انهالت الأخبار السياسية الصادرة عن جزيرة مملكة البحرين الصغيرة بشكل سريع ومتكرر في فصل الصيف هذا، مصحوبةً بمجموعة من التدابير التي اتخذها كلٌّ من المحاكم والبرلمان والقوات الأمنية لتعيد فعليًا رسم المشهد السياسي الرسمي في البلاد. ولعل هذه التدابير وجّهت الضربة القاضية للاستراتيجية المتبعة في السنوات الأولى من حكم الملك حمد بن عيسى آل خليفة عندما دُعي السياسيون المعارضون إلى العودة من المنفى وأعيد تشكيل البرلمان وتعديل صيغة الاقتصاد لتحسين دمج المجتمع الشيعي الذي يعتمد بشكل غير متناسب على القطاع الخاص لإيجاد فرص العمل. .
إلا أن الائتلاف الإسلامي الشيعي المنبثق عن المساومة الوطنية التي حصلت على ميثاق العمل الوطني للعام ٢٠٠١ بات اليوم مفجوعا: إذ زُجّ زعيمه السياسي في السجن وجُرّد زعيمه الروحي من جنسيته البحرينية، وبالكاد استغرق أمر فضّ هذا الائتلاف وتنفيذه بشكل رسمي بضعة أسابيع. فما الذي دفع الحكومة إلى إلحاق هذه الضربة القاضية بمعارضة ضعيفة أصلاً؟ وما هي التداعيات التي ستترتب على السياسات الإقليمية ومصالح الولايات المتحدة؟
نهاية “حركة الوفاق”
خلال الأشهر القليلة الماضية، أزالت الحكومة البحرينية الغموض الذي كان يلفّ موقفها من المعارضة الشيعية الإسلامية. ففي شهر أيار/مايو، قامت محكمة استئناف بحرينية برفع مدة العقوبة الصادرة بحق الأمين العام لـ”لحركة الوفاق” الشيخ علي سلمان من أربع إلى تسع سنوات. وفي حزيران/يونيو، علّقت الحكومة رخصة “حركة الوفاق” إذ اتهمتها بخلق “بيئة مؤاتية للإرهاب والتطرف والعنف”. وبعد أسبوع تقريبًا، سحبت الحكومة الجنسية من القائد الروحي “لحركة الوفاق” وأبرز رجل دين شيعي في البحرين آية الله الشيخ عيسى قاسم بتهمة استغلال “المنبر الديني لأغراض سياسية [و] لخدمة المصالح الأجنبية.” وفي ١٧ تموز/يوليو، وضعت المحاكم البحرينية لمساتها الأخيرة على الإجراءات من خلال حلّ “حركة الوفاق”، هذه الجمعية السياسية التي استحوذت في الماضي على حوالي نصف المقاعد في البرلمان البحريني المنتخب.
والجدير بالذكر هو أن الحملة ضد المعارضة الشيعية نُفّذت ضمن الإطار القانوني للتعديلات الجديدة التي أُدخلت على قانون الجمعيات السياسية وقضت بفصل الدين عن السياسة وبمنع رجال الدين من الترشح إلى البرلمان. ولكن حتى الآن، لم يطبَّق القانون إلا على المعارضة الشيعية الإسلامية. أما الحكومة فتعتمد عوضًا عنها على كتلة “الشراكة الوطنية”، وهي كتلة نيابية جديدة “غير سياسية” ومتعددة الطوائف يمكن الاتكال عليها بالتصويت لصالح السياسات التي ستتخذها الحكومة. كما أن هذه الأخيرة تُعدّ جيلًا جديدًا من السياسيين من صفوف العائلات الشيعية الرائدة التي كانت حليفة آل خليفة منذ الأيام الأولى للنظام الملكي. وفي الوقت عينه، ترفع القواعد البرلمانية الداخلية الجديدة من مستوى معايير استجواب الوزراء، ما يحدّ من الصلاحيات الجديدة الممنوحة للبرلمان بموجب التعديلات الدستورية لعام ٢٠١٢. إنّ هذه التدابير القانونية المرتكزة على التدابير السابقة التي تمنع التجمعات السياسية والمصحوبة بجولة مكثفّة من نزع الجنسيات والاعتقالات طالت القادة الدينيين الشيعة والناشطين السياسيين من غير رجال الدين، تهدف إلى حصر النشاط السياسي ببرلمان خاضع لسيطرة أكثر إحكامًا من خلال القيود المفروضة على المشاركة والمراقبة ككل.
