ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
التخبط السياسي في واشنطن المتعلق بصنع القرارات المتعلقة بقضايا الشرق الأوسط وأزماته، كما رأينا مؤخرا في الفوضى التي أحاطت بقرار الرئيس ترامب الأولي سحب القوات الأمريكية من سوريا خلال شهر واحد، والاستقطابات الحزبية الداخلية بين الجمهوريين والديمقراطيين المصحوبة بأطول “إغلاق” للخدمات الحكومية في تاريخ البلاد، فضلا عن الكشف عن معلومات محرجة للغاية للرئيس ترامب حول علاقاته الغريبة والمريبة بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، جعلت المشهد السياسي في واشنطن، الأكثر غرابة وسريالية منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
الرابط الذي يجمع هذه القضايا الخارجية والداخلية هو الرئيس ترامب الذي يتعامل معها بطريقته المفضلة والتي تثير القلق – لا بل أحيانا الرعب – في قلوب مساعديه وأعضاء حزبه في الكونغرس، والسخرية والتشفي، ناهيك عن التساؤلات في قلوب خصومه. وكما كان الملوك والرجال الأقوياء والطغاة يحكمون بالمراسيم والقرارات الاعتباطية، يحكم ترامب – أو يحاول أن يحكم- بالتغريد، حيث يقوم عادة في ساعات الصباح الأولى بإرسال وابل من التغريدات، التي تتراوح بين الطريفة والمشينة، بين المفاجئة والمتكررة، والتي يتطلب بعضها الآخر اجتهادات وتفسيرات مختلفة، لأن بعضها يتعرض للتعديل أو التغيير أو التقويض من قبل الرئيس ترامب نفسه.
مع اقتراب الأسبوع من نهايته اتخذ الانسحاب العسكري المتوقع من سوريا بعدا إنسانيا وسياسيا جديدين للأمريكيين بعد أن قام انتحاري ينتمي إلى تنظيم “الدولة الإسلامية” بتفجير نفسه أمام مطعم في مدينة منبج في شمال سوريا، يرتاده الجنود الأمريكيين، وقتل أربعة منهم إضافة إلى أكثر من عشرة مدنيين سوريين. هذا الهجوم الإرهابي الذي راح ضحيته أكبر عدد من الجنود الأمريكيين في يوم واحد منذ بدء عملياتهم في سوريا في 2015، جاء بعد شهر تقريبا من إعلان ترامب عن الانسحاب من سوريا وتأكيداته المستمرة منذ ذلك اليوم من أن الولايات المتحدة وحلفاؤها قد قصموا ظهر تنظيم “الدولة الإسلامية”، وانتصروا في الحرب ضدها، وأن الوقت قد حان لعودتهم إلى الوطن. داخليا وصلت المواجهة بين الرئيس ترامب ورئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي، مع اقتراب الإغلاق الحكومي من نهاية شهره الأول، إلى مستويات غير معهودة. ويوم الأربعاء طلبت بيلوسي من ترامب تأجيل الخطاب السنوي الذي يلقيه الرئيس الأمريكي في نهاية يناير من كل سنة حول “حالة الاتحاد” بسبب الإغلاق الحكومي الذي قلّص من قدرات وزارات وأجهزة عديدة من بينها جهاز الشرطة السرية التي توفر الحماية للرئيس الأمريكي وكبار المسؤولين. واعتبر ترامب هذه الخطوة بمثابة ضربة سياسية لأنها ستحرمه من مناسبة إعلامية هامة تسمح له بانتقاد الديمقراطيين وتبرير موقفه الذي أدى إلى إغلاق الخدمات الحكومية. وجاء رد ترامب يوم الخميس، حين منع بيلوسي وعدد من المشرعين الديمقراطيين في الكونغرس من القيام بزيارة سرية إلى أفغانستان كانت مقررة من قبل، من خلال حرمانهم من استخدام الطائرة العسكرية التي توفرها عادة وزارة الدفاع لمثل هذه الزيارات التي تبقى سرية إلى آخر لحظة. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ البلاد يقوم بها رئيس أمريكي باتخاذ مثل هذا الإجراء العقابي أو “الانتقامي” كما سماه بعض الديمقراطيين ضد رئيس لمجلس النواب، وهو الهيئة التشريعية المستقلة التي يعتبرها الدستور في نفس مستوى الرئاسة الأمريكية.
