ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
قبل أن تجف دماء قتلى مجزرة اورلاندو، بولاية فلوريدا، استغل المرشح المفترض للحزب الجمهوري دونالد ترامب أسوأ حادث قتل جماعي في تاريخ الولايات المتحدة يقوم به فرد واحد، ليهنيء نفسه على مواقفه العدائية للمسلمين، ولكي يقول لمنتقديه الكثر: لقد حذرتكم ولكنكم لم تتعظوا. ومنذ الكشف عن هولها، طغت هذه المأساة بظلالها الثقيلة على السجال الإنتخابي في البلاد، ومع كل كلمة نطق بها ترامب، ومع كل مهرجان إنتخابي عقده هو أو منافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون، ازداد المشهد الإنتخابي بشاعة وسريالية وغرابة، وازدادت وتيرة انحداره إلى مستويات مقلقة وصلت إلى حد اتهام ترامب للرئيس أوباما بالتعاطف مع الإرهابيين. وبدلا من مناقشة ما أبرزته المجزرة من تحديات داخلية وخارجية : سبل مكافحة تنظيم “الدولة الإسلامية” ، ورصد ما يسمى “الذئاب الوحيدة”، وسهولة اقتناء الأسلحة النارية، تحول الخطاب الإنتخابي إلى تراشق للتهم بين ترامب الذي شكك بولاء الرئيس أوباما والمرشحة هيلاري كلينتون لأميركا، واللذين ردا باتهامه بالتحريض على المسلمين وممارسة سياسة التخويف وشيطنة الذين يخالفونه الرأي، فضلا عن التشكيك بقدراته على فهم القضايا المعقدة وافتقاره للمؤهلات لقيادة البلاد.
لقد راقبت وغطيت الإنتخابات الأميركية منذ سبعينات القرن الماضي، وبعضها كان شيقا ومثيرا للجدل، ولكنني لم ار مثيلا لهذا الموسم الإنتخابي، وتحديدا للسباق الجمهوري إلى البيت الابيض. وإذا اعتبرنا الحملة الجمهورية مسرحية كوميدية- تراجيدية وبطلها ليس قطعا شخصية مأساوية، يمكننا أن نتوقف أمام بعض المشاهد الغريبة المتلاحقة بسرعة أمامنا لدرجة يصعب علينا أحيانا أن نستوعبها بالكامل. المشهد الأول : أول رد فعل لدونالد ترامب كان نرجسيا ولم يعكس أي تعاطف حقيقي مع ضحايا المجزرة، وكان بشكل تغريدة شكر فيها الذين قدموا له التهاني لأنه كان ثاقب البصيرة حين تحدث عن خطر الإسلاميين المتطرفين. وبعدها بدأ ترامب الإيحاء والتلميح والغمز بأن أوباما ربما لديه تعاطف مكبوت مع الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين. المشهد الثاني: هجوم علني ومنسق شنهّ الرئيس أوباما وهيلاري كلينتون وشخصيات ديموقراطية أخرى فندوا فيها بالتفصيل ادعاءات واتهامات وجهل ترامب بالحقائق وتلاعبه بالأرقام، مثل قوله أن عشرات اللآلاف من اللاجئين السوريين دخلوا البلاد، بينما الواقع هو انه تم استيعاب 2805 لاجئ سوري فقط من العدد الذي حدده الرئيس اوباما في السنة المالية الراهنة، أي 10 الاف لاجئ.
وادعى ترامب أن عمر متين المسؤول عن مجزرة اورلاندو “أفغاني” على الرغم من أنه من مواليد نيويورك، من أبوين أفغانيين . ترامب لا يرى أن هناك مفارقة صارخة في دعوته لمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة. وأذا وضعنا جانبا أن هذا الموقف يتعارض مع الدستور الذي لا يميز على أساس الدين، عدا عن كونه موقف غير أخلاقي، فإن الإرهاب الذي مارسه البعض ولفوا أنفسهم بغطاء إسلامي في الولايات المتحدة منذ هجمات أيلول/سبتمبر 2001 ولدوا في الولايات المتحدة ولم يأتوا لأميركا كمهاجرين او لاجئين. وهذا صحيح بالنسبة للضابط نضال حسن المولود في ولاية فيرجينيا والمسؤول عن قتل 13 زميلا له في 2009 في قاعدة فورت هود، والداعية أنور العولقي المولود في ولاية نيومكسيكو والذي كان مسؤولا عن تجنيد إرهابيين في اليمن لصالح تنظيم القاعدة (قتل بطائرة دون طيار في 2011) والسيد رضوان فاروق المسؤول عن قتل 14 من زملائه في العمل (مع زوجته) مولود في مدينة شيكاغو بولاية ألينوي. هل سيبني دونالد ترامب جدارا ألكترونيا يحمي الأميركيين من تأثير “الكتائب الألكترونية” التابعة لتنظيم ما يسمى “الدولة الإسلامية” (داعش) أو من أخطار وسائل التواصل الإجتماعي ؟
المشهد الثالث: هو إما الصمت المطبق من قيادات الحزب الجمهوري مع امتعاضهم الواضح لتصريحات ترامب حول الرئيس أوباما ومجزرة اورلاندو، أو انتقاد بعضهم له، وإن كان الإنتقاد ضعيفا أو خجولا. رئيس الأغلبية الجمهورية السناتور ميتش ماكونال رفض التعليق على تصريحات ترامب وإن كان من الواضح أنه يرفضها. رئيس مجلس النواب بول رايان تهرب أولا من التعليق، ولكنه اضطر لاحقا للقول أن فرض الحظر على المسلمين ” لا يعكس مبادئنا”، بينما رأى السناتور الجمهوري رون جونسون أن اتهامات ترامب لأوباما ” مهينة”.
