ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
قوبل قرار الرئيس دونالد ترامب المفاجيء تعيين الجنرال أتش آر ماكماستر مستشارا لشؤون الأمن القومي الأمريكي بترحيب واسع في الأوساط المعنية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي. لتبرز مرة اخرى إحدى المفارقات التي ميزت قرارات ترامب في هذا المجال، حيث اختار ثلاثة جنرالات هم ماكماستر ووزيري الدفاع والأمن الوطني جيمس ماتيس وجون كيلي، فضلا عن مدني واحد هو وزير الخارجية ريكس تيلرسون لشغل أهم المناصب في إدارته. اللافت في تعيين المسؤولين الأربعة هو أن مواقفهم وتجاربهم وأسلوب عملهم تختلف جذريا عن مواقف ترامب، وتنسجم إلى حد كبير مع المفاهيم التقليدية للجمهوريين، مثل صيانة الأحلاف الدولية، وفي طليعتها حلف شمال الأطلسي (الناتو) والعلاقات الوثيقة التي أقامتها واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية مع دول مثل اليابان وكوريا، ودول الخليج العربية، واعتماد سياسة التنافس والاحتواء في التعامل مع الاتحاد السوفياتي السابق خلال الحرب الباردة، ومع روسيا الاتحادية منذ ولادتها قبل ربع قرن. المسؤولون الأربعة، يختلفون عن ترامب أيضا في سلوكهم الشخصي.
وبينما يميل ترامب إلى إطلاق الأحكام السلبية السريعة، وتتسم ردود فعله بالتهور والنرجسية والمبالغات المفرطة، يتسم سلوك المسؤولين الأربعة عن الأمن القومي بالتأني والدقة في صنع القرار، بعد إجراء المشاورات الضرورية. وبما أن الجنرالات الثلاثة خدموا وشاركوا في حربي أفغانستان والعراق وفي مواجهة إرهاب القاعدة، فقد اكتسبوا خبرة ومعرفة بتعقيدات الأوضاع السائدة في المنطقة، وطوروا نظرة موضوعية لهذه المجتمعات الإسلامية جعلتهم يميزون – بعكس الرئيس وبعض المستشارين المقربين منه- بين الدين الإسلامي والتنظيمات الإرهابية والمتطرفة التي تلف نفسها بعباءة إسلامية مزيفة. وربما أهم صفة يتحلى بها هؤلاء الأربعة هي أنهم يتمتعون بشخصيات قوية تسمح لهم بالاستقلالية في التفكير وشجاعة على طرح آرائهم والدفاع عنها حتى ولو جاءت متناقضة مع طروحات الرئيس. وربما لهذا السبب وصف مسؤول استخباراتي سابق، في حديث خاص معه، الجنرالات ماكماستر وماتيس وكيلي بمعسكر “الراشدين” في إدارة الرئيس ترامب.
الراشدون الأربعة
عاجلا أم آجلا، سيجد “الراشدون” أنفسهم في مواجهة مع مجموعة صغيرة ولكن نافذه للغاية من المستشارين المقربين من الرئيس ترامب في البيت الأبيض، معظمهم عملوا معه عن كثب خلال الحملة الانتخابية ويشاطرونه في بعض أوهامه ومخاوفه وطروحاته، مثل رفضه لاتفاقيات التجارة الدولية، ونظرته السلبية لحلف الناتو وتشكيكه بجدوى الاتحاد الأوروبي، ومواقفه العدائية من المسلمين والمهاجرين واللاجئين، وخاصة القادمين من المكسيك وأمريكا الوسطى والجنوبية ومن العالم الإسلامي وأفريقيا. وأبرز هؤلاء مستشار ترامب للشؤون السياسية والتخطيط الاستراتيجي ستيفن بانون الذي يحتل منصبا موازيا لمدير البيت الأبيض راينس بريبوس، والذي جلب معه عددا من المساعدين المتشددين الذين يشاطرونه آرائه المتشددة. وكان بانون حتى أغسطس/آب الماضي رئيس تحرير المطبوعة الالكترونية “بريتبارت” الذي حولها إلى منبر للقوميين البيض، والمعادين للإسلام والمهاجرين، واستعادة “السيادة” الأمريكية بعد الانسحاب من اتفاقيات التجارة الدولية واعتماد سياسة “الاقتصاد القومي”. وسوف يواجه الجنرال ماكماستر تحديا مباشرا من بانون وفريقه في البيت الأبيض خاصة وأنه أسس ما يسمى “بفريق المبادرات الاستراتيجية” للتقدم بمقترحات في مجالي السياسة الخارجية والداخلية للرئيس ترامب. ويرى البعض هذا الفريق بمثابة بديل مصغر لمجلس الأمن القومي، أو مجلس أمن قومي “في الظل”. ويعتبر بانون أبرز وأقوى مساعدي ترامب، وكان ضالعا بالعمق في جميع “القرارات التنفيذية” التي وقعها الرئيس ترامب في شهره الأول.