بين ديسمبر ويناير
نادرا ما يمر شهر على الواحد منا تُشعره أحداثه الصاخبة والمفاجئة وكأنه بلا نهاية، وأنه سيدوم إلى الأبد. الأحداث والتطورات التي شهدتها أو اتخذتها واشنطن بين 17 ديسمبر-كانون الأول، و17 يناير –كانون الثاني أضفت على هذا الشهر سمة “الأبدية” هذه. كل يوم يجلب مشهدا أكثر غرابة من اليوم الفائت. فلم يكن يتصور أحد منا في أن يرى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (وترامب هو الرئيس الخامس والأربعون، من مجموعة تضم بعض الرجال العظماء، وعدد محدود من الرؤساء غير الفعالين والذين يستحقون النسيان) وهو ينفي عن نفسه تهمة العمالة لصالح دولة أجنبية. ولم يحصل أبدا أن قام رئيس أمريكي بالدفاع عن نفسه أمام شعبه، كما فعل ترامب عندما قال إنه ليس جاسوسا لروسيا، أو رئيسها فلاديمير بوتين، الذي يكن له ترامب مودة واضحة، ولا يفوت فرصة دون أن يمدحه. بوتين هو السياسي العالمي الوحيد – بين الأصدقاء والخصوم- الذي لم ينتقده الرئيس ترامب بطريقة أو بأخرى.
وخلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) كان قد فتح تحقيقا باحتمال تواطؤ ترامب مع روسيا الإتحادية لخدمة مصالحها، بعد إقالته لمدير أف بي آي جيمس كومي في السنة الماضية، وهي الإقالة التي اعترف ترامب علنا بأنها تعود لاستيائه من تحقيق كومي بالتدخل الروسي في الانتخابات. وخلال اجتماع عقب الإقالة، عقده ترامب مع وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، وسفير موسكو آنذاك في واشنطن سيرغي كيسلياك، قال ترامب إنه طرد جيمس كومي من منصبه بسبب الضغوط التي فرضها عليه التحقيق بالتدخل الروسي في الانتخابات، ووصف كومي بأنه “مختل”. وفي اليوم التالي لخبر الصحيفة المزلزل، لحقتها صحيفة واشنطن بوست في مقال مطول مماثل في أهميته، كشفت فيه أن ترامب كان يبذل جهودا كبيرة لإبقاء مضمون اتصالاته ومحادثاته المنفردة مع بوتين سرية، لدرجة أنه أخذ ملاحظات مترجمه ومنعه من مناقشة مضمون أول لقاء بينه وبين بوتين في ألمانيا في 2017 مع أي مسؤول أمريكي آخر.
هذه التقارير المبنية على مصادر مسؤولة راهنة وسابقة، أثارت من جديد وعمقت الأسئلة والشكوك في البلاد حول طبيعة علاقات ترامب وبوتين، وماهية الأسباب التي يمكن أن تفسر “هوس” ترامب بإبقاء مضمون لقاءاته الفردية الخمسة المعروفة – عدا عن مكالماته الهاتفية التسعة المعروفة- سرية وامتناعه عن مناقشة مضمونها مع أي مسؤول سياسي أو أمني أمريكي. وفي خطوة غير مسبوقة في تاريخ القمم الأمريكية-السوفيتية، والأمريكية-الروسية لم يلتق رئيسان في اجتماع مغلق برفقة مترجميهما فقط لمدة ساعتين، كما حدث خلال قمة هلسنكي في السنة الماضية. وخلال المؤتمر الصحفي المشترك بين ترامب وبوتين، ناقض ترامب تقييم أجهزة الاستخبارات الأمريكية التي اتهمت موسكو بالتدخل في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وكرر بحضور بوتين تكذيب ونفي الرئيس الروسي لهذه الاتهامات. وكعادته أمتنع ترامب عن مناقشة مضمون المحادثات بأي شكل مفصل مع كبار مستشاريه، كما لم يتم حفظ محضر الاجتماع، الذي كان يحضره عادة مسؤول بارز في مجلس الأمن القومي يقوم بتدوين الحوار.
