يواجه الرئيس جوزيف بايدن أزمتين مرشحتين للتفاقم أكثر، وربما التحول إلى نزاعين عسكريين في المستقبل القريب، الأمر الذي سيؤدي إلى الحد كثيرًا من قدرته على معالجة التحدي الأساسي الذي تواجهه الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين، وهو احتواء النفوذ الاقتصادي والاستراتيجي المتصاعد للصين في شرق آسيا والعالم، الأزمتين هما من مخلفات القرن الماضي والحرب الباردة، وبرزتا بشكل نافر في الأيام الماضية؛ أولى الازمات هي اخفاق الجولة السابعة من المفاوضات النووية بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد في فيينا، على خلفية تصلب إيراني ترجمته طهران في مطالب من الولايات المتحدة، اعتبرها المسؤولون الأميركيون مستحيلة. أما الثانية، جاءت على خلفية تصعيد عسكري روسي على حدود أوكرانيا، ومخاوف من غزو روسي ثاني لأوكرانيا خلال عقد من الزمن، جدير بالذكر أنه قد عقدت قمة افتراضية بين الرئيس بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين يوم الثلاثاء.
إذا استمر التصلب الإيراني على حاله، كما يتوقع الكثير من المحللين، فإن مفاوضات فيينا مرشحة للإنهيار، الأمر الذي سيرغم الولايات المتحدة ودول الخليج العربية وإسرائيل على مواجهة خيارات بديلة وكلها غير جذابة. وإذا استمر الرئيس بوتين بتعزيز حشوده العسكرية حول أوكرانيا، وإذا قام بغزو، ولو محدود، لأوكرانيا، فإن ذلك سيرغم واشنطن وحلفائها الأوروبيين على فرض عقوبات اقتصادية ومالية، لم تفرضها هذه الدول في 2014 عقب احتلال روسيا وضمها لشبه جزيرة القرم. الرئيس بايدن تحدث عن عزمه فرض عقوبات جديدة، لا سابقة لها، ضد روسيا في أعقاب أي اجتياح جديد لأوكرانيا.
جاءت هذه التطورات بعد أسابيع من القمة الافتراضية التي عقدها الرئيس بايدن مع نظيره الصيني شي جين بينغ، التي طغت عليها تهديدات الصين العسكرية لجزيرة تايوان، وقبل أيام من المؤتمر الدولي الافتراضي، الذي ستنظمه الولايات المتحدة، لأكثر من مئة دولة ومؤسسة ديموقراطية في العالم.
كل هذه التطورات والخطوات أبرزت بوضوح حقيقة استراتيجية وسياسية يدركها ليس فقط العديد من المحللين، ولكن الأهم من ذلك خصوم وأعداء الولايات المتحدة، أي محدودية أو انكماش نفوذ واشنطن إن كان في ترهيب خصومها أو طمأنة حلفائها، وانحسار قدرتها في التأثير على النزاعات الدولية، وعلى سلوك القادة المتسلطين في طهران وموسكو وبيجين. حتى استضافة إدارة الرئيس بايدن لمؤتمر الديموقراطيات في العالم لم تسلم من النقد الموجه إليها، لأن مكانة الولايات المتحدة، كأبرز ديموقراطية في العالم، قد تضعضعت خلال حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي عزز علاقاته بالدول الأوتوقراطية في العالم على حساب تحالفات واشنطن مع الديموقراطيات الغربية وفي آسيا، وتحديدًا في أعقاب اجتياح المتطرفين والعنصريين من أنصار ترامب لمبنى الكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني السابق.
الخيارات العقابية المتوفرة لواشنطن وحلفائها لردع طهران وموسكو وبيجين هي اقتصادية ومالية ورمزية (مثل مقاطعة المسؤولين الأميركيين للألعاب الأولمبية الشتوية في الصين)، ولا تشمل سلة الخيارات هذه استخدام القوة العسكرية، وإن كانت تشمل الهجمات الالكترونية وعمليات التخريب السرية. المسؤولون الأميركيون، مثل وزير الخارجية أنتوني بلينكن، يقولون إن انهيار المفاوضات النووية مع إيران يعني أن الولايات المتحدة سوف تكون مستعدة “لاعتماد خيارات أخرى” تعرف باسم “Plan B”.
