عندما التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظيره الأميركي جوزيف بايدن في يونيو/حزيران على هامش مؤتمر حلف الناتو في بروكسل، بلجيكا، كان موضوع اللقاء القصير محصورًا بإمكانية قيام القوات التركية بإدارة مطار كابول الدولي في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي. وكان أردوغان يأمل بعقد اجتماع لاحق، ومطول، مع الرئيس بايدن على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول في نيويورك، ولكن بايدن، في مرحلة ما بعد أفغانستان، خيّب أمل أردوغان، الذي فشل أيضا في ترتيب اجتماعات هامة مع رؤساء الشركات الأميركية العملاقة.
الرئيس التركي كان يريد استخدام اللقاء ببايدن للاستهلاك المحلي، وهو المقبل على انتخابات مفصلية في 2023، ولإقناع المستثمرين في الغرب والمجتمع الدولي بأن علاقاته قد تحسنت مع الرئيس الأميركي الجديد بعد بداية متعثرة. ولو حدث الاجتماع في نيويورك لكان ذلك قد عزز من مكانة أردوغان قبل اجتماعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكان ذلك قد ساعده على صيانة لعبة التوازنات الصعبة والحساسة التي يريد ممارستها في علاقاته مع واشنطن وموسكو. حقيقة أن اجتماع أردوغان وبوتين في منتجع سوتشي الروسي، في نهاية سبتمبر/أيلول، انتهى دون مؤتمر صحفي مشترك أظهر أن أردوغان ذهب إلى القمة من موقع ضعيف، وخرج منها بموقع أضعف.
خلال زيارته لنيويورك بعث أردوغان بخطبه ونشاطاته وتصريحاته الصحفية رسائل عديدة للأتراك وللأميركيين والمسلمين والعالم، أراد فيها أن يؤكد أنه يرى نفسه كقائد للعالم الاسلامي، وكزعيم لدولة طموحة تريد احياء نفوذها في مناطق هيمنة الامبراطورية العثمانية قبل انهيارها قبل أكثر من قرن، وتريد اتباع سياسية خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة وروسيا والصين. مضمون هذه الرسائل كان قاسيًا ونبرتها فظة، وربما ساهم في ذلك رفض الرئيس بايدن الاجتماع به. نتائج زيارة أردوغان إلى نيويورك أظهرت أن طموحاته وأحلامه أكبر بكثير من قدراته.
خلال مؤتمر نظمته مؤسسة تركية-أميركية، تم خلاله توزيع كتاب جديد لأردوغان، بعنوان “عالم أفضل هو أمر ممكن” ، ألقى اردوغان خطابًا تضمن نقدًا لاذعًا لما وصفه بالتطرف الايديولوجي الغربي المتمثل بظاهرة الخوف من الاسلام “الاسلاموفوبيا”، وقارنها بتطرف تنظيم “الدولة الاسلامية” (داعش). وقال أردوغان “الانسانية تناضل الآن ضد فيروس أكثر دمارًا وفتكًا وخبثًا من كوفيد-19، اسمه “فيروس الاسلاموفوبيا”. وهذا الفيروس ينتشر بسرعة في الدول التي كانت تبدو وكأنها كانت مهدًا للديموقراطية والحريات”. وادعى أردوغان أن العقلية التي تقف وراء الخوف والعداء للإسلام هي نفس العقلية التي تقف وراء (داعش). وشدد أردوغان على أن تركيا ستُبقِي “مسألة مكافحة العداء للإسلام على أجندة جميع المنظمات الدولية وفي طليعتها الأمم المتحدة”. من الواضح أن أردوغان لم يدرك أن خطابه قد جاء بعد أيام من عودة حركة طالبان الاسلامية المتطرفة للسيطرة على أفغانستان.
في حواراته مع الصحفيين الأتراك الذين رافقوه، قال أردوغان إن العلاقات التركية-الأميركية “ليست صحية”. وشكى من أن الولايات المتحدة أوقفت صفقة طائرات أف-35 المتطورة لتركيا، بحجة شرائها لمنظومة الصواريخ الروسية الصنع من طراز S-400. وبعد أن أشار إلى أنه أقام علاقات عمل جيدة مع الرؤساء جورج بوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب، أضاف “ولكنني لا أستطيع أن اقول أننا بدأنا بداية جيدة مع جو بايدن”. وأضاف أردوغان “ليس من الممكن بالنسبة لنا أن نقبل قيام الأميركيين بشكل دائم باستخدام صفقة S-400 ضدنا. بالنسبة لنا هذه المسألة قد انتهت” .