واستمرت مفاجآت ترامب الروسية، بعد أن كشفت نيويورك تايمز – التي يكن لها ترامب كراهية خاصة – أن الرئيس الأمريكي كان قد أثار في السنة الماضية وفي أكثر من مناسبة مع كبار مستشاريه رغبته بسحب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والذي يعتبر الحلف العسكري الأكثر أهمية استراتيجية في التاريخ والذي أسسته الولايات المتحدة وحلفاؤها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية لاحتواء الاتحاد السوفيتي خلال فترة الحرب الباردة، وروسيا في العقود الأخيرة. انسحاب واشنطن من (الناتو) يعني عمليا تقويض الحلف وتفككه. ويعتبر تفكيك أو على الأقل إضعاف (الناتو) من بين أبرز أهداف الرئيس بوتين. وكان ترامب حتى خلال حملته الانتخابية يقول إن الزمن قد عفا على حلف شمال الأطلسي. ولترامب مفهوم خاطئ لكيفية تمويل نفقات (الناتو) حيث يعتقد أن واشنطن تتحمل معظم نفقات الحلف. وكان مدير البيت الأبيض السابق الجنرال المتقاعد جون كيلي قد قال في أخر مقابلة وداعية له إنه قام مع غيره من المسؤولين البارزين بإقناع ترامب بعدم الانسحاب من (الناتو).
واشنطن لا تخيف اعدائها ولا تطمئن اصدقائها
ضحايا التخبط السياسي الذي أحاط ولا يزال يحيط بقرار ترامب الانسحاب من سوريا، لم يكونوا فقط الجنود الذين حصدهم إرهاب تنظيم “الدولة الإسلامية” في منبج، بل أيضا وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس، الذي كان يعتبر الركيزة العقلانية الأقوى في إدارة ترامب، والشخصية الأقوى والأكثر حكمة في إدارة اتسمت منذ أيامها الأولى بمراهقتها السياسية وقراراتها الدولية الشوفينية والتي تفوح منها الروائح العنصرية مثل قرار حظر سفر رعايا بعض الدول ذات الأكثرية المسلمة، وهاجس الرئيس ترامب بناء جدار عازل على الحدود الجنوبية مع المكسيك، وتصريحاته المهينة للدول الأفريقية. رحيل ماتيس، آخر “جنرالات” ترامب، يعني عمليا أنه لم يعد هناك صوتا حكيما أو قويا حول ترامب يمكن أن يكبح تهوره وتسرعه باتخاذ القرارات.
اعلان ترامب المفاجيء حول الانسحاب من سوريا – الذي اتخذه الرئيس دون استشارة معاونيه ودون إعلام حلفائه بشكل مسبق – أثار قلق الحلفاء المحليين، وخاصة القوى المنضوية تحت لواء “قوات سوريا الديمقراطية”، وتحديدا قوات حماية الشعب الكردية، وهي القوى التي لعبت الدور العسكري البري الرئيسي الذي أدى إلى تحرير المدن والبلدات السورية التي كان يحتلها إرهابيو تنظيم “الدول الإسلامية”. كما أثارت قلق الحلفاء الأوروبيين، وتحديدا فرنسا التي لها أكثر من ألف عنصر عسكري في سوريا. طبعا الرئيس الروسي بوتين رحب بالقرار قائلا “ترامب على حق”. واعتبر المحللون العسكريون والسياسيون أن قرار الانسحاب السريع انتصارا لروسيا وإيران ونظام الأسد، “وخيانة” أمريكية للأكراد تحديدا، الذين يواجهون اليوم خيارات صعبة، وهم يحاولون تفادي الانتقام العسكري الذي يهدد به الرئيس التركي طيب رجب أردوغان، والعودة المرغمة إلى “حماية” نظام الأسد الذي لا يثق بهم، ولا يريد الاعتراف بحقهم بإقامة منطقة حكم ذاتي. المهام السياسية السريعة التي طلب ترامب من وزير خارجيته مايك بومبيو ومستشاره لشؤون الأمن القومي جون بولتون القيام بها خلال زيارتين سريعتين للمنطقة أدت إلى نتائج عكسية. الرئيس التركي