أظهرت نتائج الانتخابات الحزبية الأولية التي جرت في عدد من الولايات، مثل أريزونا وميتشغان وكنساس، استمرار النفوذ الهام للرئيس السابق دونالد ترامب في تقرير مسيرة الحزب الجمهوري على الرغم من بروز بعض المؤشرات أن مكانته كشخصية مهيمنة بإحكام على الحزب قد انحسرت في الأشهر الأخيرة. وتشكو قيادات جمهورية من أن الرئيس السابق لا يزال يعيش في الماضي، ولا يزال يخوض معركته الخاسرة في 2020 من خلال الادعاء أنه هو الفائز فيها وليس الرئيس جوزيف بايدن.
وحتى الجمهوريين، الذين يقبلون “الكذبة الكبرى” أي رفض نتائج الانتخابات أو اعتبار الرئيس بايدن “رئيسًا غير شرعيًا”، يقولون أن الحزب يجب أن يركز على المستقبل وكيفية استعادة البيت الأبيض في 2024. وساهمت اللجنة الخاصة في مجلس النواب، المكلفة بالتحقيق في اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني 2020، في إبراز الدور المباشر للرئيس ترامب في التحضير والتحريض على الاقتحام. وشمل ذلك الكشف عن أن ترامب كان يعرف أن بعض أنصاره من المتطرفين الذين اقتحموا المبنى كانوا مسلحين، وأنه أمضى أكثر من ثلاث ساعات وهو يراقب بارتياح واعجاب عملية الاقتحام من البيت الأبيض دون أن يتخذ أي قرار لوقف الهجوم او مطالبة أنصاره بالانسحاب.
ومع أن بعض المرشحين الجمهوريين الذين أيدهم ترامب في الانتخابات الحزبية، والذين يشاطرونه الادعاء بانه هو الفائز بانتخابات 2020، وبأن الانتخابات لم تكن نزيهة، قد خسروا سباقاتهم أمام مرشحين يمثلون الجناح المحافظ التقليدي في الحزب الجمهوري، والذي انحسر نفوذه كثيرًا خلال حقبة ترامب، إلا أن ذلك لا يلغ حقيقة أن شبح الرئيس السابق لا يزال يخيم على سجال المرشحين الجمهوريين وطروحاتهم بشأن تغيير أو تعديل القوانين الانتخابية في الولايات المحورية. ويركز ترامب وأنصاره على نكران نتائج انتخابات 2020، ويسعون إلى انتخاب مسؤولين محليين يمثلون هذه المواقف المتشددة ما يعني أن عملية حسم نتائج الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والانتخابات الرئاسية في 2024 سوف تكون حافلة بالألغام والانتهاكات والتجاوزات والطعون، وربما يشوبها أعمال عنف.
في ولاية أريزونا، نجح المرشح لعضوية مجلس الشيوخ بلايك ماسترز (Blake Masters) الذي دعمه ترامب، كما نجح المرشح لمنصب المشرف على الانتخابات في الولاية مارك فينشيم (Mark Finchem)، المعروف بنكرانه لنتائج الانتخابات الرئاسية في 2022، والذي يفاخر بعضويته في احدى الميليشيات التي ساهمت في اقتحام مبنى الكابيتول. وكان فينشيم قد شارك في المسيرة إلى مبنى الكابيتول، مع أنه يدعي أنه لم يقتحم المبنى. كما أن المرشحة لمنصب حاكم الولاية كاري لايك (Kari Lake) التي تغالي في دعمها لترامب، بدت متقدمة ضد منافستها كارين روبسون (Karrin Robson)، المرشحة التي دعمها نائب الرئيس السابق مايك بينس .