ولكن هناك تردد كبير في إدارة الرئيس بايدن في اللجوء إلى الخيارات العسكرية في أي وقت قريب، حتى في حال انهيار المفاوضات. ومن المتوقع في هذه الحالة أن تركز واشنطن على الخيارات العقابية السرية، مثل القيام بعمليات تخريب للمنشآت النووية الإيرانية بمختلف الطرق، واستهداف صادرات إيران النفطية. ويعتقد أن توجيه ضربة عسكرية مباشرة لإيران، أو دعم ضربة إسرائيلية، سيكون في آخر الخيارات الأميركية. وآخر ما يريده الرئيس بايدن، الذي يسعى إلى تخفيض البروفيل العسكري الأميركي في منطقة الخليج، هو التورط في مواجهة عسكرية مع إيران، قد لا تبقى محصورة بالأراضي الإيرانية.
وفي هذا السياق من المفيد ان نذّكر أن عدم رد واشنطن عسكريًا على اسقاط إيران لطائرة استطلاع أميركية في المياه الدولية المحيطة بمضيق هرمز، وقصف المنشآت النفطية السعودية بالصواريخ والمسيرات في 2019، يعكس هذا التردد الأميركي في التورط في مواجهة عسكرية مع إيران. وهذه الاستفزازات الإيرانية حدثت خلال ولاية الرئيس السابق ترامب، الذي كان يطرح نفسه كرئيس قوي لن يتسامح مع مثل هذه الاستفزازات. ويعتقد أن الانسحاب الفوضوي والدموي للقوات الأميركية من أفغانستان في الصيف الماضي ساهم في تعميق التصلب الإيراني.
أوضح المسؤولون الأميركيون، قبل وبعد القمة الافتراضية بين الرئيسين بايدن وبوتين، أن الخيارات العقابية التي تعتزم واشنطن وحلفائها فرضها ضد موسكو، في حال اجتياحها لأوكرانيا، لا تشمل أي خيارات عسكرية. الرئيس بايدن قال، “إن الولايات المتحدة لن تستخدم القوة، بشكل أحادي الجانب، إذا غزت روسيا أوكرانيا”. وحول امكانية نشر قوات أميركية في أوكرانيا، قال بايدن “هذا ليس مطروحًا على الطاولة، لدينا التزام أخلاقي والتزام قانوني تجاه حلفائنا في حلف الناتو إذا تعرضوا لهجوم بموجب المادة الخامسة، وهذا التزام مقدس. هذا الالتزام لا يمتد إلى أوكرانيا”، التي ليست عضوًا في الناتو. صحيح إن واشنطن زادت من دعمها العسكري لأوكرانيا بعد احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، وأرسلت الخبراء لتدريب القوات الأوكرانية، ولكنها تتفادى تزويد أوكرانيا بأنظمة عسكرية يمكن أن تعتبرها موسكو “هجومية”. ومع أن الولايات المتحدة زودت أوكرانيا بصواريخ مضادة للدروع من طراز “جافلين” في 2018، إلا أنها لم تسمح باستخدامها إلا في السنة الماضية ضد القوات الانفصالية، التي تدعمها روسيا في شرق أوكرانيا. ويدّعي بوتين أن العواصم الغربية تريد انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وأنه يريد التزامًا أميركيا رسميًا بعدم ضم أوكرانيا إلى الحلف (وهو التزام لا يستطيع بايدن، حتى ولو أراد، أن يقدمه)، ولكن الواقع هو أنه لا يوجد هناك أي حماس في واشنطن لانضمام أوكرانيا إلى الحلف.
في المواجهة الراهنة حول أوكرانيا، بوتين يتصرف انطلاقًا من رد الفعل الأميركي، المحدود، لتدخل روسيا العسكري واستيلائها على أراضي تابعة لجمهورية جورجيا في 2008 خلال إدارة الرئيس جورج بوش الابن، ورد الفعل الأميركي والغربي، المحدود، على احتلال روسيا وضمها لشبه جزيرة القرم في 2014، وتأخر الحلفاء الأوروبيين في فرض العقوبات الاقتصادية ضد موسكو، وكيف أن الاحتلال الروسي للقرم، لم يمنع ألمانيا من الموافقة على إقامة خط أنابيب يزودها بالغاز الروسي، وتراجع بايدن عن فرض العقوبات الاقتصادية على الخط، الذي سيزيد من اعتماد ألمانيا على مصادر الطاقة الروسية. إدارة الرئيس الأسبق بوش الابن، لم تفكر جديًا بأي إجراء عسكري بعد احتلال القوات الروسية لأراض في جمهورية جورجيا، لأنها كانت متورطة عسكريًا في حربي أفغانستان والعراق آنذاك.
