لا يكاد يمر إسبوع دون تذكير الأمريكيين بأن الدورة الانتخابية الحالية هي الأكثر غرابة والأقل شبها بالدورات السابقة، إن كان في طبيعة المرشحين ومواقفهم ومزاياهم الشخصية، أم في اتجاهات الرأي العام وردود فعل ما يسمى بالمؤسسة السياسية التقليدية في واشنطن من العملية الانتخابية. حالة الإحباط العميق التي تعاني منها أكثرية الناخبين من جمهوريين وديموقراطيين، تؤكدها دوريا استطلاعات الرأي، وهذه الحالة تفسر إلى حد كبير ظاهرة بروز مرشحين غير تقليديين هما بيرني ساندرز السياسي المستقل لزمن طويل قبل أن يترشح عن الحزب الديموقراطي، ودونالد ترامب الذي كان يسخر من الحزب الجمهوري ويقول إنه أقرب إلى الحزب الديموقراطي، قبل أن يغير رأيه ويترشح عن الحزب الجمهوري. وخلال هذه الدورة الانتخابية ، وصل استياء الناخبين من الحزبين ومرشحيهم إلى مستويات قل نظيرها منذ الحرب العالمية الثانية، وأصبحت نسبة الناخبين المستقلين وغير المسجلين الأكبر في أي من الحزبين التقليديين. هذا الاستياء العام من الحزبين، دفع بأعداد متزايدة من الأمريكيين في هذا الموسم الانتخابي إلى التأمل بـ “البدائل” التي يمثلها عادة المرشحون عن الأحزاب الثانوية الأخرى، مثل حزب “الخضر” أو “الأحرار” أو “الإصلاح” أو حتى المرشحون المستقلون الذين يتمردون على أحزابهم وينظمون حملات رئاسية “احتجاجية” ضد القيادات التقليدية لهذه الأحزاب، وهي ظاهرة تشهدها البلاد خلال الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.
وتميزت هذه الدورة الانتخابية ببروز ظاهرة دونالد ترامب الغريبة، ونجاحه بفرض نفسه كمرشح عن حزب رئيسي على الرغم من أنه يفتقر إلى أبسط المؤهلات لرئاسة البلاد، وليس أقلها انعدام الخبرة السياسية وكونه لم يُنتخب لأي منصب ولو ثانوي خلال سنواته السبعين، والأهم من ذلك جهله الصارخ بأبسط مقومات الحوكمة بدءا من كيفية صنع القرارات التننفيذية وإقرار مشاريع القوانين في الكونغرس، وعدم إدراكه لأهمية شبكة التحالفات الدولية الاستراتيجية والسياسية التي أقامتها الحكومات الأمريكية المتعاقبة منذ الحرب العالمية الثانية والتي ساهمت في تسهيل الدور الأمريكي القيادي في العالم، فضلا عن ضعف فضوله الفكري والشخصي لمعرفة العالم أو تاريخ الولايات المتحدة واستخفافه بمعرفة الحقائق والتاريخ وهو الذي يفاخر بأنه لا يقرأ الكتب .ويمكن القول أن دونالد ترامب، المرشح الأقل معرفة بالعالم في التاريخ الأمريكي المعاصر والذي يلوح بجهله بنوع من الاعتزاز والكبرياء، قد أوصل المقاييس الرئاسية إلى أدنى مستوياتها منذ بداية نظام الحزبين في الولايات المتحدة في أعقاب انتخاب ابراهام لينكولن في 1860.
جهل صارخ بالعالم وحروبه
كان هذا صحيحا حتى صباح الخميس، حين فقدَ ترامب المرتبة الأولى في نقص المعرفة والاطلاع إلى غاري جونسون مرشح حزب الأحرار Libertarian Party والحاكم الجمهوري السابق لولاية نيومكسيكو، والذي تبين استطلاعات الرأي أن نسبة التأييد الشعبي له في الانتخابات الحالية تتراوح بين ثمانية و10 بالمئة . وأظهرت ثلاثة كلمات تفوه بها جونسون في لقاء تلفزيوني ضعفه السافر بما يحدث في العالم، ومثلت صعقة للأوساط السياسية والاعلامية في واشنطن مهددة بتقوض حملته بالكامل، ولكنها كانت أهم من ذلك بكثير لأنها بالفعل عكست حالة عدم اكتراث لدى شريحة من الشعب الأمريكي، وفي واشنطن بالتحديد، لما يجري في العالم، ورغبة “بالانسحاب” من الشرق الأوسط ومعضلاته المتشعبة. “ما هي حلب”، كان السؤال الذي طرحه جونسون على اعلامي سأله عما يمكن أن يفعله بشأن حلب في حال انتخابه رئيسا للبلاد. وبعد أن أوضح له الاعلامي أن حلب تقع في سوريا وأنها في جوهر أزمة اللاجئين، تقدم جونسون بجواب مبهم حول ضرورة التعاون الأمريكي-الروسي لمعالجة الأزمة السورية. وكشف جونسون عن ضعف اطلاعه بمجريات الحرب الطاحنة في سوريا، خصوصا حين اتهم حكومة الرئيس أوباما بالسعي إلى “تغيير النظام ” في دمشق. وبدا جهل جونسون بالعالم أسوأ من جهل ترامب الذي يباهي بالقول بأنه يحصل على معلوماته من البرامج التلفزيونية. ويبدو أن جونسون لا يراقب حتى برامج الاخبار التفزيونية، أو ربما أنه لا يقرأ الصحف أو المدونات المعروفة؟ علما أنه قد أكد في مقابلات أخرى أنه عادة لا يقرأ الكتب. ولكن اللافت في موقف جونسون هو أن عدم معرفته بالعالم الخارجي، أو غياب فضوله بالتعرف على الأزمات التي تمس ولو بشكل غير مباشر بمصالح وأمن الولايات المتحدة، ينسجم إلى حد كبير مع مواقف المرشحين المستقلين، أو الذين يمثلون الأحزاب الصغيرة، والذين يميلون تقليديا إلى رفض التدخل العسكري في الخارج، ويميلون إلى الإنعزالية بشكل عام.
