكن التنبوء بمواقفه
ترسم هيلاري كلينتون في خطبها حول السياسة الأمنية والخارجية صورة مخيفة لعالم يعيش في ظل رئيس أمريكي اسمه ترامب، لأن افكاره وطروحاته ” مبهمة بشكل خطير” ولأنه ” غير مستعد، وغير مؤهل نفسيا لاحتلال منصب يتطلب المعرفة والثبات وتحمل المسؤوليات الكبيرة”. المشكلة الكبيرة التي يواجهها أي محلل لمواقف ترامب حول القضايا الأمنية والخارجية هي أن قوله الشهير قبل عدة أشهر من أن الولايات المتحدة في تعاملها مع العالم الخارجي يجب أن تتصرف بطريقة ” لا يمكن التنبؤ بها”، الأمر الذي يبدو للوهلة الأولى وكأن الولايات المتحدة غير ملزمة بالإيفاء بأي تعهدات أو احترام أي تحالفات أو أنها مستعدة لإعتماد مواقف لا تستند إلى اي قيم معروفة ومحددة. وخلال سنة حفلت بالمناظرات بين المرشحين الجمهوريين، والمهرجانات الانتخابية وعشرات الخطب الرئيسية حول قضايا تمس بالأمن القومي، والهجرة، والسياسة الخارجية واتفاقات التجارة الدولية، اتخذ دونالد ترامب مواقف عديدة من هذه المسائل اتسم معظمها بالغموض والإبهام والارتباك والتناقض : فهناك تصريحات حول تمزيق الاتفاق النووي الإيراني، وأخرى حول إمكانية التعايش معه، وأخرى حول نشر القوات الأمريكية لمحاربة تنظيم داعش، أو ترك مكافحة التنظيم لقوى محلية، واخرى عن طرد 11 مليون مهاجر غير رسمي، أو الإكتفاء بترحيل الذين ارتكبوا الجرائم، وفرض العقوبات والتعريفات التجارية العالية على المكسيك، أو التفاوض معها، ومنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، أو اعتبار ذلك مجرد “اقتراح”، أو الإكتفاء بمنع المسلمين القادمين من دول تعاني من الإرهاب مثل سوريا والعراق. هذا إضافة إلى دعوات وادعاءات لم يتم تحدي ترامب حول كيفية تطبيقها، بدءا من دعوته لمطالبة دول الخليج العربية بدفع “أموال الحماية” للولايات المتحدة لتمويل نفقات نشر القوات الأمريكية البرية والبحرية والجوية في منطقة الخليج، أو قوله بأنه سيعالج تدفق اللاجئين من سوريا من خلال إقامة مناطق آمنة في سوريا وأنه سيطلب من دول الخليج العربية أن تمولها، أو تصريحاته الاستفزازية حول السيطرة على نفط دول ساعدتها الولايات المتحدة عسكريا مثل العراق وليبيا. ترامب لا يبالي بشرح كيفية تطبيق هذه المقترحات والمطالب شبه المستحيلة. وحتى المشروع الذي يحتل جوهر السياسة الخارجية لترامب، أي ادعائه بأنه سيبني جدارا كبيرا على الحدود الأمريكية-المكسيكية، وسيرغم المكسيك على دفع تكاليف هو مشروع سريالي غير قابل للتنفيذ.
