ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
سنة كاملة مرت على اجتياح مئات المتطرفين والعنصريين لصرح الديموقراطية الأميركية، مبنى الكابيتول في قلب العاصمة واشنطن. سنة كاملة تغير فيها كل شيء، ولم يتغير أي شيء. السادس من يناير/كانون الثاني 2021 هو معلمًا تاريخيًا يفترض أن يفصل ما جاء قبله عما لحقه، مثله مثل الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 حين زار الارهاب بأبشع صوره الولايات المتحدة، والسابع من ديسمبر/كانون الأول 1941 حين أغارت الطائرات اليابانية على ميناء بيرل هاربر في هاواي، بادئة بذلك حربًا شاملة انتهت بالحرائق النووية. ولكن أهم ما يميز استحضار الأميركيين للذكرى الأولى لاحتلال المبنى الرئيسي للكونغرس في “عصيان مسلح”، كما وصفه الرئيس بايدن في خطاب موجه للأمة صباح الذكرى السنوية ألقاه من مسرح الجريمة، هو الادراك المحرج لحقيقة لا يمكن نكرانها، وهي أن الظروف والاستقطابات السياسية والثقافية والاجتماعية، التي أوصلت الولايات المتحدة إلى حافة الانزلاق في أزمة دستورية ونزاع أهلي، لا تزال حاضرة بشكل نافر، بل ازدادت تفاقمًا وفقا للمؤشرات التي يمكن قياسها في استطلاعات الرأي، ومن خلال مراقبة المناخ السياسي القاتم في البلاد.
اجتياح الكابيتول أخفق في تحقيق هدفه الآني، أي قلب نتائج انتخابات، صنفها المراقبون المحايدون وحتى المسؤولين الجمهوريين عن الانتخابات في الولايات الحاسمة بأنها الأكثر نزاهة في تاريخ البلاد، وبعد ساعات عصيبة أدت إلى مقتل 5 أفراد وجرح 140 شرطيًا، وتعطيل جلسة الكونغرس، استأنف المشرعون مهامهم الدستورية، وصدّقوا رسميًا على انتخاب بايدن الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة. وخلال الساعات التي عقبت الاجتياح، وعلى مدى يوم أو يومين بعد الاجتياح، بدت البلاد وكأنها تستعيد اتزانها واحياء وحدتها الوطنية التي ألحقت بها ولاية ترامب شروخًا عميقة، بعد اجماع قيادات الكونغرس من الحزبين على إدانة الرئيس ترامب وتحميله مسؤولية التحريض على اجتياح الكونغرس. ولكن التغييرات المفترضة بعد الصدمة غير المسبوقة، والوحدة الوطنية المستعادة بعد الامتحان العسير سرعان ما تراجعت وتبددت، ليعود المناخ المسموم، الذي أوصل البلاد إلى ذلك اليوم المخزي، ليؤكد نفسه من جديد، وفقًا لقاعدة: كلما تغيرت الأمور، بقيت على حالها.
بعد عام على اجتياح الكابيتول، لا تزال الولايات المتحدة دولة عظمى، ولكنها أيضا دولة مرهقة في مواجهة تحديين مكلفين؛ أولهما،جائحة كورونا التي ألحقت بها أكثر من 830 ألف ضحية، وهو أعلى رقم في العالم على الرغم من تقدمها العلمي والتقني. ثانيهما، وانقساماتها السياسية والثقافية العميقة، والتي تذّكر المؤرخين بعقد الخمسينات في القرن التاسع عشر، والذي سبق اندلاع الحرب الأهلية في 1861. الخطاب السياسي الراهن في البلاد – المتسم بالمواقف المتزمتة والمطلقة للقوى السياسية، والتعامل مع الخلافات السياسية وكأنها صراع وجودي، وميل القيادات السياسية والفكرية إلى شيطنة مواقف وطروحات القوى المعارضة لها، واعتبار أي تسويات سياسية أو حلول وسط معها بمثابة الخيانة، مماثل إلى حد كبير للخطاب السياسي الذي هيمن على البلاد قبل انزلاقها إلى حرب أهلية استمرت لحوالي أربع سنوات، والتي لا تزال حتى اليوم الأكثر دموية في تاريخها.
