خلال الأسابيع الماضية بدأ الرئيس جوزيف بايدن بتوجيه الانتقادات العلنية في خطبه وفي مقابلاته التلفزيونية للأساليب الدموية التي يستخدمها رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو في إدارته للحرب ضد قطاع غزة، بما في ذلك اتهام القوات الإسرائيلية بممارسة “القصف العشوائي” ضد سكان القطاع، ومنع أو عرقلة وصول الإمدادات الغذائية والطبية للسكان المنكوبين، والاستيلاء على مواد طبية أو إغاثية أخرى لا يمكن استخدامها لأغراض عسكرية، وفقاً لمنظمات الإغاثة الدولية. وشملت هذه الانتقادات الحديث عن إمكانية فرض “خطوط حمراء”، وحتى التلويح بقطع أو تخفيض المساعدات الأميركية لإسرائيل إذا اجتازت هذه الخطوط.
قيام البيت الأبيض بين وقت وآخر بالتراجع عن هذه التهديدات من خلال ما يسمى “توضيحها”، لم يغير من حقيقة أنها عكست مشاعر الاحباط المتزايدة التي يشعر بها الرئيس بايدن وبعض مساعديه البارزين، وخاصة المسؤولين في حملته الانتخابية، بعد أن أدركوا عمق مشاعر الاستياء التي يشعر بها العديد من الناخبين الديموقراطيين، الذين عبروا عن مشاعرهم خلال الانتخابات الحزبية التمهيدية في الأشهر الماضية. هذه الشرائح الاجتماعية التي تنتقد الدعم غير المشروط تقريباً الذي تقدمه إدارة الرئيس بايدن لإسرائيل، والتي تضم إضافة إلى الجاليات العربية-الأميركية، الناخبين المسلمين (من المهاجرين من الدول ذات الاكثرية المسلمة)، والأميركيين من أصل إفريقي، والناخبين الشباب التقدميين في الحزب الديموقراطي، خاصة في ولايات محورية مثل ميشيغان، (التي تسكنها أكبر جالية عربية-أميركية)، وولايات اخرى مثل بنسلفانيا وويسكونسن وفيرجينيا فاز بها بايدن في انتخابات 2020، ويحتاجها أن تبقى في صفه في الانتخابات المقبلة، إذا أراد البقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية.
اللافت هو أن هذه الانتقادات لبايدن التي بدأت في أوساط ما يسمى “الجناح التقدمي” في الحزب الديموقراطي، وصلت الآن إلى شخصيات ليبرالية ومعتدلة ونافذة في الكونغرس، وخاصة في مجلس الشيوخ، لا يستطيع الرئيس أن يتجاهلها بسهولة. ويرى هؤلاء أن انتقادات بايدن لن ترقى إلى مستوى الجدية إلا إذا صاحبها تهديد حقيقي بقطع المساعدات العسكرية لإسرائيل. ومؤخرا بعث ثمانية أعضاء ديموقراطيين في مجلس الشيوخ برسالة لبايدن حثوه فيها على تعليق تزويد إسرائيل بالأسلحة الهجومية إذا لم تسمح فوراً بإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وتسهيل توزيعها الآمن في جميع أنحاء القطاع.
ورأى هؤلاء المشرعين أن استمرار إدارة بايدن بتسليح إسرائيل يشكل انتهاكاً لقانون المساعدات الخارجية الذي يمنع الدعم العسكري لأي دولة تعرقل المساعدات الإنسانية. وقال المشرعون في رسالتهم، “نحضكم أن توضحوا لحكومة نتنياهو أن اخفاقها في توفير وصول المساعدات الإنسانية الفورية وبشكل آمن في جميع أنحاء قطاع غزة سوف يؤدي إلى عواقب جدية وفقاً للقوانين الأميركية”. وصاغ الرسالة السناتور بيرني ساندرز المرشح السابق لمنصب الرئاسة، بالتعاون مع عضوي المجلس كريس فان هولن وجيف ميركلي، ووقعها أعضاء تقدميون من بينهم إليزابيث وارن، وميزي هيرونو وبيتر ويلش وتينا سميث وراي لوهان. وانضم السناتور كريس كون – الذي يمثل ولاية ديلاور في مجلس الشيوخ، التي مثلها جوزيف بايدن لعقود قبل انتخابه، وهو من أصدقاء بايدن – إلى هؤلاء المشرعين حين دعا إلى ربط المساعدات العسكرية لإسرائيل بحماية المدنيين. تصدى السناتور فان هولن من داخل قاعة مجلس الشيوخ لادعاءات بنيامين نتنياهو بأن وكالة إغاثة اللاجئين (الاونروا) تتآمر مع “حماس”، وهي اتهامات لقيت الترحيب في بعض الأوساط السياسية في واشنطن، وقال انها أكاذيب بالمطلق.
