يقترب السباق إلى البيت الأبيض من أهم محطاته: المؤتمر العام لكل من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، لاختيارالمرشح الرسمي للحزب والذي يتحول على مدى أربعة أيام إلى طقس سياسي أمريكي فريد من نوعه هو مزيج من المهرجان السياسي الجدي لتعبئة القاعدة وزيادة حماسها لمرشح الحزب، وكرنفال لآلاف البالونات الملونة، والخطب الرنانة والموسيقى الصاخبة التي يحتفل على خلفيتها كل حزب بنفسه وبإنجازاته وبتفوقه على الحزب الآخر. ويفترض بالمؤتمر، الذي يراقبه الملايين، أن يوحد أجنحة وتيارات الحزب للوقوف وراء المرشح وبرنامجه، وأن يوفر المنبر الوطني للوجوه والقيادات الشابة في الحزب. وسوف ينعقد في الإسبوع المقبل المؤتمر العام للحزب الجمهوري في مدينة كليفلاند بولاية اوهايو والذي سيختار دونالد ترامب مرشحه الرسمي ، ويتبعه بعد إسبوع انعقاد المؤتمر العام للحزب الديموقراطي في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا والذي سيختار هيلاري كلينتون مرشحته الرسمية. وينعقد المؤتمران هذه المرة في مناخ مشحون بالتوترات العنصرية والخلافات السياسية العميقة وعلى خلفية أعمال عنف عنصرية وإرهابية شهدتها البلاد في الأسابيع والأشهر الأخيرة، وعمقت من مشاعر القلق حول مستقبل البلاد، خلال مرحلة حساسة لا تزال فيها الولايات المتحدة متورطة في حربين في افغانستان والعراق، بينما يواجه حلفاؤها في الاتحاد الأوروبي تناقضات داخلية تهدد بتفكيك اتحادهم، وتحديات خارجية من روسيا تهدد مستقبلهم.
تقليديا، يوفر المؤتمر الناجح لمرشح الحزب القاعدة التي ينطلق منها ويفترض أن توفر له الزخم للفوز بالشوط الأخير للوصول إلى البيت الأبيض. ويواصل كل من ترامب وكلينتون البحث عن الشخص المناسب لمنصب نائب الرئيس، الذي يستخدم عادة منبر المؤتمر لتقديم نفسه، أو نفسها للناخبين الأمريكيين. وعادة يقوم مرشح الحزب بعملية توازنات بين الإعتبارات الإيديولوجية، والجغرافية والخبرة السياسية لاختيار نائب الرئيس. وقبل عدة عقود مضت اختار المرشح الرئاسي الشاب جون اف كينيدي من ولاية ماساتشوستس الليبرالية في شمال شرق البلادالسناتور ليندون جونسون الأكبر منه سنا من ولاية تكساس الجنوبية. واختار المرشح المحافظ رونالد ريغان من ولاية كاليفورنيا الغربية والتي حكمها لثماني سنوات والذي كان يفتقر إلى خبرة في العمل في واشنطن، اختار جورج بوش من ولاية كونيتكت في شمال شرق البلاد. وكان بوش يعتبر أقل محافظةً من ريغان، وله خبرة كنائب في الكونغرس ومدير لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) وكسفير لبلاده في الأمم المتحدة، وهي خبرات أراد ريغان الإستفادة منها. واختار المرشح الجمهوري جون ماكين العسكري المتقاعد من ولاية اريزونا حاكمة ولاية الآسكا الشابة سارة بيلين لتنشيط حملته وتعبئة القاعدة المحافظة. واختار المرشح الشاب من أصل افريقي باراك أوباما من ولاية ألينوي السناتور جوزف بايدن من ولاية ديلاوير الصغيرة والأكبر منه سنا. ولكن هذه التوازنات التي سعى اليها المرشحون في السابق قد لا تكون هي المعيار الذي سيستخدمه المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي قاد حملة انتخابية تحدت معظم إن لم نقل كل المقاييس والمعايير التي تحكمت بالحملات الانتخابية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن هنا تأتي صعوبة فهم المقاييس التي سيعتمد عليها ترامب لانتقاء نائبه. وفي الأيام الأخيرة بدأ ترامب عملية تصفية لعدد محدود من المرشحين لمنصب الرئاسة، قبل أن تقول مصادر في حملته إنه قرر اختيار مايك بينس حاكم ولاية انديانا البالغ من العمر 57 سنة . ولبينس مواقف اجتماعية محافظة أكثر من مواقف ترامب، وكان من اللافت أنه انتقد دعوات ترامب لمنع المسلمين من دخول البلاد، كما لا يشاركه في معارضته القوية لاتفاقات التجارة الدولية. ولكن يعتقد أن بينس لن يكون مثيرا للكثير من الجدل السلبي، كما أنه يمكن أن يساعد ترامب في جذب أولئك الناخبين المحافظين الذين لم يكونوا مرتاحين جدا لترشيح ترامب، عدا عن أنه يمكن أن يساعد الحملة في وسط البلاد في الولايات المحيطة بانديانا ومن بينها أوهايو المحورية.
