ازداد السباق الجمهوري إلى البيت الأبيض ازدحامًا هذا الأسبوع بعد أن انضم إليه نائب الرئيس السابق مايك بينس وحاكم ولاية نيوجيرسي السابق كريس كريستي، وحاكم ولاية نورث داكوتا دوغلاس بورغوم، وهو من المرشحين المغمورين، ليزيد عن عشرة مرشحين، مع احتمال دخول مرشحين آخرين في الأسابيع المقبلة. الرئيس السابق دونالد ترامب الذي رشح نفسه لولاية ثانية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 لا يزال متقدمًا، وبمسافة كبيرة، على جميع المرشحين الأخرين، بمن فيهم حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتس، الذي كان يُعتَقد قبل أشهر أنه مؤهل أكثر من غيره لخلافة ترامب على زعامة الحزب الجمهوري.
يشكل انضمام مايك بينس للسباق سابقة لافتة، لأنها المرة الأولى التي يتحدى فيها نائب رئيس الرئيس الذي خدم في ولايته، وكان وفيًا له ولسياساته على مدى أربع سنوات. هذا الولاء انتهى بشكل صارخ في السادس من يناير/كانون الثاني 2021، حين اقتحم مئات المتطرفين والمتشددين الموالين لترامب مبنى الكابيتول لعرقلة تصديق الكونغرس على انتخاب جوزيف بايدن رئيسًا للولايات المتحدة، خلال عملية دستورية كان يشرف عليها، نائب الرئيس مايك بينس. منذ ذلك اليوم الدموي، بدأ بينس باتهام ترامب علنًا وصراحة بأن تشجيعه للرعاع والمتطرفين على قلب نتائج الانتخابات، بحجة أنها كانت مزورة، شكّل تهديدًا واضحًا لحياة بينس وأفراد عائلته ولأرواح المشرعين الأميركيين. أنصار ترامب، خلال اقتحامهم لمبنى الكابيتول، كانوا يهتفون “اشنقوا مايك بينس”، بعد أن نصبوا مشنقة مصغرة خارج المبنى.
السباق الجمهوري المفتوح في 2016، والذي دخله دونالد ترامب بإعلان ناري اتسم بعنصرية واضحة ضد المهاجرين من أميركا اللاتينية، كان مزدحما للغاية بسبعة عشرة مرشحًا استنزفوا بعضهم البعض، وفتحوا المجال دون قصد لترامب ليفوز بترشيح الحزب الجمهوري على الرغم من أنه خلال الانتخابات الأولية لم يحصل ترامب على أكثر من ثلث أصوات الناخبين الجمهوريين. قواعد الحزب تقضي بإعطاء الفائز بالأكثرية البسيطة في الانتخابات الأولية جميع أصوات الناخبين البارزين، الذي ينتقون مرشح الحزب في المؤتمر العام. خلال ذلك السباق أخفق معارضو ترامب في الاتفاق على مرشح واحد ليتنازلوا لصالحه، ويقفوا ورائه لهزيمة ترامب. وهذا ما يرغب به ترامب في السباق الراهن.
خلال حملة 2016، فاز ترامب بترشيح حزبه على الرغم من أنه لم يشغل أي منصب سياسي أو عسكري قبل ترشحه، ولم يكن يملك حملة منظمة، كما لم ينفق أكثر من منافسيه على تمويل حملته، ولكنه فعل ذلك بشخصيته الطاغية، وقدرته على استغلال وسائل الاعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي، وبلسانه السليط الذي استخدمه دون رحمة ضد منافسيه، الذين كان يهاجمهم بشراسة، ويزّور مواقفهم وتاريخهم، ولم يكن يتورع عن توجيه الاتهامات الشخصية إليهم ولأفراد عائلاتهم، وحتى السخرية من شكلهم. خلال الحملة الراهنة، ركز ترامب سهامه السامة على حاكم ولاية فلوريدا ديسانتس، الذي يعتبره منافسه الأبرز. حتى الآن لم يشهر ترامب سيفه ضد أي مرشح آخر، بل رحب ببعضهم، لاعتقاده أنهم سوف يقاتلون بعضهم البعض في معركة تصفية للفوز بمرتبة المنافس الذي سيواجه الفارس المتقدم ترامب.
