مرة أخرى، تسمرت أعين الملايين من الأميركيين على شاشات التلفزيون يوم الأربعاء لمشاهدة البث المباشر لوقائع جنازة الشاب تايري نيكولز (Tyre Nichols)، البالغ من العمر 29 سنة في مدينة ممفيس، بولاية تينيسي. مساء الجمعة الماضي، شاهد الأميركيون وقائع جريمة قتل الشاب نيكولز في السابع من يناير/كانون الثاني الماضي على أيدي خمسة أفراد من وحدة شرطة خاصة اسمها “العقرب”، وهم يضربونه بوحشية بالعصي، ويركلون رأسه بأحذيتهم، ويرشون عيونه برذاذ الفلفل، بعد أن أوقفوا سيارته لأسباب غير معروفة بدقة، وسحبوه منها بالقوة على الأرض، دون أن يشرحوا له السبب أو يجاوبوا على اسئلته مثل: ما الذي فعلته، وكل ما أريده هو أن أذهب إلى بيتي. على وقع ضربات العصي، وشتائم أفراد الشرطة يمكن للمشاهد أن يسمع نيكولز وهو ينادي والدته: أمي، أمي، أمي، التي كانت في منزله الذي يبعد عن موقع الحادث دقيقتين فقط. بعد ضربه وفقدانه للوعي، ظل نيكولز مكبلًا، وممدًا على زاوية الطريق لمدة عشرين دقيقة دون أن يبالي به أو يساعده أيًا من أفراد الشرطة، إلى أن جاءت سيارة اسعاف لتنقله إلى المستشفى، حيث ظل فاقدًا للوعي لثلاثة أيام قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
معظم ضحايا مثل هذه المواجهات مع رجال الشرطة في شوارع المدن الأميركية الكبيرة هم من أصل أفريقي، ومعظم أفراد رجال الشرطة المتورطون في هذه المواجهات الدامية هم من البيض. هذه المرة المقتول والمتهمون بقتله هم من أصل افريقي. هذه الحقيقة طرحت أسئلة عديدة تخطت التفسيرات التلقائية والسريعة التي تركز على أرث التمييز العنصري والمنظم الموجود في مختلف أوجه الحياة الأميركية. بعض المحللين رأوا أن كون رجال الشرطة من أصل أفريقي لا يعني أنهم غير معرضين لأن يستوعبوا داخليًا في لاوعيهم ثقافة العنف، وحتى الممارسات العنصرية ضد السود، والتي تطغى على أساليب عمل الشرطة. ولذلك فإن ميلهم الأولي للجوء إلى العنف هو الذي يطغى على أي اعتبار آخر، ما يجعلهم يتصرفون كما يتصرف أعضاء العصابات الذين يحاربون بعضهم البعض على الرغم من انتمائهم للأثنية ذاتها.
لو وقعت مثل هذه الجريمة المروعة في أي مجتمع آخر، وتحديدًا مجتمع ديموقراطي آخر، لكان الأمر قد اعتبر استثنائيًا. ولكن في السياق الأميركي، فإن نيكولز هو آخر اسم يُضاف إلى قائمة طويلة من الشباب الأميركيين من أصل أفريقي (معظمهم دون الأربعين من العمر) من المدنيين غير المسلحين، الذين قتلوا على أيدي رجال الشرطة، دون أن يشكلوا في أي لحظة خطرًا مباشرًا على أرواح رجال الشرطة يمكن أن يستدعي استخدام القوة القاتلة. وسائل القتل تختلف: إطلاق النار، الخنق، أو الضرب بالعصي. ولكن النتيجة الكارثية واحدة. في السنوات الأخيرة، ومع شيوع وسائل الاتصال الاجتماعي والهواتف المجهزة بالكاميرات، أصبحت مشاهدة مقاطع فيديو قتل هؤلاء الشباب جزءًا من طقس اجتماعي أميركي مقزز ومشين. ما هو مؤكد هو أن اسم تايري نيكولز لن يبق آخر اسم على هذه القائمة المشؤومة لأكثر من أيام قبل أن يأخذ مكانه شاب آخر وضعه حظه السيء على موعد مع رجال البدلات الزرقاء.