من جهة أخرى من الأسهل التكهن بأن المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون سوف تعتمد على مقاييس التوازنات التقليدية وأبرزها أن يكون نائبها رجلا معتدلا وله خبرة وسمعة جيدة في واشنطن، خاصة وأن كلينتون تعاني من “مشكلة صدقية” كبيرة في أوساط شرائج انتخابية هامة وتحديدا الشباب، الذين أيدوا حملة منافسها اليساري بيرني ساندرز. وتتركز معظم التكهنات على السناتور المعتدل تيموثي (تيم) كاين من ولاية فيرجينيا التي تحتاجها كلينتون للفوز، والذي يتمتع بخبرة تنظيمية وإدارية لأنه خدم قبل ذلك كحاكم ناجح للولاية.
ترامب يتقدم، كلينتون تتعثر
أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أن التقدم الذي كانت تتمتع به هيلاري كلينتون في الاستطلاعات قد تبخر إلى حد كبير في أعقاب تقرير مدير مكتب التحقيقات الفدرالي (الاف بي آي) جيمس كومي والذي وبخ بموجبه هيلاري كلينتون ” واهمالها الكبير” لاعتبارت الأمن القومي بسبب ملكيتها لمحرك خاص بها لبريدها الألكتروني الذي كانت تستخدمه لإرسال واستلام رسائل تتضمن معلومات سرية عندما كانت وزير للخارجية. هذا التقرير الذي عمق من مشاعر الشكوك بصدقية كلينتون في أوساط الناخبين، انعكس على آخر استطلاع للرأي أجرته صحيفة نيويورك تايمز وشبكة التلفزيون سي بي أس، واظهر أن ترامب أصبح متعادلا مع كلينتون حيث حصل كل منهما على تأييد 40 بالمئة من الناخبين. واظهر الاستطلاع أن 67 بالمئة من الناخبين يشككون بصدقية ونزاهة كلينتون. وإذا كان هناك من عزاء لكلينتون في هذا الاستطلاع فهو أن هناك أكثرية من 62 بالمئة تشكك أيضا بصدقية ترامب بسبب ممارساته المهنية المثيرة للجدل ولتقلب مواقفه. وأظهر الاستطلاع حقيقة نافرة ويجب أن تكون مقلقة للحزبين، وهي أن أكثر من نصف الناخبين ينظرون إلى المرشحين نظرة سلبية، وهذه معدلات غير معهودة في السباقات إلى البيت الأبيض.
استطلاعات الرأي التي تجري في هذا الوقت المبكر نسبيا على الصعيد الوطني، تعطينا فكرة عن مزاج الناخب في الوقت الراهن، وهذا المزاج يمكن أن يتغير في الأسابيع والأشهر المقبلة. ولذلك فإن الانتخابات الأهم، هي تلك التي تجري في ما يسمى “ولايات ساحات المعارك” وهي الولايات المحورية ولكن غير المحسوبة بشكل قاطع على هذا الحزب او ذاك، وهي التي تقرر في النهاية من سيفوز في الانتخابات. وهناك ولايات كبيرة وغنية باصواتها في المجمع الانتخابي، ولكننا لا نرى المرشحين يقومون بنشاطات مكثفة فيها، لأن اتجاهات الناخبين فيها بشكل عام معروفة. وعلى سبيل المثال من المتوقع أن تصوت ولاية كاليفورنيا، وهي الأكبر في الاتحاد، للمرشح الديموقراطي، أما ولاية تكساس التي تحتل المركز الثاني بعدد السكان من المتوقع أن تصوت للمرشح الجمهوري. ولذلك تتركز الحملات الانتخابية على الولايات غير المحسومة.
وأظهر استطلاع أجرته جامعة كوينيبياك أن ترامب متعادل أو متفوق وإن بنسب ضئيلة على كلينتون في ثلاث ولايات محورية، ويعتقد أيضا أن افتقار كلينتون إلى الصدقية في نظر العديد من الناخبين هو الذي يفسر أيضا هذا الانحسار في شعبيتها. وأظهر الإستطلاع أن ترامب متقدم على كلينتون بثلاث نقاط في ولاية فلوريدا، وبنقطتين في ولاية بنسلفانيا، وبأنهما متعادلان في ولاية اوهايو. وعند وضع اسم مرشح حزب الأحرار غاري جونسون في الاستطلاع، يتحسن أداء ترامب ليتقدم على كلينتون بخمس نقاط في فلوريدا وبست نقاط في بنسلفانيا وبنقطة واحدة في اوهايو. وأظهر الاستطلاع أن ترامب قادر على تحسين صورته لدى شرائح انتخابية هامة مثل النساء والمستقلين. اللافت هو أنه لم يحدث أن نجح أي مرشح بالوصول إلى البيت الأبيض دون الفوز بولايتين من هذه الولايات الثلاثة، ولذلك سوف نرى نشاطات انتخابية مكثفة لترامب وكلينتون في الولايات الثلاثة خلال الأسابيع المقبلة.
