قبل أسبوع من أول جولة خارجية له في الشرق الأوسط وأوروبا، صدم الرئيس دونالد ترامب الأوساط السياسية والقضائية في البلاد حين أقال جيمس كومي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) من منصبه، بسبب إصرار الأخير على مواصلة التحقيق بالتدخل الروسي في انتخابات الرئاسة، واحتمال تورط مقربين من المرشح والرئيس ترامب نفسه بالتدخل الروسي. وهكذا، وبقرار واحد عمق ترامب الاستقطابات في البلاد، وأحرج مرة أخرى بعض القيادات الجمهورية في الكونغرس، ودخل تلك المنطقة الرمادية التي تسمح توجيه اتهامات له بإساءة استخدام صلاحياته الدستورية، واستعادة أصداء فضيحة ووترغيت في فترة الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون، ومناخ الترهيب الذي صاحبها. هذه كانت إنجازات دونالد ترامب في أقل من أسبوع. وتبعا لذلك صعدّ مسؤولون في البيت الأبيض بشكل صارخ ونوعي من أساليب التضليل والتحوير والترهيب والكذب العاري في تبريرهم لمواقف وقرارات الرئيس ترامب المتهورة.
وبدلا من أن يقضي ترامب وقته في دراسة ملف النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتعقيدات المواجهة الإقليمية بين إيران وبعض دول الخليج العربية، وغيرها من القضايا التي سيواجهها خلال جولته الخارجية مثل تعزيز قدرات حلف الناتو، أمضى ترامب أيامه الأخيرة في مبارزات دونكيشوتية مع أعداء وهميين، فضلا عن آخرين حقيقيين، يستنزفون وقته وطاقاته وتفكيره، ويراهم يحيطون به في كل مكان: المؤسسات الحكومية، الكونغرس، الاعلام، والقضاء. إقالة كومي، وتهور ترامب وميله لتجاهل الأعراف دفع ببعض الحقوقيين للتساؤل عما إذا كانت البلاد مقبلة على أزمة دستورية مماثلة لتلك التي عصفت بالبلاد في أعقاب فضيحة ووترغيت في بداية سبعينات القرن الماضي.
تصرفات وتغريدات وتصريحات ترامب في الأيام القليلة الماضية، أكدت مرة أخرى خطأ تمنيات وتوقعات بعض مؤيديه الذين أقنعوا أنفسهم بأن متطلبات وتحديات البيت الأبيض ستدفع بترامب للتصرف بطريقة مسؤولة أكثر، وأنه سيدرك مع الخبرة ومرور الوقت أن الرئيس الأمريكي لا يستطيع أن يحكم بالفرمانات بل أن يقبل بتقاسم السلطات وحكم القانون، وأنه لا صوت يعلو فوق صوت الدستور الذي يبدأ بعبارة “نحن شعب الولايات المتحدة…”. أنصار الرئيس ترامب الذين يبحثون له عن أعذار، أغلبها تبدو غريبة وغير مقنعة، بعد كل عمل مثير للجدل يقوم به، يدّعون دائما أنه رئيس “غير تقليدي” أو “غير ارثوذوكسي” ولا يتردد “بعرقلة” المألوف الآسن. هذا صحيح، ولكن ليس كما يعتقد المهللون لترامب. في حقيقة الأمر، فإن الغطرسة هي السبب التي تجعله يبدو غير تقليديا، فهو يعتقد أنه أذكى من مستشاريه الذين نادرا ما يستشيرهم قبل إطلاق تغريداته النافرة، وقبل احراجهم علنا من خلال نقض وتقويض تأكيداتهم العلنية، ولأنه لا يتورع عن انتهاك استقلالية مؤسسات هامة مثل أف بي آي، ولأنه لا يتردد في الانتقام من الذين يرفضون تقديم الولاء الأعمى، كما فعل جيمس كومي.
بدأ الأسبوع بشهادة أدلت بها يوم الاثنين سالي ييتس وزيرة العدل المؤقتة بعد انتهاء ولاية الرئيس أوباما، أكدت فيها أنها أبلغت محامي البيت الأبيض دونالد ماغان في 26 يناير أن مستشار الأمن القومي السابق الجنرال المتقاعد مايكل فلين قد أجرى اتصالات مع السفير الروسي في واشنطن سيرغي كيسلياك تطرق فيها إلى مسألة العقوبات التي فرضها الرئيس السابق أوباما في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، ضد روسيا بسبب تدخلها في الانتخابات، وهي اتصالات كّذّب فلين على نائب الرئيس مايك بنس بشأنها. اللافت في شهادة ييتس هو أن البيت الأبيض لم يتحرك لمحاسبة أو إقالة فلين خلال 18 يوما، وأنه تحرك فقط بعد أن كشف الاعلام عن هذه الاتصالات، الأمر الذي أرغم ترامب على إقالة فلين. في اليوم التالي لهذا اللقاء أقال ترامب ييتس من منصبها لأنها رفضت تطبيق قراره التنفيذي الأول المتعلق بحظر دخول رعايا سبع دول ذات أكثرية مسلمة إلى الولايات المتحدة.
