خلال الأيام القليلة الماضية اتخذ الرئيس بايدن سلسلة من القرارات أراد من خلالها أن يؤكد لأنصاره، وخصومه في الداخل، ولأعدائه في الخارج، أنه لا يزال قادرًا على الحسم والمجازفة، وأن الذين يراهنون على أن شعبيته المتدنية، والانقسامات والاستقطابات التي يواجهها حتى داخل حزبه الديموقراطي، والتحدي الذي لا يزال يمثله الرئيس السابق ترامب ضده وضد حزبه، سوف تحوله في بداية السنة الثانية لولايته إلى رئيس لتصريف الاعمال، مخطئون في العمق.
وفي تطورات متلاحقة، أمر بايدن بتعزيز دفاعات حلف الناتو في أوروبا الشرقية، وألحق ضربة عسكرية بتنظيم (داعش) حين أمر القوات الأميركية الخاصة بالإغارة على مقر إقامة قائده أبو ابراهيم الهاشمي القرشي، وأرغمه على تفجير نفسه. وفور إعلانه عن هذه الغارة، المماثلة للغارة التي أمر بها الرئيس الأسبق باراك أوباما ضد زعيم القاعدة اسامة بن لادن، وهي غارة عارضها بايدن آنذاك بصفته نائبًا للرئيس، انتقل بايدن إلى نيويورك لينسق مع رئيس بلدية المدينة سبل تكثيف مكافحة معدلات الجريمة العالية في نيويورك، وفي البلاد ككل، ليؤكد للأميركيين – وتحديدا نقاده الجمهوريين- أنه سيتصدى بيد من حديد للذين يهددون الأمن والنظام في البلاد.
وفي أول رد عسكري أميركي على الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية، والتي تهدد مجمل الأمن الأوروبي، قرر بايدن نشر ثلاثة آلاف عسكري لتعزيز دفاعات القطاع الشرقي لحلف الناتو. اللافت في القرار أن القوات التي ستنتشر في بولندا ورومانيا وألمانيا سوف تكون تحت قيادة أميركية وليس قيادة الناتو، وأن ترتيبات نشرها تمت في مفاوضات ثنائية بين واشنطن والدول المعنية، وليس في سياق التنسيق تحت مظلة الحلف. وهذه القوات ليست جزءًا من تلك القوات التي وضعها بايدن قبل أكثر من أسبوع في هالة تأهب لنقلها بسرعة إلى المسرح الأوروبي كجزء من قوات التدخل السريع التابعة لحلف الناتو، والتي يصل عددها إلى 8500 عسكري.
تزامنت هذه التطورات مع تسريب نص الرسائل التي بعثها بايدن إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين حول سبل احتواء التوتر على الحدود الروسية–الأوكرانية، والتي اتسمت بنبرتها القوية والحاسمة، والتي رفض فيها بايدن مطالب وشروط بوتين لتخفيف التوتر، مثل ضمان عدم قبول عضوية أوكرانيا في حلف الناتو، وتفكيك البنية العسكرية للناتو في دول أوروبا الشرقية، وحمّله مسؤولية التوتر.
وجاء في نص رسالة بايدن، الذي نشرته صحيفة الباييس (El Pais) الأسبانية، وأكد صحتها الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية، جون كيربي (John Kirby)، “نحن نؤمن بقوة أنه يمكن حل التوترات والنزاعات عبر الحوار والديبلوماسية، وليس من خلال التهديد باستخدام القوة”. وتابعت الرسالة، “ونظرًا للحشود العسكرية الروسية الكبيرة التي لم تكن بسبب استفزاز مسبق وغير المبررة داخل وحول أوكرانيا وفي روسيا البيضاء، فإننا ندعو روسيا إلى تخفيف الوضع فورًا بطريقة مناسبة ويمكن التحقق من صدقيتها وبشكل دائم”.
وعلى خلفية هذه التطورات السياسية والميدانية، تواصل إدارة الرئيس بايدن مشاوراتها مع الحلفاء في أوروبا وخارج القارة، لبناء شبكة واسعة لعقوبات اقتصادية ومالية وتقنية جماعية، لمعاقبة روسيا في حال غزوها لأوكرانيا، وأيضًا لتوفير المناعة الاقتصادية للدول والشركات الأوروبية التي ستتضرر من مضاعفات العقوبات ضد روسيا. ونظرًا لاعتماد بعض الدول الأوروبية وفي طليعتها ألمانيا، المحرك الرئيسي للاقتصاد الأوروبي، على مصادر الطاقة الروسية من الغاز والنفط، والتي تصل في حالة ألمانيا إلى 40 بالمئة من استهلاكها، واصل الرئيس بايدن محاولاته تأمين بدائل عن الطاقة الروسية، إذا قرر بوتين إغلاق انابيب الغاز لألمانيا.
وناقش بايدن هذه المسألة بالتفصيل خلال اجتماعه قبل أيام مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي كان أول قائد خليجي يزور واشنطن منذ انتخاب بايدن، لتعليق امدادات قطر من الغاز إلى دول شرق آسيا، وتحويل جزء منها إلى ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية. وتعتبر قطر ثالث أكبر دولة مصدرة للغاز الطبيعي المسال في العالم بعد روسيا وإيران، حيث صدّرت ما قيمته 40 مليار دولار من الغاز في 2019. ومع أن بيان البيت الأبيض تطرق بشكل عابر، وضمني، إلى هذه المسألة، حين أشار إلى أن بايدن أثار مع الشيخ تميم سبل “ضمان استقرار الامدادات العالمية للطاقة”، إلا أن هذه المسألة كانت محورية خلال اللقاء. وما رشح عن الاجتماع أظهر أن الشيخ تميم لم يلزم نفسه بتحويل كمية معينة من الغاز إلى أوروبا بسبب التزامات قطر تجاه الدول المتعاقدة معها في آسيا، إلا أنه، وفقًا لمسؤول مطلع على مضمون اللقاء، وعد بايدن بأنه “سيقوم بكل ما يمكنه القيام به” في هذا المجال.