خلافات سياسية واستقطابات عرقية
بعد ثماني سنوات تقريبا من وجود رئيس أمريكي من أصل افريقي في البيت الأبيض، وفي ظل حكومة تضم وزيرة للعدل، ووزيرا للامن القومي من أصول افريقية، لا تزال المسألة العنصرية تخيم بظلالها الثقيلة على المجتمع الأمريكي وتؤثر سلبا وايجابا على سياسات الرئيس وقراراته الداخلية. ومنذ قتل شاب افريقي-أمريكي أعزل على يد شرطي أبيض في مدينة فيرغسون بولاية ميزورى، والعلاقات العرقية في البلاد تتدهور بشكل تدريجي. وفي السنتين الماضيتين قُتل عشرات الشباب السود في ظروف مماثلة. وهناك تظاهرات شبه دورية ينظمها ناشطون يطالبون بتحسين علاقات قوات الشرطة بالمواطنين وبتعديل وتطوير نظام العقوبات الجنائية الذي نتج عنه وجود عدد كبير من السجناء السود في السجون.
وفي الأسبوع الماضي فرضت المسألة العنصرية نفسها على الأمريكيين وبشكل صارخ عندما قام شاب أمريكي-افريقي بقتل خمسة من عناصر شرطة مدينة دالاس، بولاية تكساس. ومرة أخرى وجد الرئيس أوباما نفسه للمرة السابعة عشر على التوالي يتوجه إلى مدينة أمريكية استهدفها العنف الجماعي لحث الشعب على مواجهة أخطار العنصرية. ومع أن الرئيس أوباما قال إن الانقسامات في البلاد ليست عميقة كما يرى البعض، إلا أن الواقع هو أن أكثرية من الأمريكيين تصل إلى 70 بالمئة لديها تقويم قاتم للعلاقات بين البيض والسود، وهو أعلى رقم منذ حوادث العنف والشغب التي وقعت في مدينة لوس انجلس في 1992. وجاء في استطلاع لصحيفة نيويورك تايمز وشبكة التلفزيون سي بي أس أجري بعد أعمال العنف في دالاس، أن 60 بالمئة من الأمريكيين يقولون إن العلاقات العنصرية تزداد سوءا، مقابل 38 بالمئة قالوا الشيء ذاته قبل سنة.
ولا شك أن السجال الانتخابي الراهن ساهم في تأزيم العلاقات والاستقطابات العنصرية والدينية في البلاد، وخاصة مواقف وتصرفات المرشح دونالد ترامب الذي أعلن عن بدء حملته الانتخابية قبل سنة بهجوم شنه ضد المهاجرين والمكسيكيين الذين وصفهم بتجار المخدرات ومغتصبي النساء. ولاحقا بنى ترامب حملته على أسس عنصرية وطائفية وتمييزية شملت دعوته لمنع المسلمين من الحصول على تأشيرات الدخول (الفيزا) لأمريكا، اضافة إلى مواقف تحقيرية للمرأة، وللأقليات بشكل عام، واستخدامه عبارات ملغومة تعكس ميوله الشوفينية والتي تتمحور حول الدفاع عن أمريكا البيضاء. وفي أعقاب عنف دالاس، طرح ترامب نفسه كمرشح يمثل “القانون والنظام” وهي عبارة استعارها من كتاب ريتشارد نيكسون للعمل السياسي، والتي كانت تعني آنذاك التصدي القوي للأقليات وخاصة السود الذين يريدون الإخلال بسلطة القانون والنظام، بحسب هذا التصور.
وينسجم هذا الطرح مع مواقف ترامب المتسامحة أو على الأقل غير النقدية، تجاه العنصريين البيض في البلاد والذين أيدوا حملته لأنه أعطى الشرعية لاستخدام منطقٍ شوفينيٍ منفرٍ حول العلاقات العنصرية في البلاد يرفضه أغلبية الشعب الأمريكي. ترامب قد لا يستخدم عبارات عنصرية نافرة، ولكنه مثله مثل المرشح الرئاسي السابق باتريك بيوكانون يعكس قلق وغضب الرجال البيض وتحديدا ذوي الدخل المحدود والذين فقدوا وظائفهم بسبب اتفاقيات التجارة الدولية والعولمة، والذين يضعون اللوم على المهاجرين والمسلمين وأنهم يخسرون أمريكا لأقليات ليست من أصول أوروبية أو مسيحية.
وما يدعو للقلق هو أن ترامب وبعض أنصاره سوف يستخدمون هذه اللغة والرموز المرتبطة بها من وراء منبر المؤتمر العام للحزب الجمهوري الذي سيشاهده ملايين الأمريكيين. ويُخشى من أن يكون لهذه المواقف مضاعفات سلبية تؤدي إلى أعمال عنف غير مقصودة.