رفض استقبال بولتون بعد تصريحاته حول ضرورة التزام تركيا بعدم التعرض للقوات الكردية في سوريا بعد انسحاب القوات الأمريكية. كما أن بولتون وبومبيو ناقضا في تصريحاتهما العلنية التزام ترامب بالانسحاب السريع، وربطا الانسحاب برحيل جميع “الأحذية الإيرانية” من سوريا، ما يعني عمليا أن القوات الأمريكية سوف تبقى في أماكن انتشارها. وزاد بومبيو من تعقيد الصورة حين قال إن الانسحاب الأمريكي مستمر ولا يتناقض مع هدف تدمير تنظيم “الدولة الإسلامية”، وأنه مجرد قرار “تكتيكي”. وأخيرا ألقى بومبيو خطابا في القاهرة، حاول فيه دحض مضمون خطاب الرئيس باراك أوباما الذي ألقاه في القاهرة في 2009 معتبرا أن الرئيس الأمريكي السابق كان ضعيفا في موقفه تجاه الحركات الإسلامية المتطرفة. وغابت عن خطاب بومبيو أي حلول أو مبادرات أو مقترحات تساعد المنطقة العربية على الخروج من مأزقها. وبينما كان الخطاب غنيا بانتقاداته وهجماته ضد الجمهورية الإسلامية في طهران، وهي انتقادات مبررة، وإن كان بومبيو قد بالغ في مسؤولية إيران عن انهيار الأوضاع في الدول العربية. وأبرز ما غاب عن خطاب بومبيو هو الإشارة إلى الأوضاع المتردية لحقوق الإنسان في مختلف المجتمعات العربية. وبعكس وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس التي ألقت خطابا مماثلا في القاهرة في 2005، وخطاب أوباما في 2009، لم يتطرق بومبيو ولو بشكل عابر إلى عبارة “حقوق الإنسان”. بين 17 ديسمبر و17 يناير بدت أمريكا وكأنها عاجزة عن تخويف أعدائها، وغير قادرة على طمأنة اصدقائها.
مستقبل قريب مضطرب
اغلاق الخدمات الحكومية، اّثر سلبا على قدرة الديمقراطيين على بدء نشاطاتهم التشريعية والرقابية، بما في ذلك قيام اللجان الخاصة بتنظيم التحقيقات وجلسات الاستماع لمناقشة كل القضايا الداخلية والخارجية الخلافية مع الرئيس ترامب، بدءا من الكشف عن سجلاته الضرائبية، والاطلاع على الوثائق المتعلقة بعلاقاته وأفراد عائلته بروسيا ورجال الأعمال الروس (الأوليغارشية الروسية) وانتهاء بالتحقيق في جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول، ودور الولايات المتحدة العسكري واللوجستي والاستخباراتي في حرب اليمن. والمعروف أن بيلوسي تدعم مقترحات من قبل أعضاء في حزبها تهدف إلى ارغام إدارة الرئيس ترامب على إنهاء الدعم العسكري واللوجستي والاستخباراتي الأمريكي للتحالف الذي تقوده السعودية في حرب اليمن. ومن المتوقع، بعد انتهاء قرار تعليق الخدمات الحكومية، أن تعود لجان مجلس النواب إلى بحث القرارات المتعلقة بحرب اليمن، خاصة مع وجود تأييد جمهوري أيضا لوقف المساعدات الأمريكية لأنها تُطيل الحرب في اليمن. ومن المتوقع أن تنظِّم لجنة الاستخبارات في مجلس النواب جلسات استماع قد تدعى لها جينا هاسبل مديرة وكالة الاستخبارات المركزية للمثول أمامها لمناقشة مضمون ما حصلت عليه من معلومات من السلطات التركية بعد زيارتها لأنقرة عقب مقتل خاشقجي، والأسباب التي دفعت سي آي أي إلى افتراض عِلم ولي العهد محمد بن سلمان المسبق بهذه الجريمة، وهو تقييم شكك فيه الرئيس ترامب. الأسابيع المقبلة ستشهد مواجهات بين الديمقراطيين في مجلس النواب والرئيس ترامب وسوف تكون علاقات إدارة ترامب مع الدول العربية المقربة منه في جوهر هذه المواجهات.