والواقع أن التصعيد ضد المعارضة التي سبق أن أنهكتها الاعتقالات وقيّدتها أحكام القوانين والتدابير الأمنية الجديدة، أربك الكثيرين بمن فيهم المسؤولين الأمريكيين. ومع ذلك، فقد استكملت هذه الخطوات، بكل بساطة وبطرق مهمة، المسار السياسي الذي أبصر النور بعد فشل المفاوضات السياسية التي أجريت مع الجمعيات السياسية القانونية في خضم انتفاضة العام ٢٠١١ وبعد إضعاف ولي العهد البحرينيي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة من قبل منافسيه الملكيين المتمركزين في الأجهزة الأمنية والديوان الملكي. وتفترض العقلية السائدة لدى القيادة البحرينية أنّ ميل الحركات السياسية الإسلامية الشيعية إلى إيران وقربها من السلطة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي يشكّلان خطرًا عليها. وبناءً على هذا الاعتقاد، يمكن اعتبار أن الزحف الإقليمي الذي قامت به إيران والخطوات السياسية التي أخذتها الولايات المتحدة ناهيك عن الاعتماد المتزايد على المملكة العربية السعودية، كلها أسبابٌ أدت إلى اتخاذ هذا القرار.
العامل الإيراني
من منظار دول الخليج العربية، لطالما عملت طهران على تعزيز مكانتها على نطاق واسع من الشرق الأوسط. أما بالنسبة إلى إيران، فإقرار “خطة العمل المشتركة الشاملة” أو الاتفاق النووي الإيراني – وإن لم ينجح في فتح منفذ سياسي مع الولايات المتحدة – أتاح زيادة الاستثمارات القادمة من الدول المجاورة وأوروبا، وترافق ذلك مع زيادة في صادرات النفط. وفي سوريا، تم تكثيف التعاون الإيراني الاستراتيجي مع روسيا وحكومة الرئيس بشار الأسد في الحرب ضد المعارضة السورية والقوات الجهادية كما تبيّن من المعركة على حلب التي ربما تكون حاسمة. وفي العراق، ثبُت أن نجاح العملية ارتكز على الدور الذي اضطلعت به إيران في التخطيط للهجوم الأخير على الفلوجة الخاضعة لسيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (“داعش”) وفي التنسيق بين القوات المسلحة العراقية وقوات الحشد الشعبي. وبالنسبة إلى الرأي العام الخليجي السني الذي لا ينفكّ ينظر إلى الصراعات الإقليمية من منظار طائفي بوتيرة متزايدة، فإن وصول تعزيزات “حزب الله” إلى حلب ورفع أعلام الميليشيا الشيعية إلى جانب الأعلام العراقية في الفلوجة يمثل نموذجًا مرعبًا عن التعبئة الشيعية المدعومة من إيران على الأراضي العربية.
تصرّ الحكومة البحرينية أن الأعمال التخريبية الإيرانية سبق أن بدأت في البلاد. وعلى سبيل المثال، ادعت المنامة في العام ٢٠١٣ أن إيران شحنت أسلحة إلى الجماعات المسلحة الشيعية في البحرين عبر قارب سريع قادم من العراق. وتردد صدى هذا الادعاء في تقريرٍ صدر في العام نفسه عن وزارة الخارجية الأمريكية، ولكن ليس من الواضح بعد حجم التورط الإيراني في الحادثة. وقد صعّدت الحكومة هذا الادعاء فحاكمت 138 شخصًا، كثيرون منهم في محاكمات غيابية، بتهمة الانتماء إلى خلية إيرانية ملقّبة بـ “لواء ذو الفقار”.