قبل أقل من ثمانية أشهر على بدء الانتخابات الحزبية للمرشحين الجمهوريين (أواخر يناير 2024 في ولاية آيوا)، توضح مختلف المقاييس، مثل شهرة المرشح وميزانيته الانتخابية ومكانته في استطلاعات الرأي، أن دونالد ترامب مرشح مرة أخرى للفوز بترشيح حزبه لولاية جديدة، إذا لم يتدخل القضاء الأميركي، ويقوّض حلمه بالعودة إلى البيت الأبيض.
خلال هذه الأشهر الهامة التي تسبق بداية الانتخابات الحزبية، والتي يسميها البعض “الانتخابات الحزبية غير المرئية” يركز المرشحون على كسب ولاء وود القاعدة الجمهورية، وبناء حملاتهم في الولايات التي تجري فيها أول بضعة مسابقات، والتي تعطي المرشح الذي يفوز فيها أو بمعظمها ذلك العنصر الذي يفوق المال بأهميته أي “الزخم الانتخابي”، الذي يجلب عادة المزيد من التبرعات المالية والاهتمام الاعلامي وفضول الناخبين.
حتى الآن، ترامب هو المتقدم في هذه الانتخابات غير المرئية للأسباب المذكورة أعلاه، ولسبب رئيسي أخر، وهو تردد أو خوف معظم المرشحين الأخرين من انتقاده أو مهاجمته شخصيًا، باستثناء الحاكم السابق لولاية نيوجرسي كريس كريستي، الذي يتلذذ بممارسة النقد المباشر له، وإلى حد أقل حاكم ولاية فلوريدا ديسانت وآيسا هاتشنسون الحاكم السابق لولاية أركنساس. وحتى نائب الرئيس السابق بينس، الذي يتهم ترامب بأنه وضع حياته وحياة أفراد عائلته بخطر، لا يزال يوجه انتقادات مبطنة وناعمة إلى ترامب، وأحيانًا كثيرة دون أن يتجرأ على ذكره بالاسم. المرشحة نيكي هايلي، الحاكمة السابقة لولاية ساوث كارولينا، والتي عيّنها ترامب سفيرة لواشنطن في الأمم المتحدة، تتفادى توجيه النقد لترامب، وكذلك السناتور الجمهوري تيم سكوت (ولاية ساوث كارولينا) يتفادى كليًا أي اشارة إلى ترامب.
أعلن نائب الرئيس السابق بينس ترشيحه ببث شريط فيديو من ثلاثة دقائق بعنوان “أفضل الأيام”، لم يتطرق فيه إلى ترامب، معلنًا، “أن الأزمنة المختلفة تتطلب قيادة مختلفة”، مضيفًا، “ولذلك، أعلن اليوم أمام الله وعائلتي أنني أرشح نفسي لمنصب رئيس الولايات المتحدة”. وهكذا ذّكر بينس الناخبين الجمهوريين بهويته المحافظة جدًا، كرجل عائلة وكرجل متدين، وكجمهوري تقليدي من طينة الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وذلك في مقارنة ضمنية للغاية مع الرئيس السابق ترامب، غير المحافظ (المتزوج ثلاث مرات، والمعروف بغزواته الجنسية)، وغير المتدين على الاطلاق.
خلال إعلانه عن ترشحه لمنصب الرئاسة، طرح كريس كريستي نفسه كمقاتل مهمته الوحيدة هي “التخلص ” من ترامب الذي وصفه بالأنانية والنرجسة وخدمة الذات، والذي يرفض تحمل مسؤولية أعماله. وخاطب كريستي الجمهور الذي حضر الاعلان قائلًا، “أريد أن أكون واضحًا للغاية، سوف أتخلص من ترامب، لماذا؟ لأنني أريد الفوز، وأريده أن يخسر. هناك طريق وحيد للفوز بترشيح الحزب وهذا الطريق يعني عبور ترامب ذاته…”.، ولكن مؤيدي ترامب سمعوا منذ اللحظات التي تلت إعلانه عن ترشيح نفسه للمرة الأولى لمنصب الرئاسة هذه الانتقادات، ولاحقًا سمعوا اتهامات أبشع ولكنها لم تلصق به، ولذلك قد تكون الانتقادات والاتهامات التي سيوجهها كريس كريستي لترامب نابية، أو حتى ظريفة أو ترفيهية، إلا أن فرصه بجرح الرئيس السابق ضئيلة للغاية.