وحتى الذين لا ينظرون بإيجابية لتعيين ضباط متقاعدين في مناصب سياسية بارزة، اثنوا على هذه التعيينات، لأنها أفضل بكثير من تعيينات ترامب في وزارات العدل والتعليم والمالية وغيرها، وهي تعيينات أثارت الكثير من الجدل والاستياء في أوساط الديمقراطيين والمستقلين والأخصائيين، لأن الهدف منها هو إدخال تغييرات إدارية وحكومية جذرية ونقض وتفكيك، ليس فقط إرث الرئيس السابق باراك أوباما، وتحديدا قانون الرعاية الصحية (أوباما كير) بل أيضا نقض معظم المفاهيم الأرثوذوكسية الجمهورية، وفي طليعتها مفهوم التجارة الدولية الحرة، ومفهوم العولمة والأحلاف والمؤسسات التي بنتها الولايات المتحدة منذ سبعين سنة واستخدمتها في قيادتها العالمية. ويوم الخميس، قال بانون – خلال مداخلة علنية نادرة أمام منظمة محافظة- إن “إحدى أهم اللحظات المحورية في التاريخ الأمريكي الحديث كانت حين قرر (ترامب) الانسحاب الفوري من اتفاقية الشراكة (الاقتصادية) في المحيط الهادئ. هذا أخرجنا من اتفاق تجاري وجعلنا نستعيد سيادتنا”. وشدد بانون على أن الهدف الرئيسي لإدارة ترامب هو ما اسماه “تفكيك الدولة الإدارية”، من خلال التخلص من القيود المفروضة على عمل الشركات (حماية البيئة وحماية حقوق العمال وغيرها من الممارسات) والتي ادعى بانون أن “اليسار التقدمي”، في إشارة ضمنية إلى الحكومات الديمقراطية وآخرها حكومة أوباما، فرضها على الاقتصاد الأمريكي. وانتقد بانون الاعلام الأمريكي والعالمي الذي يعارض بشدة “الأجندة الاقتصادية القومية” التي طرحها الرئيس ترامب. وفي إشارة إلى أنه يتوقع معركة سياسية ضارية ضد معارضي سياسات ترامب، الذين المح أنهم خطفوا البلاد. وقال بانون للجمهور المحافظ ” إذا كنتم تعتقدون أنهم سيعيدون لكم البلاد دون قتال، فأنتم مخطئون جدا”.
من يتحدث باسم واشنطن؟
خلال الأيام العشرة الماضية قام الوزيران ماتيس وتيلرسون، إضافة إلى نائب الرئيس مايك بنس ومدير وكالة الاستخبارات المركزية بجولات أوروبية وزيارات لعواصم عربية، كان هدفها الأساسي طمأنة حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة بأن إدارة ترامب تتمسك بالمسلمات القديمة التي بنيت عليها السياسة الخارجية لعقود طويلة خلال عهود الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين، مثل التمسك بحلف الناتو ودعم الاتحاد الأوروبي وعدم التخلي عن الموقف المتصلب ضد روسيا بسبب تدخلها العسكري في أوكرانيا واحتلالها لشبه جزيرة القرم، وبسبب تدخلها العسكري الدموي في سوريا. نائب الرئيس بنس كرر في أكثر من مناسبة التزام الولايات المتحدة بحلف الناتو ودعمها للاتحاد الأوروبي. ولكن وفقا لتقارير صحفية اجتمع المستشار بانون، قبل أيام من زيارة نائب الرئيس بنس إلى بروكسل، مع السفير الألماني المعتمد في واشنطن بيتر ويتيغ وقال له إن الاتحاد الأوروبي هيكل “متصدع”، وإن الولايات المتحدة تفضل التعامل مع الدول على أساس اتفاقيات ثنائية وليس جماعية. ويثير مثل هذا التناقض الصارخ في المواقف بخصوص الاتحاد الأوروبي الأسئلة من جديد حول من يتحدث باسم واشنطن؟ حتى الآن، وبسبب بطء الوزير تيلرسون في تعيين نائب له وانتقاء مساعديه المختصين بالمناطق الجغرافية المختلفة (البيت الأبيض رفض الموافقة على قراره تعيين المسؤول السابق في إدارة الرئيس جورج بوش الابن، اليوت ابرامز نائبا له) فإن البيت الأبيض لا يزال يسيطر إلى حد كبير على صنع وشرح القرارات الخارجية. ويتعرض تيلرسون لضغوط من داخل وزارته ومن الخارج لكي يؤكد صلاحياته ورفض هيمنة البيت الأبيض كليا على السياسة الخارجية. وكان هناك استياء كبير في أوساط موظفي الخارجية، لأن البيت الأبيض لم يستشر تيلرسون والمسؤولين المعنيين بالشرق الاوسط في الوزارة حين قرر تعديل سياسته المتعلقة بحل الدولتين خلال زيارة رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو لواشنطن. كما كان تيلرسون غائبا إلى حد كبير عن المحادثات التي أجراها ترامب مع رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، فضلا عن رئيس وزراء اليابان شينزو آبي.