وفي حين أن المعارضة البحرينية والكثيرين في مجتمع حقوق الإنسان يشككون في هذه الاتهامات، تقرّ شخصيات المعارضة المعتدلة خلال المحادثات الخاصة والمقابلات العلنية أنه في ظل تقلّص فسحة الطعن الشرعي، يوصي بعض أفراد المعارضة بالتماس الدعم من جهات خارجية، ومن ضمنها إيران. وقد أعرب نائب سابق بارز في “حركة الوفاق” عن قلقه من تسارع هذه التفجيرات التي طالت الأماكن العامة كتلك التي اجتاحت البحرين في تسعينيات القرن العشرين والتي لا تزال تُنفّذ بين الفينة والأخرى منذ العام 2011. ويبقى السؤال ما إذا كانت طهران ستعتبر أن التصعيد الأخير للحكومة ضد المعارضة، ولاسيما ضد كبار رجال الدين الشيعة، يستدعي تصعيدًا من جانبها.
أما في الداخل الإيراني، فلقي قرار إسقاط الجنسية عن الشيخ عيسى القاسم انتقادات في صفوف الحكومة. وأصدرت وزارة الخارجية الإيرانية بيانًا اتهمت فيه ملوك البحرين بـ”مواجهة الاحتجاجات الشعبية السلمية بتدابير أمنية مكثفة وسجن الزعماء ]السياسيين[ المعتدلين والناشطين في مجال حقوق الإنسان وإغلاق مكاتب المؤسسات السياسية والاجتماعية السلمية”. وعلاوةً على ذلك، أصدر 252 نائبًا في البرلمان الإيراني بيانًا أدانوا فيه أعمال مملكة الجزيرة مستشهدين بانتهاكات حقوق الإنسان المحددة في الأمم المتحدة.
هذا وتأتي المؤسسات الأمنية الإيرانية الرئيسية وحلفاؤها الشيعة لتُضاف إلى المعادلة. فقائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني وصف سوء المعاملة التي تعرّض لها قاسم بخطٍّ أحمر من شأنه “ألا يترك أمام شعب ]البحرين[ مفرًا من خيار المقاومة المسلحة”. وفي لبنان، صرّح الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله أن “سحب الجنسية من آية الله الشيخ عيسى القاسم الضعيف والطاهر والشجاع هو خطوة بالغة الخطورة.” إلا أن المرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي – فيما أدان معاملة البحرين للقاسم – شدد على أن إيران لن تتدخل “بأي شكل من الأشكال” في شؤون البحرين.
الخطط الأمريكية تضلّ طريقها
من الممكن أيضًا أن تتعقّد الأهداف التي تنوي الولايات المتحدة تحقيقها في الخليج بسبب تفاقم التوترات الإقليمية والبحرينية. فقد واجهت واشنطن صعوبة في ضبط مخاوفها الأمنية والسياسية بشأن الجزيرة البحرينية حيث يتواجد الأسطول الخامس للبحرية الأميركية. وفي تشرين الأول/أوكتوبر 2011، حظرت واشنطن عمليات بيع الأسلحة إلى المملكة كردٍّ على حملة القمع الوحشية التي استهدفت المحتجّين الشيعة المطالبين بالإصلاح السياسي. ثم استشهدت إدارة الرئيس باراك أوباما ببعض التحسينات القيّمة التي حققتها الحكومة بقيادة آل خليفة في مجال حقوق الإنسان وبالجهود التي بذلتها لتحقيق المصالحة، ورفعت الحظر عن بيع الأسلحة إلى وزارة الدفاع في حزيران/يونيو 2015.