ما هو غاري جونسون؟
وتلقفت وسائل الاتصال الاجتماعي سؤال جونسون “ما هي حلب”، وحولته بسرعة هائلة إلى سؤال “ما هو جونسون”، في مؤشر على أن أكثرية الأمريكيين لا تعرف من هو هذا المرشح أو الحزب الذي ينتمي له. أما جيل ستاين مرشحة حزب الخضر فهي الأخرى ليست بأحسن حالا من جونسون حيث تعطيها استطلاعات الرأي حوالي ثلاثة بالمئة من التأييد الشعبي. الطروحات الداخلية لجونسون ونائبه بيل ويلد الحاكم الجمهوري السابق لولاية ماساتشوستس بسيطة وهو يلخصها بالشكل التالي “محافظون في القضايا المالية، وليبراليون في القضايا الاجتماعية، وهذا ما يريده أكثرية الشعب الأمريكي…” وتهدف هذه الصيغة إلى جذب الناخبين المستقلين وخاصة أولئك الذين كانوا يميلون في السابق إلى الحزب الجمهوري قبل أن تسيطر عليه قيادة محافظة للغاية. ولكن تمسك، لا بل تعصب جونسون للتعديل الثاني في الدستور الأمريكي والذي يعطي المواطن حق اقتناء الأسلحة النارية، يجذب شريحة من الناخبين الجمهوريين، وكذلك الايديولوجية الانعزالية التي تريد ابعاد أمريكا عن مشاكل العالم، وترفض ما تقول إنه دور “شرطي العالم” الذي تلعبه أمريكا، وتدعو إلى انسحاب سريع من الحروب التي بدأها الرئيس جورج بوش الأبن. ولمرشحة حزب الخضر مواقف مماثلة، وإن كانت تركز أكثر على خلق اقتصاد جديد لا يعتمد على مصادر الطاقة التقليدية من نفط وفحم بل على الطاقة الشمسية والرياح.
والتحدي الكبير الذي يواجهه جونسون ونائبه ويلد هو الحصول على تأييد 15 بالمئة من الناخبين، لكي يصبح جونسون مؤهلا للمشاركة في المناظرات الرئاسية الثلاثة، والتي ستبدأ اولها في 26 من الشهر الجاري. ويقول جونسون أن الطريق إلى البيت الأبيض سيبقى مسدودا في وجهه إذا لم يشارك في المناظرات. ويؤكد انتشار سؤال “ما هو غاري جونسون” كلام جونسون نفسه في هذا الصدد.
ثبات التقليد وهشاشة التحدي
لم يحدث ابدا أن نجح مرشح لحزب ثالث أو مستقل بالوصول إلى البيت الأبيض. والتركيبة السياسية الأمريكية والتقاليد الحزبية، والقوانين التي تتحكم بالانتخابات، وتحديدا الانتخابات الرئاسية، بما فيها آلية المجمع الانتخابي تجعل فوز المرشح المستقل أو ممثل حزب صغير لا قاعدة جغرافية له، أمرا شبه مستحيل. (الفوز بأكثرية التصويت الشعبي في الولاية يعني حصول المرشح على أصوات مندوبيها في المجمع الانتخابي والذي يتطابق مع عدد ممثلي الولاية في مجلس النواب (وفقا لعدد السكان) اضافة إلى عضوي مجلس الشيوخ الذين يمثلون كل ولاية بغض النظر عن عدد سكانها).
