عادت الحواجز الحديدية المؤقتة مساء الأربعاء لتحيط من جديد بمبنى الكابيتول، وعادت معها الاجراءات الأمنية المشددة لحماية مباني الكونغرس في خطوة استباقية للتظاهرة التي سينظمها مؤيدو الرئيس السابق دونالد ترامب ظهر يوم السبت احتجاجًا على سجن ومعاقبة مئات المتطرفين الذين اجتاحوا مبنى الكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني الماضي. وسوف تجري التظاهرة تحت شعار “العدالة لمتظاهري السادس من يناير”.
ويتوقع منظم التظاهرة مات برينارد، وهو مسؤول سابق في حملة ترامب الانتخابية أن يشارك فيها أقل من ألف متظاهر، وقال أنه أكد للسلطات الأمنية أنها ستكون سلمية، وأن المتظاهرين لن يحملوا أي صور للرئيس السابق ترامب. المسؤولون في شرطة الكونغرس وشرطة مدينة واشنطن قالوا إنهم يخططون لمواجهة أي أعمال عنف يمكن أن يقوم بها بعض المتظاهرين، وأشاروا إلى أنهم طلبوا من الحرس الوطني أن يكون مستعدًا للتدخل السريع إذا دعت الضرورة، وأضافوا أنه ليس لديهم معلومات مؤكدة حول احتمال حدوث أعمال عنف. وتمثل التظاهرة أول امتحان للإجراءات الأمنية التي تم اعتمادها لحماية مباني الكونغرس منذ الاجتياح.
قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس وخارجه أبعدوا أنفسهم عن التظاهرة، التي ستعيد إلى أذهان الأميركيين الذكرى المؤلمة للاجتياح العنيف للكونغرس، خاصة وأن التحقيقات لا تزال مستمرة مع مئات المشتبه بهم. وحتى الآن تم توقيف أكثر من خمسمائة متظاهر، ووجهت إليهم تهم الاعتداء على أفراد الشرطة أو تخريب الممتلكات العامة. وليس من المتوقع أن يشارك أي عضو جمهوري في الكونغرس في التظاهرة.
ويدّعي منظمو التظاهرة أن الموقوفين، جراء اجتياح الكابيتول، هم “سجناء سياسيين”، ويتعرضون للاضطهاد وسوء المعاملة في السجون بسبب مواقفهم السياسية، وذلك على الرغم من اعتراف بعض المعتقلين بارتكابهم لجرائم جنائية خلال الاجتياح الذي أدى إلى مقتل خمسة أشخاص وجرج أكثر من مئة شرطي.
وتأتي التظاهرة بعد أسبوع من الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر/أيلول الارهابية، وفي الوقت الذي تستمر فيه انتقادات القادة الجمهوريين للرئيس بايدن وكبار مساعديه بسبب الفوضى وأعمال العنف التي أحاطت بالانسحاب العسكري من افغانستان واجلاء الرعايا من مطار كابول. كما تأتي التظاهرة على خلفية استمرار محاولات القيادات الجمهورية في عدد من الولايات الهامة التشكيك في فوز الرئيس بايدن في الانتخابات، على الرغم من وجوده في البيت الأبيض لأكثر من ثمانية أشهر. ونجح الجمهوريون، الذين يتمتعون بأكثرية الأصوات في المجالس التشريعية المحلية في بعض الولايات، في تغيير قوانين وقواعد الانتخابات، للحد من مشاركة الناخبين الديموقراطيين في الانتخابات المقبلة. وتبين استطلاعات الرأي أن ثلثي الناخبين المسجلين كجمهوريين لا يعترفون بفوز بايدن بالرئاسة.
الاستقطابات السياسية والخلافات الايديولوجية بين الحزبين الرئيسين في البلاد ليست جديدة، وإن كانت هذه الخلافات خلال ولاية الرئيس السابق ترامب قد ازدادت حدة وشراسة. ولكن أكثر ما يقلق في هذه الاجواء المشحونة، التي خلفتها تركة ترامب السياسية، هو ازدياد عدد الناخبين الجمهوريين الذين يقولون أن استخدام العنف مبرر للدفاع عن مصالحهم وطروحاتهم. الدراسات والاحصائيات التي أجريت في السنوات الماضية أظهرت ازديادًا ملحوظا في عدد الأميركيين الذين يبررون استخدام العنف لأسباب سياسية، وخاصة من قبل الناخبين الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة. ووصلت نسبة الناخبين الجمهوريين الذين يقبلون باستخدام العنف لأسباب سياسية إلى 39 بالمئة.