وفي الآونة الأخيرة، ركّزت الولايات المتحدة أهدافها السياسية على الدعوة إلى اتخاذ تدابير لبناء الثقة من أجل تحفيز المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة التي ستجري عام 2018، وهي رسالة نقلها وزير الخارجية جون كيري على أعلى المستويات خلال زيارته إلى البحرين في شهر نيسان/أبريل. وبالتالي يعتبر حلّ الجمعية السياسية الشيعية الرئيسية بمثابة انتقادٍ لاذع للسياسسة الأمريكية وحجر عثرة كبير في طريقها. وقد ردّت وزارة الخارجية الأمريكية ببيان صادر عن كيري يشير إلى تضارب أعمال الحكومة البحرينية مع المصالح الأمريكية ويدعو قياداتها إلى تغيير مسارهم “والعودة بشكل عاجل إلى مسار المصالحة.”
ومع ذلك، فقد بدت الولايات المتحدة مترددة في استخدام نفوذها السياسي – مهما كان عليه – للضغط على الحكومة البحرينية من أجل إجراء المزيد من الإصلاحات. فالمراجعة التي أجرتها وزارة الخارجية في شهر حزيران/يونيو لإنجازات اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق شجّعت الحكومة على تطبيق إصلاحات في السياسة وحقوق الإنسان، إلا أنها امتنعت عن تقييم أثر السياسات البحرينية على الأمن الأمريكي في المنطقة كما هو مفروضٌ من قبل الكونجرس. ومن المحتمل أن ترجح كفة الميزان بين الأهداف التي ترسمها سياسات الولايات المتحدة الداخلية والإقليمية للبحرين نتيجة التفضيلات الجوهرية للمملكة العربية السعودية، هذه الدولة التي تتمتع بنفوذ هائل ومتعاظم في البحرين.
نفوذ المملكة العربية السعودية يسبب القلق
يسهل تبرير القرار القاضي بإلغاء المعارضة سياسيًا على ضوء الاضطرابات الإقليمية والانقسامات الطائفية وفي إطار سياسة خليجية عربية تقودها المملكة العربية السعودية وتتمثل بمواجهة إيران بشكل مباشر. وفي تدبيرٍ يذكّرنا بإعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر في السعودية إلى جانب عدة مخربين منتمين إلى “تنظيم القاعدة”، ترافقت الخطوات التي اتخذتها البحرين ضد المعارضة الشيعية مع محاكمة وإدانة 24 شخصًا بتهمة انتمائهم لإحدى خلايا “داعش”.
والواقع أن الأعمال البحرينية تجسّد الحزم والجزم الإقليمي اللذين تنادي بهما القيادة السعودية الجديدة في ظل حكم الملك سلمان بن عبد العزيز وابنه ولي ولي العهد محمد بن سلمان. وفي فترة تشهد انخفاضًا في أسعار النفط وتقشفًا ماليًا، بات اعتماد البحرين على الدعم السياسي من المملكة السعودية المجاورة وبوتيرة أعلى على مساعداتها الاقتصادية يتّصف بازديادٍ واضح. مع ذلك، وفيما تروج السياسات السعودية لروح جديدة من القومية العربية السنية، تعلن البحرين عن إخلاصها لوحدة الخليج وتعرب عن تضامنها في المواجهة مع إيران.
إنّ استراتيجية البحرين السياسية تعكس لا بل تؤجج التوترات الإقليمية بين إيران ودول الخليج العربية وتزيد من حدة المعضلات التي تواجهها الولايات المتحدة في سياساتها. ومن غير المرجح أن تنجح عملية تشكيل نخبة شيعية تقليدية في كبح موجة الغضب النابعة من حملة القمع التي تشنها الحكومة البحرينية على رجال الدين الشيعة والمعارضة الأوسع التي يقودها الشيعة، ولاسيما في العديد من القرى المتفرعة من العاصمة. ومع ذلك، قد تقع مسؤولية إنهاء الاضطرابات في البحرين – السياسية والاقتصادية على حدٍّ سواء – أكثر فأكثر على عاتق المملكة العربية السعودية وقد تستمر إلى حين مصالحة الرياض مع خصمها الإيراني.
كريستين سميث ديوان هي باحثة مقيمة أولى في معهد دول الخليج العربية في واشنطن.
مايكل اصفهاني هو باحث مساعد في معهد دول الخليج العربية في واشنطن. تابعوه عبر حسابه على تويتر @mesfahan.