وفي القرن الماضي ترشح عدد من المستقلين أو ممثلي الأحزاب الصغيرة، وكان لبعضهم أثر هام على نتائج الانتخابات، ولكن معظمهم أخفق في الحصول على أكثر من خمسة بالمئة من أصوات الناخبين. ومنذ عام 1980 لم يحصل أي من مرشحي الأحزاب الصغير أو المستقلين على أي اصوات في المجمع الانتخابي، على الرغم من أن مرشح حزب الإصلاح رجل الأعمال روس بيرو في 1992 فاز بـ 19 بالمئة من أصوات الناخبين. وبما أن بيرو جذب إلى حملته ملايين الناخبين الذين ربما كانوا قد صوتوا للرئيس جورج بوش الأب، لو لم يكن هو في السباق، الأمر الذي تسبب في نجاح المرشح الديموقراطي أنذاك بيل كلينتون. هذه الحقيقة هي في صلب مخاوف العديد من الناخبين غير المتحمسين لهيلاري كلينتون أو دونالد ترامب والذين يقولون أنهم إذا صوتوا للمرشح المستقل أو ممثل حزب الأحرار أو الخضر في هذه الدورة الانتخابية، فأنهم سوف يساهمون في فوز كلينتون، أو في فوز ترامب، وليس في فوز مرشحهم.
ويعتبر ثيودور روزفلت أهم مرشح لحزب ثالث في تاريخ الانتخابات الأمريكية، وذلك عندما ترشح عن الحزب التقدمي في 1912 ليتعرض إلى هزيمة ساحقة على يد المرشح الديموقراطي وودرو ويلسون، بعد فوزه بأكثر من 16 بالمئة من أصوات الناخبين. وفي 1968 ساهم المرشح المستقل جورج والاس بشكل غير مباشر في وصول المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون إلى البيت الأبيض بعد هزيمة المرشح الديموقراطي هيوبرت همفري. وبما أن والاس الذي كان يدعو إلى التفرقة العنصرية والذي كانت له قاعدة شعبية في بعض الولايات الجنوبية المحتفظة، فقد نجح في الحصول على أصوات المجمع الانتخابي في خمس ولايات جنوبية. ولأنه جذب اليه أصوات ناخبين ديموقراطيين في هذه الولايات، (معظم الولايات الجنوبية كانت تحت سيطرة الحزب الديموقراطي قبل انتخاب ليندون جونسون) فقد ساهم في هزيمة المرشح الديموقراطي هيوبرت همفري.
يعاني المرشح المستقل من انعدام وجود “ماكينة” حزبية تنشط في جميع الولايات، كما يفتقر عادة إلى الموارد المالية، وباستثناءات قليلة لا يحظى بتغطية اعلامية كافية أو منصفة، وهذا هو الحال في الدورة الانتخابية الراهنة حيث تتجاهل وسائل الاعلام الرئيسية هؤلاء المرشحين. ولكن على الرغم من اخفاق المرشحين المستقلين أو ممثلي الأحزاب الصغيرة في الوصول إلى البيت الأبيض إلاّ أن ذلك لا يعني أن جهودهم عبثية. المرشحون المستقلون، وعادة ما يُرغم هؤلاء قادة الحزبين الرئيسيين على التعامل مع طروحاتهم بجدية خلال الأزمات الحادة.
وإذا حدث وأن تحدى مرشح مستقل الحزب الذي كان ينتمي اليه في السباق (مثل غاري جونسون الجمهوري السابق) نرى أن الحزب أما يقوم “بسرقة” طروحات المرشح المستقل أو استيعابها وتعديلها بعض الشيء الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى التخلص من هذه الظاهرة. وقامت هيلاري كلينتون في الدورة الحالية، وهي تمثل التيار الوسطي في الحزب الديموقراطي، او ما يسمى “المؤسسة التقليدية” للحزب بالاقتراب أكثر من الطروحات التقدمية أو اليسارية التي طرحها منافسها بيرني ساندرز، لأنها أدركت أنها إذا لم تفعل ذلك فأنها يمكن أن تخسر الانتخابات أو أن تبعد شريحة هامة من الناخبين الذين انضموا إلى حملة ساندرز. وحتى الأن لم ينجح أي مرشح مستقل، أو مرشح حزب صغير بطرح صيغة سياسية جذابة، وبناء آلية انتخابية تتخطى شخصه، ويمكن أن تبقى قابلة للحياة بعد رحيله أو بعد هزيمته.
المفارقة هي أنه على الرغم من الاستياء العام لأكثرية الناخبين، وهم من المستقلين، من نظام الحزبين، وخاصة في الدورات الانتخابية التي تفرض عليهم مرشحين غير جذابين، كما هو الحال في الحملة الانتخابية الراهنة، الا أن نظام الحزبين لا يزال على الرغم من تصدعه، صامدا وثابتا في وجه محاولات المرشحين المستقلين في اختراقه وتقويضه.