وكرر الرئيس التركي هذا الموقف في مقابلة مطولة مع شبكة التلفزيون الأميركية سي بي أس. في هذه المقابلة لم يستبعد أردوغان احتمال شراء المزيد من الصواريخ الروسية، مشددًا على أن هذه مسألة سيادية. هذا الاعلان دفع برئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ السناتور الديموقراطي روبرت مينينديز للقول بأن أي صفقة صواريخ جديدة ستؤدي إلى عقوبات إضافية ضد تركيا.
وجد أردوغان نفسه في موقع دفاعي وهو يحاول تفنيد اتهامات الرئيس بايدن (خلال حملته الانتخابية) بأنه زعيم “أوتوقراطي” عليه أن يدفع ثمن” سياساته الداخلية مثل قمع حرية الاعلام، وحقيقة أن سجون تركيا تحتوي على أكبر عدد من الصحفيين في العالم بعد الصين، وانتهاك حقوق الأكراد في سوريا وغيرها من الانتهاكات. وطالب أردوغان الولايات المتحدة بوقف دعم التنظيمات الكردية في سوريا التي صّنفها ارهابية، كما دعا إلى انسحاب القوات الأميركية من العراق وسوريا “كما انسحبوا من أفغانستان”.
عاد أردوغان إلى تركيا، بعد زيارته إلى نيويورك وسوتشي، في وضع أضعف مما كان عليه قبل مغادرته تركيا، حيث يواجه انحسارًا ملحوظًا في شعبيته مع استمرار تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد. اخفاق أردوغان في تأسيس علاقة أفضل مع إدارة بايدن يظهر بشكل نافر أن مشاكله الراهنة مع الولايات المتحدة مرشحة للتفاقم أكثر، مع ما يعنيه ذلك من ابتعاد تركيا أكثر فأكثر عن سياسة “التوجه الغربي”، التي ميزت سياسات تركيا الخارجية منذ تأسيس الجمهورية التركية بعد الحرب العالمية الأولى. هذا التوجه بدأ أردوغان بتقليصه تدريجيًا منذ وصوله إلى السلطة مقابل تركيزه على احياء الهوية الاسلامية-العثمانية لتركيا الجديدة في القرن الحادي والعشرين.
الخلافات بين واشنطن وأنقرة حول كيفية التعامل مع أكراد سوريا والعراق، والدور العسكري التركي في ليبيا والصومال، وسياسات أنقرة الصدامية في شرق وجنوب البحر المتوسط المتعلقة بالتنقيب عن الطاقة في تلك المنطقة، وانتهاكات حكومة أردوغان لحقوق الانسان، وأهم هذه الخلافات العلاقة العسكرية مع روسيا، والتي زعزعت علاقات تركيا مع حلف الناتو، هذه الخلافات سوف تبقى جاثمة بثقلها الكبير على العلاقات لوقت طويل. أيضا علاقات أردوغان بصديقه اللدود بوتين قد تزداد تأزمًا إذا واصل بوتين، كما هو متوقع دعمه لحملة عسكرية يقوم بها نظام الأسد في سوريا ضد ثوار محافظة إدلب، مع ما يعنيه ذلك من موجة جديدة من اللاجئين السوريين إلى تركيا. أيضا ليس من الواضح، بعد اجتماع سوتشي، ما إذا كان بوتين سوف يرفع من أسعار الغاز الذي تشتريه تركيا من روسيا بعد تجديد الاتفاقيات بين البلدين.
التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها أردوغان، وانحسار شعبيته، واقترابه من انتخابات قد تقرر مصيره السياسي، ربما تفسر مبادراته الوفاقية تجاه بعض الدول العربية التي دخل معها في مواجهات سياسية حادة في السنوات الماضية، ومن بينها مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة وغيرها. أردوغان يريد مهادنة هذه الدول، ويحتاج إلى استثمارات خليجية هامة لإنعاش الاقتصاد التركي الراكد.
العلاقات الأميركية-التركية الباردة، والعلاقات الروسية-التركية الفاترة تعني أن أردوغان سوف يواجه شتاءً قاتمًا وقارسا في السنة المقبلة.