وفي ولاية ميتشغان خسر النائب الجمهوري بيتر ميجر (Peter Meijer)، الذي صوت ضد ترامب خلال محاكمته في مجلس النواب معركته للحصول مرة أخرى على ترشيح حزبه أمام جون غيبز (John Gibbs) الذي تبناه ترامب. كما فازت المرشحة لحاكم الولاية تودور ديكسون (Tudor Dixon)، التي تردد ادعاءات ترامب بأنه هو الفائز بالانتخابات، بسهولة بالانتخابات الحزبية الأولية. وتعتبر ولاية ميتشغان من الولايات المحورية في انتخابات 2024، ويعمل ترامب وأنصاره بجهد كبير على التخلص من حاكمة الولاية الديموقراطية غريتشن ويتمير (Gretchen Whitmer) التي تصدت بفعالية لضغوط وترهيب الميليشيات اليمينية المتطرفة المؤيدة لترامب.
وفي الانتخابات الحزبية الأولية التي جرت في الأسابيع الماضية في ولايات سوف تلعب دورًا بارزا في انتخابات 2024، مثل أوهايو وبنسلفانيا، فاز مرشحو ترامب لعضوية مجلس الشيوخ في الولايتين، كما فاز مرشحه لانتخابات منصب حاكم ولاية بنسلفانيا.
بروز هؤلاء المرشحين يؤكد ما يقوله المحللون من أن الحزب الجمهوري التقليدي، أي الحزب الذي يمثل الفلسفة المحافظة في السياسة لم يعد موجودًا إلا بالاسم، وأن ما يراه الأميركيون الآن هو جماعة تمثل أقلية عددية تؤمن بنظريات المؤامرة، وغير مستعدة للعمل ببنود الدستور، أو وفقًا للأعراف والتقاليد الديموقراطية الأميركية المتعارف عليها والمعمول بها منذ ولادة نظام الحزبين. وهذا يعني، كما رأينا خلال التحديات السياسية والعنيفة لنتائج انتخابات 2020، أن أحد الحزبين الرئيسيين لم يعد يؤمن بعملية الانتقال السلمي للسلطة بعد انتخابات نزيهة وحرة.
وهذا الحزب المتشدد، يعمل بجهد كبير منذ وصول الرئيس جوزيف بايدن إلى البيت الأبيض على تغيير قوانين الانتخابات في ولايات مختلفة، وخلق العقبات البيروقراطية واللوجستية لمنع تلك الشرائح والفئات الاجتماعية التي تصوت تقليديًا للمرشحين الديموقراطيين، وتحديدا الأميركيين من أصل أفريقي وغيرهم من الأقليات. وفي هذا السياق تبين استطلاعات الرأي أن هناك نسبة كبيرة من الناخبين المسجلين كجمهوريين يؤمنون بما يسمى “نظرية الاستبدال”، والتي تدعي أن هناك محاولات أو مؤامرات تهدف إلى “استبدال” السكان المنحدرين من أصول أوروبية مسيحية بمواطنين من أصول أفريقية أو أميركية-لاتينية أو من المهاجرين من الشرق الأوسط والمسلمين. ونجح دونالد ترامب منذ بداية حملته الانتخابية الأولى في اللعب على هذه المخاوف وعلى تأجيجها.
ولذلك لم يكن من المستغرب أن تدعو احدى أبرز المنظمات السياسية اليمينية، التي تنشط تحت غطاء الحزب الجمهوري، رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان (Viktor Orban)، المعروف بمواقفه المتطرفة ضد المهاجرين والمسلمين واليهود، إلى مؤتمرها هذا الأسبوع في مدينة دالاس بولاية تكساس. وكان أوربان قد انتقد مؤخرا “اندماج الأعراق” في أوروبا، وتحديدًا اندماج الأوروبيين بغير الأوروبيين. وكان الرئيس السابق ترامب قد أثنى على أوربان، الذي يتمتع بشعبية ملحوظة في أوساط الجمهوريين.