وكما في السنوات التي سبقت الحرب الأهلية، حين طرح الأميركيون على أنفسهم أسئلة عميقة تتعلق بهوية البلاد وطبيعة النظام السياسي الأمثل لها، وجوهر القيم التي يجب أن يتحلى بها المجتمع الأميركي، وما هو دورها في العالم، هذا ما فعله ويفعله الأميركيون منذ انتخاب دونالد ترامب في 2016، ومنذ انتخاب جوزيف بايدن في 2020. الرئيس بايدن في خطابه للأمة بالذكرى الأولى لاستباحة الكابيتول، أعاد طرح هذه الأسئلة، “علينا أن نقرر في هذه اللحظة ما هي الامّة التي نريدها؟ هل سنكون أمة تقبل العنف السياسي كأمر عادي؟ هل سنكون أمة تسمح للمسؤولين الانتخابيين المنحازين لكي يقلبوا رأسا على عقب رغبة الشعب الشرعية؟ هل سنكون أمة تعيش في ظل أضواء الحرية أم في ظل الاكاذيب؟”
الخلافات والانقسامات بين الأميركيين تشمل حتى تسمية ما حدث في الكونغرس قبل سنة. أكثرية الديموقراطيين، وقسم كبير من المستقلين، يصفون ذلك اليوم بالمخزي واحتلال الكابيتول على أنه عصيان عنيف ضد الديموقراطية الأميركية، او كما اتهم بايدن الرئيس السابق وأنصاره بأنهم “وضعوا خنجرا على عنق أميركا”. ولكن أكثر من ثلثي الجمهوريين يرفضون هذه الأوصاف، ويدعّون أن ما حدث كان مظاهرات من أميركيين كانوا يحتجون على “سرقة” الانتخابات من ترامب. وبينما يرى 53 بالمئة من الديموقراطيين أن لجنة التحقيق، التي نظمها مجلس النواب للتحقيق بملابسات الاجتياح ومن المسؤول عنه، يجب أن تواصل عملها المهم “من أجل مستقبل الديموقراطية”، يرى 42 بالمئة من الجمهوريين أن عملها هو “مضيعة للوقت”. مختلف استطلاعات الرأي تبين أن أكثر من ثلثي الناخبين الجمهوريين لا يعتبرون جوزيف بايدن رئيسًا شرعيًا. وهذا حدث غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الأميركية.
وبينما رأى 4 من كل 10 جمهوريين أن العنف ضد الحكومة يمكن أن يكون مبررًا في بعض الأحيان، رفض الديموقراطيون ذلك بنسبة 74 بالمئة، وفقا لاستطلاع أجرته صحيفة واشنطن بوست. ما يجمع عليه الأميركيون هو مقلق بالفعل. فقد جاء في استطلاع لصحيفة يو أس أي توداي أن أكثر من ثمانين بالمئة من الديموقراطيين والجمهوريين والمستقلين يشعرون “بالقلق حول مستقبل الديموقراطية في أميركا”.
وبدلًا من أن يتحول اجتياح الكابيتول إلى حافز لتعزيز وتحصين الديموقراطية الأميركية، نرى أن “شبكة الأكاذيب” التي حاكها الرئيس السابق ترامب، وفقًا لما قاله بايدن في خطابه، أو ما يشير إليه المحللون باسم “الكذبة الكبرى” أي الادعاء بأن انتخابات 2020 كانت مزورة، قد أدت إلى رد أوتوقراطي عكسي تمثل في تغيير القوانين المحلية للانتخابات في حوالي 20 ولاية يسيطر الجمهوريون على مجالسها التشريعية، من أجل خلق العراقيل البيروقراطية والتنظيمية لمنع الناخبين الذين ينتمون إلى الشرائح الاجتماعية أو الأقليات، التي تصوّت تقليديًا للمرشحين الديموقراطيين من ممارسة حقهم الدستوري كمواطنين.