وبعد ظهر الثلاثاء صعق ترامب الشعب الأمريكي بالإعلان عن إقالة جيمس كومي، الذي يشرف على التحقيق الذي يقوم به أف بي آي بالتدخل الروسي في انتخابات الرئاسة والذي يشمل من جملة ما يشمله ما إذا كان لترامب شخصيا علاقات مالية مع الأوليغارشية الروسية، وهو أمر ينفيه ترامب دائما، في الوقت الذي يدعو فيه إلى وقف هذه التحقيقات التي يدعي أنها مفبركة أو مهزلة.
وإذا كانت إقالة كومي غريبة، فإن تبرير الإقالة أغرب. في البداية قال المسؤولون إن ترامب أقال كومي بسبب توصية وزير العدل جيفري سيشن ونائبه رود روزينستين الذي كتب مذكرة من ثلاث صفحات أوضح فيها ما اعتبره أخطاء كومي وخاصة في قضية التحقيق بالبريد الالكتروني لهيلاري كلينتون. وقام المسؤولون عن الاعلام في البيت الابيض وغيرهم مثل نائب الرئيس مايك بنس بالقول إن طرد كومي يعود فقط لمعالجته الخاطئة لقضية البريد الالكتروني لكلينتون، ولأنه لم يوصل بمحاكمتها، وليس لأي أسباب سياسية أخرى وأنه لا علاقة للتحقيق بالتدخل الروسي بالإقالة. المسؤولون في البيت الأبيض رسموا صورة قاتمة لمعنويات الموظفين في أف بي آي، وهو أمر نفاه نائب كومي. ولكن التقارير الصحفية التي عقبت الإقالة نسبت إلى مصادر عديدة قولها أن ترامب الذي كان غضبه تجاه كومي يزداد مع مرور كل يوم، والذي لم يثق به منذ انتخابه، قد قرر إقالته، وأنه طلب من وزارة العدل أن توفر له الأسباب الموجبة. طبعا، لم يصدق أحد أن ترامب يريد معاقبة كومي لأنه أساء التحقيق بقضية البريد الالكتروني لكلينتون بعد أكثر من ستة أشهر على إغلاق ذلك الملف.
أحد أهم المشاهد غرابة في الأسبوع المنصرم كان في البيت الأبيض، عندما استقبل ترامب وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، الذي جلب معه سفير روسيا في واشنطن سيرغي كيسلياك. ويعتبر كيسلياك الرجل المركزي الذي التقى بالمقربين من ترامب مثل مايكل فلين، جيفري سيشن عندما كان أحد أعضاء مجلس الشيوخ، الذي عينه ترامب لاحقا وزيرا للعدل. وقبل الاجتماع سخر لافروف علنا من إقالة كومي أمام الصحافيين الأمريكيين. وتعرض البيت الأبيض لإحراج لاحقا حين تبين أن الروس جلبوا معهم مصورا التقط صورا أظهرت الحفاوة التي استقبل بها ترامب الوفد الروسي، بعد عرض الصور في موسكو، الأمر الذي أثار استياء وسخط الإعلاميين الأمريكيين، لأن البيت الأبيض منعهم من التقاط أي صور.
تناقضات وتغريدات
ولكن الرئيس ترامب قرر يوم الخميس أن يقوض الحجة الأساسية لإقالة كومي والتي يرددها المسؤولون بمن فيهم نائبه بينس على مدى يومين، حين قال يوم الخميس في مقابلة تلفزيونية إنه كان يعتزم طرد كومي بغض النظر عن أي توصيات من وزارة العدل. وصدم ترامب الأمريكيين مرة أخرى، حين أكد أن السبب الحقيقي لطرد كومي هو إصراره على مواصلة التحقيق بالتدخل الروسي. وقال في مقابلته مع شبكة التلفزيون أن بي سي “عندما قررت (طرد كومي) قلت لنفسي، إن الرواية حول روسيا وعلاقتها بترامب هي رواية ملفقة، وهي عذر للديمقراطيين لأنهم خسروا انتخابات كان يفترض أن لا يخسروها”.