هذه الظاهرة الأميركية البشعة، مماثلة في فرادتها لظاهرة القتل الجماعي في الولايات المتحدة. في السنة الماضية وصل عدد حوادث القتل الجماعي في البلاد إلى 647 حادثًا، أدت إلى قتل 637 شخصًا وجرح أكثر من 2500 شخصًا. (يتم تعريف القتل الجماعي إذا أدى الحادث إلى إصابة أو مقتل أربعة أشخاص أو أكثر باستثناء القاتل). وخلال الأسابيع الثلاثة الأولى في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، شهدت الولايات المتحدة 39 حادث قتل جماعي.
هناك خط رفيع وطويل من الدم يربط حوادث القتل الجماعي والعشوائي في الولايات المتحدة ببعضها البعض منذ فجر هذه الظاهرة الرهيبة في الأول من أغسطس 1966، حين صعد شاب في الخامسة والعشرين من عمره أسمه تشارلز ويتمان (Charles Whitman) إلى أعلى نقطة في برج الساعة في جامعة تكساس، بعد أن قتل والدته وزوجته، وبدأ عشوائيا باصطياد كل من شاهده قرب البرج. وبعد 96 دقيقة أطلق خلالها أكثر من 150 رصاصة من بندقيته بدم بارد، قتل خلالها 17 شخصًا وجرح أكثر من ثلاثين، قبل أن تقتله الشرطة.
ما يحدث عادة بعد حوادث القتل الجماعي، أو حوادث قتل الشباب السود على أيدي الشرطة، خاصة إذا كان العنف سافرًا للغاية أو مصورًا، هو ارتفاع الاحتجاجات الشعبية والرسمية وقيام الناشطين السياسيين والمشرعين الأميركيين بالدعوة لتقييد اقتناء الأسلحة النارية أو تحريم البنادق شبه الآلية، والتحقق من خلفية مشتري الأسلحة، وغيرها من الإجراءات لمنع وقوع الأسلحة في أيدي الأفراد الذين يعانون من مشاكل صحية أو نفسية. كما تبرز المطالب من جديد لإجراء إصلاحات بنيوية وجذرية لإصلاح وتطوير عمل رجال الشرطة وتعزيز مراقبتهم، وتقليص صلاحياتهم في استخدام القوة القاتلة، وغيرها من الإجراءات التي تغير مما يمسى “ثقافة عمل الشرطة” لأن المشكلة لا تكمن، كما يدعي البعض، وجود بعض “التفاحات الفاسدة” في أوساط الشرطة، بل وجود وشيوع هذه الثقافة القاتلة.
مساء الخامس والعشرين من شهر مايو/أيار 2020 شاهد الملايين من الأميركيين، والملايين في العالم كله شرطي أبيض تابع لشرطة مدينة منيابوليس اسمه ديريك شوفين (Derek Chauvin) يقتل رجلًا أسودًا اسمه جورج فلويد (George Floyd) بعد أن ركع بثقل جسده على عنقه لحوالي عشرة دقائق. وبينما كان فلويد يئن وينادي أمه، كان الشرطي شوفين، الذي أحاط به ثلاثة من زملائه، ينظر بوجه خلا من أي ملامح بشرية إلى شابة عمرها 17 سنة وهي تصوره وهو يرتكب جريمته البطيئة، وكأنه يقوم بعمل يومي رتيب وعادي.
جريمة قتل فلويد صعقت الأميركيين وفجرت تظاهرات احتجاجية عارمة، أدت إلى مواجهات عنيفة بين المتظاهرين والشرطة بعد وصول المظاهرات إلى أكثر من مئتي مدينة أميركية. وتحول فلويد إلى رمز لهؤلاء الضحايا، وقام مشرعون أميركيون في مجلسي الكونغرس بصياغة مشروع قانون سُمي قانون “جورج فلويد لعدالة ممارسات الشرطة“. وأقر مجلس النواب مشروع القانون في مارس 2021 بأصوات الأعضاء الديموقراطيين فقط، حيث لم يصوت عليه أي نائب جمهوري. ولكن بعد أكثر من عام ونصف على إقرار مشروع القانون في مجلس النواب، ظل المشروع معلقًا في مجلس الشيوخ بسبب معارضة الجمهوريين، على الرغم من دعوات الرئيس بايدن المتكررة لإقراره.