عشية الذكرى الأولى لاجتياح الكابيتول، نشر الرئيس الأسبق جيمي كارتر مقالا بعنوان “أخاف على ديموقراطيتنا” قال فيه، “تقف بلادنا العظيمة على حافة هاوية تتسع باستمرار. وإذا لم تتخذ الإجراءات السريعة فإننا سنواجه بالفعل خطر الانزلاق إلى نزاع مدني ونخسر ديموقراطيتنا الغالية. على الأميركيين أن يضعوا جانبًا خلافاتهم والعمل معًا، قبل فوات الأوان”. المفارقة هي أن الرئيس كارتر، الذي أمضى عقودًا من الزمن بعد مغادرته للبيت الأبيض، وهو يعمل دون كلل لخدمة الديموقراطية في العالم، وخاصة لجهة ضمان وصيانة نزاهة الانتخابات في العالم، في أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، يجد نفسه اليوم مرغمًا على مناشدة الأميركيين العمل على انقاذ الديموقراطية الأميركية من أعدائها في الداخل. الأميركيون يدركون، أو على الأقل كثيرون منهم، يدركون أن النكسة الكبيرة التي تعرضت لها الديموقراطية الأميريكية قبل سنة قد أضعفت الولايات المتحدة، وكل ما تمثله أمام حلفائها وخصومها في العالم. ابتعاد الولايات المتحدة خلال ولاية دونالد ترامب عن قيم الديموقراطية، ومعانقة الرئيس السابق لبعض أسوأ الحكام الطغاة والأوتوقراطيين في العالم، حرم الولايات المتحدة من حق القول بأنها دولة ديموقراطية يحتذى بها. وهذا يفسر انتقادات قادة أوتوقراطيين مثل الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينغ بينغ، وحتى ازدرائهم بالديموقراطية الأميركية، بما في ذلك ادعاء الصين بأنها دولة ديموقراطية حقيقية.
الرئيس بايدن في كلمته للأميركيين اعترف بذلك، حين قال أن الوعد الذي كانت تمثله أميركا كدولة تؤمن بحكم القانون وصيانة شعلة الديموقراطية، “هذا الوعد مهدد الآن، وتهدده قوى تثمن القوة الغاشمة، وتضعها فوق حرمة الديموقراطية، الخوف فوق الأمل، الربح الشخصي فوق المصلحة العامة… نحن نعيش اليوم في مرحلة مفصلية في التاريخ، في الوطن كما في الخارج، نحن في حالة صراع جديد بين الديموقراطية والأوتوقراطية، بين تطلعات الكثيرين وجشع البعض، بين حق الشعوب في تقرير مصيرها وبين المصلحة الضيقة للحكام الأوتوقراطيين”. وأشار بايدن إلى أن روسيا والصين، وغيرها من الدول غير الديموقراطية، تراهن على أن أيام الديموقراطية معدودة، وبأن الولايات المتحدة سوف تصبح مثلهم، وأنه سمع من المسؤولين الصينيين والروس ما معناه أن الديموقراطية بطيئة ومثقلة بالانقسامات وغير قادرة على النجاح في عالم يتغير بسرعة، وأنهم يراهنون على سقوط الولايات المتحدة في قبضة الحاكم الأوتوقراطي أو الديكتاتور أو الرجل القوي.
لا أحد يعلم بيقين، كيف ستبدو الولايات المتحدة في الذكرى الثانية لاجتياح الكابيتول (بعد الانتخابات النصفية)، ولا أحد يعلم كيف سيتعامل الأميركيون مع الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، أو الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024. ولا أحد يعلم ما الذي سيبقى ثابتًا في الجمهورية الأميركية، وما الذي سيتعرض للتحول والتغيير في المستقبل القريب. ولكن ما يمكن قوله بيقين هو أن الولايات المتحدة ستواجه في السنوات المتبقية من ولاية الرئيس بايدن، تحديات تاريخية ومصيرية بالفعل تمس بنظامها الديموقراطي الذي لم يتعاف بعد، وحتى بهويتها ودورها في العالم، وهي تحديات لم تواجه مثلها منذ الحرب الأهلية قبل أكثر من قرن ونصف.