الحزب الجمهوري اليوم يعيش تحت ظلال الرئيس السابق ترامب، ولذلك لا علاقة لهذا الحزب بالحزب الجمهوري الذي قاده يومًا الرئيس دوايت أيزنهاور أو الرئيس رونالد ريغان. هذا الحزب، برأي بعض المحللين، لم يعد حزبًا تقليديًا او محافظًا، بل يمثل حركة تسعى لتقويض التقدم الاجتماعي والقانوني الذي أحرزته في العقود الماضية حركة الحقوق المدنية، والمنظمات التي تسعى لتوسيع رقعة حرية النساء، ومن بينها حق المرأة بالإجهاض.
وفي هذا السياق فاجأ الناخبون في ولاية كنساس، الجمهورية بميولها، السياسة الأميركيين من الحزبين، وخاصة الحزب الجمهوري، حين صوتت بأغلبية كبيرة على ضمان حق المرأة بالإجهاض في الولاية. وكان من اللافت أن المقاطعات الديموقراطية والمقاطعات الجمهورية في الولاية صوتت للحفاظ على هذا الحق. ويأمل الديموقراطيون أن يساهم قرار المحكمة العليا بإلغاء حق الاجهاض، وجهود الحزب الجمهوري في العديد من الولايات إلى سن القوانين المحلية التي تجعل من المستحيل تقريبًا للمرأة أن تمارس حقها في الاجهاض، في تعبئة النساء، وخاصة المستقلات، ودفعهن للتصويت بكثافة للمرشحين الديموقراطيين الذين يؤمنون بصيانة هذا الحق للمرأة.
تمثل الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وكذلك الانتخابات الرئاسية في 2024، تحديات كبيرة لثبات وديمومة النظام الديموقراطي الأميركي، الذي تعرض لهزة كبيرة، كان الاقتحام الدموي لمبنى الكابيتول أحد أبشع تجلياتها. وإذا أعلن الرئيس السابق ترامب عن ترشحه مرة أخرى لمنصب الرئاسة في 2024، فإن ذلك يعني أن البلاد سوف تجد نفسها على طريق أزمة سياسية ودستورية، لأن ترامب وأنصاره لن يقبلوا بأي نتيجة إذا لم توصل ترامب مرة ثانيه إلى البيت الأبيض.
حتى الآن يقول كل من الرئيس بايدن والرئيس السابق ترامب أنهما يعتزمان الترشح للرئاسة مرة ثانية. وإذا جرت مواجهة ثانية بين الرجلين، فإنها ستكون بين أكثر مرشحين متقدمين في السن في تاريخ الولايات المتحدة. في 2024 سوف يكون الرئيس بايدن في الثانية والثمانين من عمره، ودونالد ترامب في الثامنة والسبعين من عمره. المفارقة هي أن استطلاعات الرأي العام تقول أن أكثرية الأميركيين لا يريدون أن يترشح بايدن أو ترامب لولاية ثانية.
المفارقة الثانية هي أن الجمهورية الأميركية هي جمهورية فتية حققت كل ابداعاتها بسبب حيويتها وهاجسها بالمستقبل، وإيمانها العميق والتقليدي بالاستثمار في تعليم شبابها وتحضيرهم للمستقبل. هذه الجمهورية الفتية تجد نفسها الآن في ظل طبقة سياسية متقدمة في السنّ، بعض أقطابها لا علاقة لهم بالاختراعات العلمية الجديدة، وتعقيدات الاقتصاديات والتقنيات الجديدة وما يسمى بالذكاء الاصطناعي، وغيرها من الأنماط الجديدة في التواصل الاجتماعي وغيرها. كل هذا يعني أن الولايات المتحدة ستواجه تحديات كبيرة في مواصلة دورها القيادي في العالم في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة التي تواجه فيها التحدي الصيني الاستراتيجي والعلمي الصاعد، وتحدي الدول الأوتوقراطية القديمة من روسيا إلى إيران، والحركات القومية المتشددة والشوفينية من الهند في الشرق إلى هنغاريا في الغرب، ناهيك عن تحدي التغير البيئي وتفشي الأوبئة.