ويدعو مشروع القانون إلى تعديلات جذرية للحد من استخدام الشرطة للقوة المفرطة، والتصدي للتمييز العنصري، ولكن معارضو مشروع القانون يرفضون البنود المتعلقة بإلغاء ما يسمى “الحصانة المشروطة” التي تحمي أفراد الشرطة من إقامة الدعاوى المدنية ضدهم في حال انتهاكهم للحقوق المدنية لمن يحققون معهم. مقتل الشاب نيكولز، أعاد إلى السطح قضية إقرار مجلس الشيوخ لمشروع قانون جورج فلويد. اسم جورج فلويد هيمن على الجدل الوطني حول العنصرية المنظمة، وثقافة العنف المتجذرة في ممارسات رجال الشرطة لبضعة أشهر. ولكن، مضاعفات جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية، وغيرها من المشاكل، سرعان ما طغت على الجدل السياسي في البلاد، وهو ما كان يعول عليه معارضو إجراء أي إصلاحات جذرية في مجال التصدي لإرث العنصرية المنظمة، أو لآفة انتشار وسهولة اقتناء الأسلحة النارية.
يملك المدنيون الأميركيون حوالي 466 مليون قطعة سلاح، وهي أعلى نسبة مقارنة بعدد السكان في العالم. (أكثر من 120 قطعة سلاح لكل مئة أميركي). وهناك أسباب تاريخية واجتماعية وقانونية لهذه الظاهرة، تعود لمشاركة المدنيين المسلحين في حرب الاستقلال، واستخدام السلاح في فتح الغرب الأميركي، والحرب الأهلية، وكون الولايات المتحدة هي واحدة من بين ثلاثة دول فقط (الدولتين الأخريين: المكسيك وغواتيمالا) التي يضمن دستورها حق المواطن اقتناء الأسلحة النارية. وتعتبر “الجمعية الوطنية لاقتناء البنادق” من أهم قوى الضغط (اللوبي) في البلاد، والتي تعارض فرض أي قيود اضافية على اقتناء الأسلحة والذخيرة.
ظاهرتي القتل الجماعي وقتل الشباب السود على أيدي الشرطة هما من أخطر الآفات الاجتماعية والثقافية في الولايات المتحدة، واستمرارها بالتفاقم يعني زيادة خطرها على الديموقراطية الأميركية. ولا يمكن التصدي لخطر هذه الظواهر بالإجراءات السطحية أو الخجولة، بل بمواجهة حقيقية ضد التمييز العنصري المنظم، وضرورة إصلاح القوانين الأميركية المتعلقة بصلاحيات الشرطة والقضاء، وجعل هذه المؤسسات ديموقراطية أكثر. وهذا يعني خلق الآليات التي تضمن محاسبة الشرطة على انتهاكاتها، وتحد من صلاحياتها التي تشمل الآن حق توقيف أو تفتيش أي شخص لمجرد الاشتباه بأنه مسلح، أو تفتيش سيارة أي شخص دون أذن مسبق إذا كان هناك احتمال بوجود شخص داخل السيارة مشتبه بضلوعه بعمل إجرامي. كما أن أفراد الشرطة يتمتعون، كما ذكرنا أعلاه، بالحصانة المشروطة التي توفر لهم نظام حصانة يحميهم من القضاء. التصدي لظاهرة القتل الجماعي يتطلب أيضًا إجراءات جذرية سياسية وقانونية وثقافية للتصدي لثقافة رومانسية السلاح المتجذرة في الذاكرة الجماعية الأميركية.
خلال جائحة كورونا، ازداد إقبال الأميركيين على شراء الأسلحة، ربما في رد فعل على ارتفاع معدلات الجريمة، كما شهدت السنوات القليلة الماضية ارتفاعا في معدلات جرائم القتل الجماعي، وتعثر محاولات التصدي لثقافة العنف في عمليات الشرطة. وهذا غير مستغرب نظرًا لعناد وتجذر العنصرية المنظمة، ولمركزية العنف في تاريخ الولايات المتحدة، ما يجعل هذه الظواهر آفات أميركية بامتياز يتطلب معالجتها سياسات وإجراءات جذرية عميقة، من الواضح أن الطبقة السياسية في البلاد، نظرًا للاستقطابات الحالية والخلل السياسي في واشنطن، عاجزة في هذه الفترة الحرجة عن تحقيقها.