ولوحظ في الأسابيع الماضية أن بعض أبرز المعلقين والمحللين الصحفيين، المعروفين تقليدياً بتعاطفهم مع الرئيس بايدن، بدأوا باتهام إدارة بايدن، التي تواصل تزويد إسرائيل بالأسلحة الهجومية، بالتآمر معها ضد المدنيين الفلسطينيين، ومطالبته بإعادة النظر بسياسته وبعض مسلماته حول اسرائيل. المعلق والكاتب فريد زكريا، وهو من أبرز المحللين السياسيين في البلاد، ومقدم برنامج حواري هام على شبكة سي إن إن، يشاهده دائماً الرئيس بايدن، قال إنه على بايدن أن يقول “بعض الحقائق الصعبة” لإسرائيل، وأنه الوحيد القادر على ذلك. وتابع في مقاله الأسبوعي في صحيفة واشنطن بوست أن قرار بايدن توفير الدعم العسكري والسياسي الكامل لإسرائيل في بداية الحرب لكسب ثقة نتنياهو، بما يسمح له أن يؤثر على مسيرة الحرب قد أخفق بشكل شبه كامل. ورأى زكريا أن انتقادات بايدن اللاحقة لإسرائيل بأنها تمارس القصف العشوائي، وبالغت في ردها على حركة حماس عكست ضعفه. ولم يتردد المعلق في القول أنه خلال المواجهة الراهنة تصرف نتنياهو بشكل أذكى من بايدن، وتفوق عليه بالمناورة والحنكة.
المعلق نيكولاس كريستوف قال لبايدن في مقاله في صحيفة نيويورك تايمز “لديك النفوذ الكافي لإنقاذ الأرواح في غزة، أرجو أن تستخدمه”. ورأى كريستوف أن قلق بايدن حول الوضع الإنساني المتردي للفلسطينيين في غزة لا يبدو صادقاً “لأنه غير جدي في الضغط بقوة” على نتنياهو لوقف ممارساته. ولاحظ كريستوف المفارقة السافرة في قطاع غزة، حيث تقوم إسرائيل باستخدام القنابل أميركية الصنع ضد سكان القطاع، في الوقت الذي تقوم فيه الطائرات الأميركية بإلقاء المساعدات الإنسانية للسكان ذاتهم. أعرب معلقون آخرون، معروفون بتعاطفهم التقليدي مع الرئيس بايدن في الصحف وفي البرامج التلفزيونية عن مواقف مماثلة.
ما يجعل احتجاجات بايدن وانتقاداته لنتنياهو تبدو للمراقبين خبيثة أو واهية هو حقيقة أن أعماله وقراراته تدحض بقوة كلامه، لأن الولايات المتحدة وافقت بهدوء على إقرار أكثر من مئة اتفاق أو صفقة لتزويد إسرائيل بمختلف أنواع الاسلحة منذ السابع من أكتوبر الماضي، حين هاجمت حركة حماس جنوب إسرائيل. هذه الأسلحة شملت آلاف القنابل الذكية والقنابل العادية، والصواريخ المصممة لتدمير التحصينات الكبيرة، وحتى الأسلحة الصغيرة. معظم هذه الصفقات والاتفاقات لم تحظ بالتغطية الاعلامية التي تستحقها، لأن الحكومة أعلمت لجان الكونغرس بها في جلسات مغلقة.
وسائل الاعلام غطت خبر صفقتين عسكريتين فقط لإسرائيل لأن الحكومة اضطرت للالتفاف على الكونغرس بحجة وجود “حالة طوارئ” حين زودت إسرائيل بذخائر للدبابات بقيمة 106 مليون دولار، وبمواد لتصنيع قذائف أخرى بقيمة 147 مليون دولار. كل هذه الصفقات العسكرية السرية، إضافة إلى التغطية الديبلوماسية التي وفرتها واشنطن لإسرائيل في مجلس الأمن عبر استخدامها لحق النقض (الفيتو) ضد القرارات السابقة التي طالبت بوقف إطلاق النار، تؤكد مدى تورط إدارة الرئيس بايدن باجتياح غزة، ودورها المباشر في إطالة الحرب.