يبقى أن الرئيس الأمريكي، وليس وزير خارجيته هو الذي يحدد أطر السياسة الخارجية وأولوياتها. وحتى الآن لم يحدد ترامب ما هي هذه الأولويات بوضوح. وهناك من يطالبه بأن يفعل ذلك في خطاب مخصص لهذا الموضوع. وما يقلق المحللين والوزارات والأجهزة المعنية بالأمن القومي والسياسة الخارجية، هو أن الرئيس وخلال أول شهر له في البيت الأبيض اعتمد مواقف سياسية علنية، قام بعدها بأيام بنقضها دون أن يبالي بشرح أسباب التغيير، ومن بينها موقفه من الصين. وحتى الآن لا يزال الرئيس ترامب يصر على حقه بتحديد ونشر وشرح تعقيدات السياسة الخارجية في تغريدات صباحية بعضها مبهم أو ناقص، ويساهم في خلق المشاكل كما حدث مؤخرا عندما المح ترامب –خطأ- إلى وقوع حوادث عنف في السويد، بعد أن شاهد برنامج بثته شبكة فوكس نيوز حول السويد والمهاجرين واللاجئين الذين قدموا إليها من الشرق الأوسط. هذا يعني، نظريا على الأقل، أن الرئيس قادر وبتغريدة واحدة على احراج وزرائه إذا خالف مواقفهم.
الهاجس الإيراني
كان موضوع التصدي للسياسات الإيرانية السلبية في العراق وسوريا واليمن، إضافة إلى احتمال إنشاء مناطق آمنة في سوريا من أبرز القضايا التي ناقشها الوزير ماتيس مع ولي عهد دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد، وهي مسألة ناقشها أيضا مدير وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي أي” مايك بومبيو مع ولي عهد المملكة السعودية الأمير محمد بن نايف.
وبعكس إدارة الرئيس السابق باراك أوباما التي بذلت جهودا كبيرة لتفادي أي مواجهة مع إيران، على الرغم من الاستفزازات الإيرانية العسكرية والسياسية في الخليج والتدخل العسكري المباشر وغير المباشر في العراق، وتسليح المعارضين الحوثيين، هناك إجماع بين كبار المسؤولين الأمريكيين، يشمل “الراشدين” والمتشددين، حول ضرورة التصدي لإيران لوقف سلوكها التخريبي في المنطقة. هذا الموقف المتشدد لا يزال قيد الدراسة لتحديد كيفية التعامل مع بعض الإجراءات الإيرانية، وهو يحظى حتى بدعم من قيادات ديموقراطية في الكونغرس. ويلتقي كبار المسؤولين في إدارة ترامب حول ضرورة التصدي لإيران لأنها تشكل الخطر الأكبر على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الخليج. الموقف الأمريكي السلبي تجاه إيران لا يشمل الانسحاب من الاتفاق النووي الموقع في 2015 بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد، ولكن هناك رأي سائد بضرورة ارغام “الإمبراطورية الفارسية” كما يصفها مسؤول كبير على دفع ثمن لتسليحها الثوار الحوثيين، وتدخلها العسكري في سوريا، والأهم من ذلك إقناع إيران بأن هناك “شرطي جديد في البلدة”، كما قال مسؤول سابق مطلع على أجواء الإدارة الجديدة تجاه إيران.
وإذا قررت واشنطن كما هو متوقع زيادة حضورها العسكري في مياه الخليج وبحر العرب، وبدأت بتطبيق سياسة حازمة في اعتراض السفن الإيرانية المتجهة إلى اليمن لوقف تزويد الحوثيين بالأسلحة فإن حدوث مواجهة بحرية أو جوية بين القوات الأمريكية والإيرانية، سوف تصبح مسألة وقت فقط.