قبل هجمات سبتمبر/أيلول الإرهابية، التي ارتكبها تنظيم القاعدة، والتي تعتبر الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة، وأدت إلى مقتل حوالي 3 آلاف مدني، كان تفجير المبنى الفيدرالي في مدينة أوكلاهوما سيتي في 1995 من قبل ارهابيين أميركيين، هو العمل الارهابي الأكبر في تاريخ البلاد والذي أدى إلى مقتل 168 مدنيًا. في العقدين الماضيين شهدت الولايات المتحدة ازديادًا ملحوظًا في أعمال العنف التي ترتكبها جماعات يمينية متطرفة وعنصرية ومتزمتة دينيا. وصاحب هذا العنف المادي ازديادًا ملحوظًا في حدة وتطرف السجال السياسي.
هذا العنف العنصري والمتطرف وصل إلى دور العبادة، وشمل قتل المصلين في الكنائس والمعابد اليهودية، والاعتداء على المساجد، ومختلف أنواع التمييز ضد المؤمنين من غير المسيحيين، شمل أول جريمة قتل جماعي لليهود في الولايات المتحدة، عندما هاجم ارهابي مسلح كنيسًا قديمًا لليهود في مدينة بيتسبيرغ، بولاية بنسلفانيا في أكتوبر/تشرين الأول 2018 وقتل 11 مصليًا.
وجاء في دراسة نشرت في مجلة “فورين آفيرز” أن 48 أميركيًا قد قتلوا في سنة 2019 على يد ارهابيين أميركيين، وأن 39 من هذه الهجمات قام بها عنصريون من دعاة تفوق العنصر الأبيض، ما يجعل تلك السنة الأكثر دموية منذ تفجير أوكلاهوما سيتي في 1995. وفي سنة 2020 تضاعف عدد الهجمات الارهابية الداخلية إلى أعلى مستوياته منذ منتصف تسعينات القرن الماضي. وفي شهر مارس/آذار هذه السنة وصل عدد التحقيقات في أعمال العنف الارهابي الداخلي، التي يقوم بها مكتب التحقيقات الفيدرالي (الأف بي آي) إلى ألفين، أي حوالي ضعف التحقيقات التي أجريت في سنة 2017.
ظاهرة العنف والارهاب الداخلي هذه ليست محصورة في الولايات المتحدة، ولها أصداء في بعض المجتمعات الأوروبية، ويجب فهمها ومعالجتها في سياق قبول مفاهيم التعصب والتشدد من قبل أعداد متزايدة من الناخبين، الذين يعتقدون أن السلطات تحاول تهميشهم أو تغيير أنماط حياتهم. اللغة السياسية النابية والمتعصبة ونظريات المؤامرة والصور النمطية حول المهاجرين، التي جلبها معه الرئيس السابق ترامب، ساهمت في “شرعنة” التزمت والتعصب سواء إن كان في اللغة أو في الممارسات السياسية.
معظم المؤشرات السياسية والاجتماعية تبين أن هذه الاجواء المشحونة التي تهيمن على البلاد مرشحة للاستمرار حتى الانتخابات النصفية في نوفمبر/كانون الثاني 2022، وانتخابات الرئاسة في نوفمبر/كانون الثاني 2024. وفي غياب فرص حدوث انفراجات سياسية في المستقبل المنظور، فإن احتمالات ازدياد وتيرة الارهاب الداخلي مرشحة للازدياد.
وهذا يعني أن الولايات المتحدة، التي اهتزت مكانتها الدولية في أعقاب الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، سوف تواجه في السنوات المقبلة التحديات الخارجية المتمثلة بالسياسات الصدامية التي تعتمدها الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، وجبهتها الداخلية، للمرة الأولى منذ اضطرابات عقد الستينات في القرن الماضي، مفككة وغير متماسكة، وقيادتها للعالم الديموقراطي غير موثوق بها من قبل حلفائها التقليديين، وحتى من قبل عدد متزايد من المواطنين الأميركيين.