وجود ترامب في طليعة السباق لا يعني بالضرورة أن فوزه بترشيح الحزب الجمهوري هو أمر مؤكد أو حتمي. وهو يواجه عقبات انتخابية محضة، عليه تخطيها، ولكن الخطر الوجودي الكبير الذي يواجهه، والذي لا يستطيع تخطيه سياسيًا هو كونه لا يزال معرضًا لسيف القضاء الأميركي حيث من المتوقع أن يواجه تهمًا فيدرالية بسبب دوره في اجتياح الكابيتول، واستيلائه على وثائق سرية واخفائها، واتهامات محتملة من المدعي العام في ولاية جورجيا بمحاولة قلب نتائج التصويت في تلك الولاية.
التحدي الانتخابي الأول، هو أن شعبية ترامب ضيقة، وتنحصر بقاعدة انتخابية لا تتعدى 39 بالمئة، بينما يصل عدد الأميركيين الذين لا يريدونه أن يصبح رئيسًا مرة أخرى إلى أكثر من 61 بالمئة، من بينهم ثلثي الناخبين الذي يصفون أنفسهم بالمستقلين. (هناك أيضا أكثرية من الأميركيين لا تريد مواجهة بين ترامب وبايدن)
أما التحدي القانوني فهو كعب أخيل ترامب بامتياز. وشاءت الصدف أن يتزامن ترشح مايك بينس وكريس كريستي يوم الأربعاء مع إبلاغ المدّعون العامون في وزارة العدل للفريق القانوني لدونالد ترامب أنه مستهدف في تحقيقاتهم الفيدرالية بأنه أساء استخدام وثائق حكومية سرية بعد انتهاء ولايته، ما يعني أن مكتب المحقق الخاص جاك سميث الذي يحقق بهذه القضية، وبقضية اقتحام مبنى الكابيتول يقترب من توجيه التهم الرسمية الجنائية لترامب. التهم التي قد توجه إلى ترامب في هاتين القضيتين خطيرة وجدية، ويمكن أن تؤدي إلى الحكم عليه بالسجن، كما هي التهم الممكن أن توجه إليه بمحاولة تغيير نتائج ولاية جورجيا. ولم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة أن واجه مرشح لمنصب الرئاسة مثل هذا الخليط من التحديات القانونية والقضائية. وفي مؤشر حول خطورة وحساسية هذه التهم، قال نائب الرئيس بينس تعليقًا عليها أنه يأمل أن لا توجه وزارة العدل مثل هذه التهم لترامب، لأن مضاعفاتها الداخلية والخارجية سوف تكون سلبية للغاية.
خلال تاريخه السياسي المحدود والذي لم يتعد الثماني سنوات، أثبت ترامب أنه سياسي غير عادي، ونجح في تخطي أو تقويض جميع العقبات والتحديات التي واجهها قبل وبعد انتخابه، كما تحدى بسلوكه وتصرفاته جميع الأعراف والمقاييس السياسية التقليدية، وأثبت خطأ توقعات وتنبؤات الكثير من المحللين الذين أعلنوا نهايته السياسية بشكل مبكر ولأكثر من مرة.
ولكن المناعة التي كان يتمتع بها ترامب في السابق قد لا تكون كافية هذه المرة لحمايته من العقاب، لأنه لم يحدث أن واجه في السابق هذا الكم الكبير من التحقيقات القضائية بانتهاكاته الجنائية الكبيرة والعميقة للدستور وللقوانين الانتخابية والفيدرالية الأميركية.