الانتقادات القوية التي وجهها رئيس الأكثرية الديموقراطية في مجلس الشيوخ السناتور تشاك شومر، وهو أعلى منصب يشغله يهودي أميركي في السلطة، وقوله أن نتنياهو قد “ضلّ طريقه”، واقتراحه إجراء انتخابات في إسرائيل لاختيار قيادة بديلة، وما عقب الخطاب من تعليقات ايجابية من بايدن وغيره من السياسيين الديموقراطيين، وقولهم إنه يعبر عن آراء الكثير من الديموقراطيين، وإصرار نتنياهو على شنّ هجوم بري ضد مدينة رفح في جنوب القطاع، وهو ما تعارضه واشنطن في غياب خطة تضمن سلامة مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين لجأوا إلى المدينة، كل هذه التطورات وضعت بايدن ونتنياهو على مسار تصادمي، وهو أمر من الواضح أن بايدن يحاول تفاديه منذ بداية الحرب.
رد الفعل الصارخ لحكومة نتنياهو على “تجرؤ” إدارة الرئيس بايدن على الامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن الأخير حول قرار وقف اطلاق النار خلال ما تبقى من شهر رمضان الكريم، والذي أدى إلى قرار نتنياهو تعليق إرسال الوفد الإسرائيلي، الذي كان يفترض أن يزور واشنطن لبحث تحفظات ومقترحات واشنطن حول أي اقتحام بري لمدينة رفح، بحجة أنه يعكس “تراجعاً” في الموقف الأميركي، قد يعجّل وفقاً لبعض المراقبين من زخم المسار التصادمي بين الرجلين، على الرغم من اسراع إدارة بايدن للقول أن امتناعها عن التصويت على قرار مجلس الأمن لا يعكس أي تغيير في موقفها من الحرب أو من دعم اسرائيل.
السفير الأميركي السابق لدي إسرائيل ومصر دانيال كيرتزر وصف رد فعل نتنياهو بالشائن والمهين، ورأى في مقال نشره في صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن إدارة بايدن لا تزال تدرس ما إذا كانت إسرائيل ملتزمة بالقوانين الأميركية، التي تقضي بقيام الدول التي تتلقى الأسلحة الأميركية بأن تقدم الضمانات بأن الأسلحة سوف تستخدم وفقاً للقوانين الدولية، وبأن لا تُستخدم لعرقلة أو منع ايصال المساعدات الإنسانية الأميركية. وإذا تبين أن إسرائيل تنتهك هذه القوانين، عندها على الرئيس بايدن أن يعلق هذه الصفقات العسكرية. وأشار السفير كيرتزر في هذا السياق إلى تحذيرات نائبة الرئيس كاملا هاريس، بأن اجتياح مدينة رفح سوف يؤدي إلى “عواقب” ضد اسرائيل. ما هو واضح في الشهر السادس من حرب غزة، هو أن المزاج العام داخل الحزب الديموقراطي، هو الغضب العارم من نتنياهو وسياساته وممارساته المشينة في غزة، وحتى إهاناته للرئيس الأميركي.
المفارقة في هذا المسار التصادمي بين الرئيس بايدن ونتنياهو هي أن بايدن، الذي يواصل وصف نفسه بأنه “صهيوني”، هو الرئيس الأميركي الأكثر تأييداً لإسرائيل عاطفياً وعملياً، ودعمه شبه المطلق لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر الماضي يؤكد ذلك. وعلى الرغم من سجل بايدن هذا، وتردده الكبير في الدخول في مواجهة مفتوحة وعلنية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلا أن تلميحات وتصريحات المسؤولين الأميركيين، ومن بينهم بايدن ونائبته هاريس، وتسريبات مسؤولين آخرين لوسائل الاعلام، بأن بايدن ومساعديه يدرسون جدياً مسألة تعليق مبيعات الأسلحة لإسرائيل، أو على الأقل تعليق بيع بعض الأنظمة العسكرية الهجومية في حال اجتياح مدينة رفح، يكشف مدى تمادي نتنياهو وحكومته في تحدي أكثر رئيس أميركي منحاز لإسرائيل منذ تأسيسها في 1948.