الرأي السائد في أوساط المحللين في واشنطن، هو أن الرئيس بايدن وكبار مساعديه، مثل وزير الخارجية أنتوني بلينكن (Antony Blinken) ومستشار الأمن القومي جايك ساليفان (Jake Sullivan) قد أداروا الأزمة الروسية، بشكل عام، بحكمة وبذكاء، ومن خلال تنسيق كامل مع الحلفاء في الناتو والاتحاد الأوروبي، على الرغم من وجود اجتهادات، لا، بل شروخ داخل الحلف، أبرزها رفض ألمانيا تعزيز دفاعات أوكرانيا، بعكس معظم دول الحلف الأوروبية، وموقف هنغاريا المتعاطف عمليًا مع روسيا، وموقف تركيا الفاتر تجاه أوكرانيا. ورأى بعض المحللين في التصريحات الأخيرة للرئيس بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، وخاصة الحديث عن ضرورة مواصلة المساعي الديبلوماسية، ما يدعو إلى تفاؤل حذر بإمكانية التوصل إلى حلول ديبلوماسية. محللون آخرون، رأوا أن أي حلحلة في مواقف بوتين يجب أن تفسر بأنها ناتجة عن الرد الأميركي الحاسم، وخاصة طريقة إدارة بايدن للأزمة، والذي فاجأ بوتين، الذي راهن على ضعف الرئيس بايدن، وخاصة في أعقاب الانسحاب المخزي والدموي من أفغانستان، والانحسار الكبير في شعبية الرئيس الأميركي.
وباستثناء بعض المشرعين الجمهوريين من غلاة مؤيدي الرئيس السابق ترامب (الذي كان لا يخفي تعاطفه مع الرئيس الروسي بوتين)، الذين انتقدوا دعم بايدن السياسي والعسكري لحلف الناتو، وسعيه لردع عدوان روسي جديد ضد أوكرانيا، فإن معظم أقطاب الحزب الجمهوري النافذين في الكونغرس أيدوا مواقف بايدن، بل إن بعضهم طالب بايدن بفرض عقوبات اقتصادية استباقية ضد روسيا لردعها عن مهاجمة أوكرانيا. وعبّر زعيم الاقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ السناتور ميتش ماكونال عن مواقف معظم الجمهوريين حين قال أن الرئيس بايدن “يتحرك بالاتجاه الصحيح” لردع بوتين.
في أعقاب انحسار شعبية بايدن في استطلاعات الرأي – على الرغم من انحسار معدلات البطالة إلى مستويات تاريخية، وازدياد الانتاجية الأميركية – قرر البيت الأبيض قبل أسابيع إطلاق عنان الرئيس بايدن، وزيادة وتيرة رحلاته الداخلية، ولقاءاته المباشرة مع الناخبين لإيضاح سجله، وشرح خططه الاقتصادية والاصلاحية، وشرح الدور الأميركي القيادي والضروري في العالم، والتحذير من الخطر المتفاقم للرئيس السابق ترامب على الديموقراطية الأميركية. وهذا ما بدأ بايدن بتحقيقه. ويظهر آخر معدل لاستطلاعات الرأي في البلاد أن نسبة مؤيدي بايدن قد انحسرت إلى 41 بالمئة، بينما ارتفعت نسبة معارضيه إلى 54 بالمئة. وأي رئيس يتجه إلى انتخابات نصفية بعد بضعة أشهر، وهو مثقل بمثل هذه الأعباء، سوف يأخذ معه حزبه إلى هزيمة انتخابية قاسية. في المقابل بدأ دونالد ترامب السنة الجديدة بميزانية حربية انتخابية زادت عن 122 مليون دولار، يمكنه استخدامها لتمويل المرشحين المؤيدين له، وخاصة الذين يشاركونه موقفه الرافض لشرعية الانتخابات التي أوصلت بايدن إلى البيت الأبيض.
موضوعيًا، يجب أن يكون الرئيس بايدن في وضع أفضل في أوساط الناخبين، بعد سنة أقر فيها خطتين اقتصاديتين طموحتين، واستمر فيها الاقتصاد الأميركي النمو بمعدلات عالية. المعضلة التي واجهها البيت الأبيض، ولم يستطع احتوائها أو شرحها للناخب الاميركي، هي معضلة معدلات التضخم التي لم تشهد مثلها البلاد منذ 4 عقود، وهذه ظاهرة جلبها الاقتصاد المعولم في سياق تخبط حركة التجارة العالمية في أعقاب انتشار كوفيد-19.
ولكن تطورات الأسبوع الأخير، من التخلص من زعيم القاعدة القرشي في سوريا، إلى تصعيد الضغوط على بوتين في روسيا، أظهرت أن الرهان على “ضعف” بايدن، المبني بالأساس على انطباع سائد، وإن كان غير دقيق، في الداخل والخارج عن الرئيس الأميركي السادس والأربعين، كان رهانًا متسرعا. التحديات التي يواجهها بايدن، وعلى أكثر من جبهة داخلية وخارجية، لا يستهان بها، وليس من المتوقع تخطيها أو احتوائها أو هزيمتها بسرعة، وبايدن ومساعديه يدركون ذلك. ولكن مما لا شك فيه أن قرارات بايدن من سوريا إلى روسيا في الأيام الاخيرة، يجب أن ترغم أولئك الذين أصدروا أحكامهم النهائية حول وصول ولايته إلى طريق مسدود، على إعادة النظر في تقويماتهم المتسرعة.