الرئيس بايدن سيحاول تفادي أي مواجهات عسكرية جديدة في الشرق الاوسط أو في أوروبا، لأنه يريد “التحول” إلى الشرق الاقصى ومعالجة التحديات الاقتصادية والاستراتيجية التي تمثلها الصين للولايات المتحدة وحلفائها في تلك المنطقة وفي العالم ككل. بايدن كان يعتقد أن مجرد وعد إيران برفع العقوبات المتعلقة ببرنامجها النووي بعد عودتها للامتثال بالاتفاق الاصلي الموقع في 2015 سوف يحرره من الإرث الثقيل الذي فرضه عليه سلفه ترامب حين انسحب من الاتفاق في 2018. وكان يريد تفادي، وحتى تجاهل، روسيا، وهي دولة هامشية اقتصاديًا بالنسبة للولايات المتحدة، بعكس الصين التي تتطلب معالجة دقيقة وحساسة بسبب الاعتماد المتبادل بين الاقتصادين الأميركي والصيني. بايدن يريد الدخول في “منافسة” اقتصادية مع الصين، وليس في نزاع عسكري حول تايوان، التي تبين مختلف الدراسات والمناورات العسكرية الافتراضية، التي تجريها وزارة الدفاع الأميركية، أن الصين ستفوز في أي مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة بسبب تايوان.
سيسعى بايدن خلال المؤتمر الدولي للديموقراطيات في العالم لاستعادة مكانة الولايات المتحدة كأبرز دولة ديموقراطية في العالم، تقود صراعًا سياسيًا واقتصاديًا ضد الدول الأوتوقراطية في العالم. ولكنه يدرك – أو يجب أن يدرك – أن قدرة واشنطن وحلفائها على وقف زحف القوى الأوتوقراطية في العالم، وخياراتها في هذا المجال قد انحسرت نوعيًا، وحتى قدرته وحزبه الديموقراطي على احتواء النزعات الأوتوقراطية والتسلطية داخل الولايات المتحدة قد تقلصت في السنوات الماضية، ووضعت الديموقراطيين الأميركيين في موقع دفاعي صعب.
أكد البيت الأبيض أن الرئيس بايدن أبلغ نظيره الروسي فلاديمير بوتين، خلال القمة الافتراضية التي جمعتهما يوم الثلاثاء، وبشكل لا لبس فيه، أن الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا وحلف الناتو سيفرضون عقوبات اقتصادية قاسية، وتدابير أخرى ضد موسكو إذا قررت غزو أوكرانيا.
وقال مستشار الامن القومي جيك سوليفان (Jake Sullivan)، الذي جلس قرب بايدن، خلال المحادثات أن بايدن قال لبوتين إن واشنطن ستفعل، في حال اجتياح أوكرانيا، ما لم تفعله حين غزت روسيا أوكرانيا، خلال ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما، واحتلت وضمت شبه جزيرة القرم.
ويقول المسؤولون الأميركيون في الأيام الأخيرة أن الخيارات العقابية الأميركية سوف تبقى في المجالات الاقتصادية والمالية، وزيادة القدرات العسكرية لأوكرانيا وحلفاء الولايات المتحدة الواقعة على ضفاف بحر البلطيق.
وأضاف سوليفان، “أوضحنا لروسيا أنه إذا شنت هجومًا على أوكرانيا فسيكون لذلك تبعات”، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة، “ستستجيب لمطالب حلفائنا إذا قامت روسيا بغزو أوكرانيا”.
جاء في بيان للبيت الأبيض أن بايدن أعرب عن القلق العميق للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بسبب التصعيد العسكري الروسي المتمثل بحشد القوات الروسية حول أوكرانيا، وأوضح أن الرد الغربي سيكون قويًا ويشمل عقوبات اقتصادية، وغيرها من الاجراءات التي لم يحددها البيت الأبيض أو المستشار سوليفان.
وبعد انتهاء القمة، أجرى الرئيس بايدن اتصالات مع قادة فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة، لاطلاعهم على مضمون محادثاته مع بوتين. وقد اتصل بايدن يوم الخميس بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (Volodymyr Zelensky) للغرض ذاته.