لا ايديولوجية ولا قيم : فقط مصالح مالية
وسيتعامل ترامب كرئيس لأمريكا مع العالم كما تعامل معه رجل الأعمال دونالد ترامب، أي أن المصلحة الجوهرية هي المصلحة المادية (اقتصاديا وماليا) حتى ولو اقتضى ذلك “تمزيق” اتفاقات تجارية دولية الزمت واشنطن نفسها بها منذ سنوات لأن ترامب يعتقد أنها لم تكن منصفة للولايت المتحدة. وإذا كان هناك موقف ثابت لترامب، حتى قبل دخوله معركة الرئاسة فهو موقفه السلبي من اتفاقات التجارة الدولية التي جلبها الاقتصاد المعولم، مثل اتفاقية “النافتا” التي ربطت كندا وأمريكيا والمكسيك، ووقعها الرئيس الاسبق بيل كلينتون والتي يرى ترامب – ومعه عدد متزايد من الأمريكيين- أنها خدمت مصلحة المكسيك أكثر مما خدمت مصلحة الولايات المتحدة. قد يستطيع ترامب، في حال فوزه بالانتخابات، أن يرفض اتفاقية التجارة الهامة المعروفة باسم الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP) التي لم يبرمها الكونغرس، ولكنه لن يستطيع بمفرده الخروج من اتفاقيات دولية ملزمة ( بما فيها الاتفاق النووي مع إيران) دون خلق مشاكل داخلية وخارجية معقدة أو مكلفة وتضر بسمعة وصدقية الولايات المتحدة في العالم.
وصول ترامب إلى البيت الأبيض سيضع قادة الدول الصديقة والحليفة لأمريكا في موقع صعب ومعقد، كونه يتصرف بطريقة لا يمكن التنبؤ بها، وهو لا يبالي بالقيم والالتزامات التي اعتمدتها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية حين لعبت الدور الريادي في خلق المؤسسات الدولية التي سمحت لأمريكا بالبروز كأهم قوة في العالم مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو) وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي والأمم المتحدة وغيرها. كيف سيثق حلفاء أمريكا في الناتو بوقوف واشنطن معهم أمام طموحات الرئيس الروسي بوتين، عندما يسمعون ترامب يهددهم بالتخلي عنهم إذا لم يدفعوا التزاماتهم المالية للحلف أو يزيدونها، وخاصة في اعقاب احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014؟ منذ الحرب العالمية الثانية، قامت الولايات المتحدة خلال حقبات رئاسية جمهورية وديموقراطية باتخاذ مبادرات دولية عكست مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية ولكن أيضا قيمها الاخلاقية وسياسات غير ربحية في نفس الوقت، من بينها مشروع مارشال لإعادة إعمار اوروبا الغربية (وللمشروع أهداف استراتيجية لخلق حلف ضد الحركة الشيوعية في اوروبا، ولكن أيضا منطقة اقتصادية تربطها بأمريكا علاقات اقتصادية وسياسية متشعبة) كما خلقت الولايات المتحدة خلال ولاية الرئيس كينيدي “فيلق السلام” وهو برنامج تطوعي لتوفير المساعدات التقنية لشعوب المجتمعات النامية وتعريفها أكثر بأمريكا، اضافة إلى دعم حقوق الانسان ونشر القيم الليبرالية واقتصاديات السوق. أي رئيس أمريكي على مستوى ترامب لن يسمح لمشاريع من قبيل مارشال او فيلق للسلام أن ترى النور، لأنه لن يرى في مثل هذه المشاريع أي قيمة ربحية آنية.
مواقف ترامب الايجابية من القادة الاوتوقراطيين في العالم مثل الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والتركي الطيب رجب اردوغان، تبين أنه لا يأبه كثيرا بالقيم والممارسات الديموقراطية. المرشح ترامب أثنى على قيادة بوتين، ورفض انتقاد الممارسات القمعية لاردوغان، ولذلك من المتوقع أن يكون “الرئيس” ترامب “متفهما” لمصالح ومطالب بوتين واردوغان، مع ما يعنيه ذلك لحلفاء أمريكا في اوروبا وفي الشرق الاوسط. وكان من اللافت خلال مناقشة برنامج الحزب الجمهوري خلال المؤتمر العام للحزب أن المسؤولين في حملة ترامب، طلبوا حذف ادانة غزو روسيا لاوكرانيا واحتلالها لشبه جزيرة القرم، وأكدوا أن الولايات المتحدة –برئاسة ترامب – ” مصمة على صيانة علاقات صداقة مع روسيا”.