المشهد الرابع هو الأكثر سريالية: المرشح المفترض للحزب الجمهوري، وقبل أسابيع قليلة من انعقاد المؤتمر العام للحزب الذي سيتوجه رسميا مرشح الحزب ورئيسه، طالب قادة الحزب بالصمت الا إذا اعربوا عن تأييدهم له، وهددهم ضمنا بأنه لا يحتاج اليهم للفوز بالرئاسة. ما قاله ترامب للقادة الجمهوريين له بعد ترفيهي ولكن أيضا له بعد اوتوقراطي وترهيبي :”اسكتوا. ارجو أن تسكتوا ولا تتكلموا، فقط اسكتوا. يجب أن تكونوا أقوى، وأكثر حدة وأكثر ذكاء. ويجب أن يتوحد الجمهوريون، والا فعليهم أن يتركوني اتصرف لوحدي”. ما فعله ترامب لم يفعله من قبل أي مرشح عن حزب رئيسي، لأن المرشح لا يمكن أن يفوز بالرئاسة دون دعم حزبه وتمويله والإعتماد على ماكينته الإنتخابية وخاصة في الولايات المحورية، أو ما تسمى ولايات ساحات المعارك، والتي تتطلب فيها الإنتخابات تخصيص ميزانيات مالية كبيرة والكثير من المتطوعين. اللافت في مواقف وتصرفات ترامب هي أنها تأتي على خلفية اتساع الهوة بينه وبين كلينتون في أكثرية استطلاعات الرأي التي أظهرت أن كلينتون متقدمة بنسبة 5 نقاط على ترامب في 11 ولاية تعتبر محورية للفوز بالإنتخابات. وفي آخر استطلاع لمؤسسة بلومبيرغ تفوقت كلينتون على ترامب بأثنتي عشرة نقطة. ولا يكتفي ترامب بشن الهجمات الدونكيخوتية العبثية على خصومه السياسيين حتى داخل حزبه، ولكنه يواصل هجماته المسعورة ضد وسائل الإعلام وآخرها منع صحيفة واشنطن بوست من تغطية حملته، لأن مراسلة تغطي حملته قالت إنه ادلى بتصريحات تشير ضمنا إلى أن أوباما متعاطف مع الإرهابيين الإسلاميين، وهو الموقف ذاته الذي اعتمده ترامب لاحقا في إحدى تغريداته. لقد فسر البعض تصعيد ترامب لهجماته ضد المسلمين في اعقاب مجزرة اورلاندو بالعودة إلى سياسة التخويف وشيطنة الآخرين لاستغلال المخاوف الشرعية عقب المجزرة. وبغض النظر عما إذا كان ترامب يدرك أو لا يدرك أن مواقفه التحريضية والإستفزازية والعنصرية – والتي لا مثيل لها منذ حملات المرشح العنصري جورج والاس حاكم ولاية الاباما في ستينات القرن الماضي- فإنها يمكن أن تؤدي إلى التسبب ليس فقط في تأجيج المشاعر العنصرية والشوفينية في البلاد، بل ربما في حدوث أعمال عنف مرتبطة بالإنتخابات. وترامب لا يريد أن يعترف، أو ربما ليس قادرا على استيعاب الحقائق الديموغرافية والتحولات الإجتماعية والثقافية والقيمية الجديدة في البلاد، والتي عززت من قبول مفاهيم التعددية، وأن أميركا اليوم ليست أميركا “البيضاء” قبل نصف قرن، وأنها انتخبت (مرتين) رجلا والده من كينيا اسمه باراك حسين اوباما، وربما ستنتخب أول أمرأة في تاريخ البلاد في نوفمبر المقبل، وبأنها لا تسمح الآن بالتمييز ضد المثليين، ولا تقبل بشيطنة أتباع ثاني أكبر دين في العالم، أو أن البيض في البلاد خلال بضعة عقود سيمثلون فقط نصف سكان أميركا. هناك في الحزب الجمهوري من يشارك ترامب في مواقفه، ولكنهم نادرا ما يعبرون عنها بمثل فظاظته وعنصريته.
ما يفعله ترامب، لم يفعله من قبل أي مرشح لأي من الحزبيين الرئيسيين في البلاد. وبينما بنت هيلاري كلينتون ماكينة إنتخابية ضخمة تدعمها ميزانية كبيرة، ومئات الموظفين والآف المتطوعين، فإن ترامب لديه بنية إنتخابية صغيرة للغاية وغير فعالة ربما لأنه يعتقد أن شخصيته ونجوميته كافية لإيصاله إلى البيت الأبيض. وهو حتى الآن أخفق في جذب أي شخصية سياسية أو إقتصادية أو عسكرية معروفة أو محترمة إلى حملته. استمرار ترامب في مواقفه المسعورة والمتهورة قد خلق ما يشبه بحالة الرعب في أوساط قيادات الحزب الجمهوري وحملة مضادة له من قبل كبار المعلقين المحافظين لأن هؤلاء يتخوفون من أن تؤدي هزيمة ترامب في الإنتخابات الرئاسية أما إلى تقسيم الحزب الجمهوري في أحسن الحالات، أو الأسوأ جر الحزب ومرشحيه للكونغرس ولحاكمية الولايات إلى الهاوية.