تأكيدات ترامب هذه نسفت كل ادعاءات البيت الأبيض ليومين ونسفت معها صدقية المسؤولين الآخرين بمن فيهم نائبه بنس. ولم يخف ترامب غضبه تجاه كومي خلال المقابلة ورغبته باهانته حين وصفه بأنه رجل يحب الأضواء وجذب الاهتمام لنفسه. المفارقة هي أن هذه الأوصاف تستخدم عند الحديث عن شخصية ترامب. وقال ترامب في المقابلة إنه دعا كومي إلى عشاء خاص في البيت الأبيض فور انتخابه، وسأله عما إذا كان ملف التحقيق يشمل الرئيس أيضا، وادعى أن كومي أكد له أن التحقيق ليس له علاقة مباشرة بشخص الرئيس، وهو ادعاء باطل ويناقض تصريحات كومي العلنية. وأثار كلام ترامب الدهشة والاستياء، لأنه لا يفترض بالرئيس أن يتدخل في أي تحقيق مستقل يقوم به أف بي آي، ولأنه لا يفترض بمدير مكتب التحقيقات أن يناقش مع الرئيس تفاصيل أي تحقيق. وسارع العديد من الذين عملوا مع كومي في السابق إلى التأكيد بأنه لا يمكن لكومي أن يناقش مثل هذه القضايا مع ترامب. ووفقا لصحيفة نيويورك تايمز التي تحدثت مع مقربين من كومي، طلب ترامب من كومي خلال العشاء أن يتعهد له بالولاء. ولكن كومي رفض ذلك، ووعد فقط بأن يكون صادقا مع الرئيس.
ومرة أخرى فاجأ ترامب، أو ربما الأصح أن نقول صعق، الأمريكيين صباح الجمعة في طلقات متلاحقة من التغريدات المثيرة للتساؤل والاستهجان، حين وجه ما اعتبره الكثيرون تهديدا لجيمس كومي، حين قال في إحدى تغريداته “من الأفضل لجيمس كومي أن يأمل بعدم وجود “أشرطة” لمناقشاتنا، قبل أن يبدأ بالتسريب لوسائل الاعلام”. طبعا، حديث ترامب عن أشرطة وتسجيلات صوتية للمكالمات في البيت الأبيض، ذّكر الأمريكيين آخر مرة بفضيحة ووترغيت والتي كانت أشرطة التسجيل التي رفض الرئيس الراحل نيكسون تسليمها للقضاء من بين الأسباب التي دفعته لاحقا للاستقالة. لاحقا رفض ترامب في مقابلة مع شبكة التلفزيون فوكس نيوز الحديث عن مسألة تسجيل حديثه مع كومي، كما رفض الناطق باسم البيت الأبيض شون سبايسر تأكيد أو نفي وجود أجهزة لتسجيل المكالمات والمناقشات في البيت الأبيض (عادة يتم تسجيل المكالمات الهاتفية للرئيس الأمريكي مع أي رئيس أو زعيم آخر) ولكن منذ فضيحة ووترغيت لم يقم أي رئيس آخر بتسجيل مكالماته او احاديثه مع الآخرين في البيت الابيض. واذا تبين بالفعل أن ترامب سجل الحوار بينه وبين كومي خلال ذلك العشاء، فإن هذا سيكون سابقة صارخة، لأنه تبين أن الرئيس الأمريكي لا يثق مسؤول أمريكي بارز هو مدير أف بي آي.
وحتى قبل الإشارة إلى تسجيل المكالمات والأشرطة، قام بعض الصحافيين والمحللين بمقارنة طرد ترامب لجيمس كومي، بطرد الرئيس نيكسون في 1973 للمدعي الخاص في الفضيحة أرشيبالد كوكس. وكان نيكسون آنذاك مستاء من كوكس الذي كان يسعى للحصول على أشرطة تسجيل المكالمات التي كان يحتفظ بها نيكسون لمعرفة مدى تورط الرئيس بالتغطية على فضيحة التجسس على مقر الحزب الديمقراطي في مبنى ووترغيت (الجرم الأولي في الفضيحة، والذي شارك نيكسون في محاولة التغطية عليه). وقرر نيكسون مساء السبت المصادف 20 تشرين الأول/أكتوبر 1973 طرد كوكس. ولكن المسؤول الذي يملك صلاحيات طرد كوكس، أي وزير العدل أليوت ريتشاردسون رفض تنفيذ أوامر نيكسون، وقرر الاستقالة. ولكن نائب ريتشاردسون، وليام راكلزهاوس أيضا رفض تنفيذ أوامر نيكسون وقدم استقالته. ولكن المسؤول الثالث في الوزارة روبرت بورك، وافق على طرد كوكس، في ما عرف باسم “مذبحة مساء يوم السبت”، والتي أصبحت من أهم العبارات في تاريخ الفضائح الأمريكية.
لا أحد يعلم بثقة ما إذا كان الرئيس دونالد ترامب يسير بالفعل على الطريق الذي فتحه قبله ريتشارد نيكسون، ولكن مما لا شك فيه أن ميل ترامب إلى الاستهتار بالأعراف السياسية وحتى بالدستور وغطرسته في التعامل مع الأجهزة والسلطات الأخرى قد تدفعه إلى انتهاكات نافرة أكثر لصلاحياته، الأمر الذي قد يخلق أزمة دستورية، وهذا بدوره قد يدفع بالمشرعين في الكونغرس للبحث الجدي في إمكانية محاكمته.