تخلي ترامب عن اتفاقية TPP سوف يضر بمصالح اليابان وغيرها من حلفاء أمريكا في شرق آسيا، واذا قرر ترامب عدم مواجهة مشاريع الصين التوسعية في الجزر المتنازع عليها في “بحر جنوب الصين”، فان ذلك سيرغم هذه الدول على التقرب اكثر من الصين وسوف يضعف من النفوذ الأمريكي في هذه المنطقة الحيوية اقتصاديا واستراتيجيا للولايات المتحدة.
ترامب والعرب والمسلمين
لا يملك ترامب معرفة كافية بشعوب الشرق الأوسط وبالإسلام والمسلمين، وهو يرى الشرق الأوسط كمستنقع يخلق الإرهاب والإرهابيين، ويرى دول الخليج كمصرف غني يمكن لأمريكا الاستفادة منه. وخلق ترامب حالة عداء شديدة للغاية مع المسلمين بشكل عام، ومسلمي الشرق الأوسط على الأخص. تصريحاته وتهديداته للتنظيمات الإرهابية التي تلف نفسها بغطاء إسلامي، لا تكتفي بشيطنة هذه التنظيمات فقط بل بشيطة الدين الإسلامي نفسه. هذه التصريحات استخدمتها تنظيمات إرهابية لتجنيد إرهابيين جدد لمهاجمة الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وفي اوروبا.
خلال حملته الرئاسية ادعى ترامب مرارا أنه كان ضد غزو الولايات المتحدة للعراق وضد مشاركتها في الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي في ليبيا، وهي ادعاءات مضللة لأن ترامب أيد الغزو والإطاحة بالقذافي. ولكن ترامب كرئيس لأمريكا لن يبالي بالدعوة إلى الديموقراطية في مجتمعات الشرق الأوسط أو دعم حقوق الإنسان فيها، وخاصة إذا كان لذلك تأثير سلبي على العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع دول المنطقة. وهو حتما لن يتحرك لزعزعة أي نظام سلطوي في المنطقة أو خارجها إذا كانت تربطه بأمريكا ترامب علاقات اقتصادية جيدة. وسيحافظ ترامب على علاقات جيدة ونوعية مع إسرائيل كما يكرر دائما.
مواقف ترامب حول الاتفاق النووي مع إيران متناقضة هي الأخرى. فهو يهدد أحيانا بتمزيق الاتفاق، وأحيانا أخرى يتصرف وكأنه يمكن التعايش معه، وآخر موقف هو ما ورد في برنامج الحزب الجمهوري الذي أُقر في مؤتمر الحزب ( وهو غير ملزم للرئيس) والقائل بأن “الرئيس” ترامب لن يُلزم نفسه بالاتفاق النووي مع إيران، وكأن ذلك أمرا ممكنا دون إلحاق الأضرار بعلاقات واشنطن مع حلفائها الغربيين وروسيا الذين وقعوا أيضا على الاتفاق. وكان ترامب قد قال أمام جمهور متعاطف مع إسرائيل قبل أشهر أن أهم أولوياته كرئيس سيكون ” تفكيك الاتفاق الكارثي مع إيران”، ولكنه لم يشرح كيف يمكن تحقيق ذلك، خاصة وأن الاتفاق يتم تطبيقه حاليا.
العالم كما يراه ترامب، ليس عالما تحافظ فيه الولايات المتحدة على أي التزامات اخلاقية أو تقوم فيه بتحقيق انجازات غير ربحية. في هذا العالم الغريب، الحلفاء قد يتحولون إلى خصوم، والخصوم إلى حلفاء. وستزداد مخاوف حلفاء وأصدقاء أمريكا في الشرق الأوسط واوروبا المستاؤون من هشاشة التزامات إدارة أوباما أكثر حول جدوى علاقاتهم مع الولايات المتحدة، إذا وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض .