بدأ الرئيس جوزيف بايدن سنته الأولى بإبلاغ العالم أن “أميركا قد عادت” إلى المسرح الدولي، في رفض واضح لشعار سلفه دونالد ترامب الانعزالي “أميركا أولًا”. مع نهاية 2021، حقق بايدن انجازات داخلية هامة، مثل خطته في بداية السنة لتحفيز الاقتصاد، وخطته الطموحة قبل بضعة أسابيع لإعادة بناء البنية التحتية – وإن شوهتها بعض الشيء العودة الشرسة لجائحة كورونا بشكل المتحور الجديد أوميكرون – على خلفية ارتفاع كبير في معدلات التضخم لم تشهده البلاد منذ 40 سنة، ما أدى إلى انحسار شعبية الرئيس إلى42 بالمئة، في آخر استطلاعات الرأي.
على الصعيد الخارجي، تحظى جهود ومحاولات بايدن وفريقه لإعادة الولايات المتحدة إلى مركزها القيادي العالمي، الذي شكك به الرئيس السابق ترامب، بتقدير الحلفاء والأصدقاء، ولكن هذه الجهود اصطدمت بمحدودية النفوذ الأميركي في العالم، في حقبة تميزت بالمد الملحوظ للدول الأوتوقراطية والمتسلطة، مثل روسيا والصين وإيران وتركيا، وتراجع الديموقراطية في دول مثل هنغاريا وبولندا، وبروز دول هامة ذات ديموقراطيات ناقصة مثل الهند والبرازيل، على حساب النظم الديموقراطية في العالم. دول الاتحاد الاوروبي تجد نفسها في موقع دفاعي بسبب الضغوط والتدخل الخارجي في انتخاباتها، كما يتبين من محاولات روسيا، ومن عمليات الابتزاز السياسي، كما رأينا في محاولات روسيا البيضاء استخدام ودفع المهاجرين من دول الشرق الأوسط لعبور حدودها إلى دول الاتحاد الأوروبي.
محدودية نفوذ بايدن والولايات المتحدة في الشرق الأوسط تجلت بكل سافر في الانسحاب السريع والفوضوي والدموي من أفغانستان، والذي تم في غياب تنسيق كامل مع الحلفاء في الناتو الذين حاربوا مع القوات الأميركية منذ غزو افغانستان في 2001، وفي عجز واشنطن – حتى الآن – وبعد سبع جولات من المفاوضات النووية غير المباشرة مع إيران في فيينا، في اقناع إيران بالعودة – المتزامنة للبلدين – للامتثال لبنود الاتفاق النووي الموقع في 2015 بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد.
ومع نهاية سنتها الأولى في الحكم، تجد إدارة الرئيس بايدن نفسها في مواجهة امتحانات وتحديات من روسيا والصين وإيران، وغيرها من القوى، بسبب الانطباع العام في العديد من العواصم بأن النفوذ الأميركي في العالم يتضاءل، والأهم من ذلك لأن الديموقراطية الأميركية ذاتها ليست في صحة جيدة، بسبب الاستقطابات السياسية والاجتماعية والثقافية العميقة والخطيرة الذي عانى، ولا يزال يعاني، منها النظام السياسي وكذلك المجتمع الأميركي. على سبيل المثال خلقت هذه الانقسامات السياسية خللًا في عمل الكونغرس أّثر سلبًا على عمل الديبلوماسية الأميركية في العالم، لأن مشّرعين جمهوريين متشددين، من بينهم السناتور الجمهوري عن ولاية تكساس تيد كروز، استخدموا صلاحياتهم لتعليق التصديق على عشرات السفراء الذين عينهم الرئيس بايدن. وقبل أيام من عطلة عيدي الميلاد ورأس السنة، علّق الجمهوريون معارضتهم – وهي معارضة كيدية وليست جوهرية – وصدّقوا على تعيين 30 سفيرًا.
عودة الولايات المتحدة إلى المسرح الدولي نجحت، جزئيًا، مع انضمام واشنطن من جديد إلى مؤتمر باريس حول التغير البيئي ومنظمة الصحة العالمية، وبعد محاولات بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، رأب الشروخ في العلاقات بين واشنطن وحلفائها في حلف الناتو، التي خلقها وعمقها سلفه ترامب، وكذلك تحسين العلاقات مع الحلفاء في آسيا، وتحديدًا اليابان وكوريا الجنوبية. كما جدد بايدن إتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية مع روسيا لمدة خمسة سنوات. أيضا عزز بايدن من أهمية المجموعة الرباعية التي تضم إضافة إلى الولايات المتحدة، استراليا واليابان والهند (والتي تأسست في 2007)، والهادفة إلى تعزيز التنسيق السياسي والاقتصادي بين هذه الدول، وربما لاحقًا، التنسيق الأمني في مواجهة الصين. كما عزز بايدن التعاون والتنسيق العسكري بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا في مواجهة المد الصيني العسكري في المحيط الهادئ، والذي تم التعبير عنه بقوة في صفقة الغواصات الأميركية المسيرة نوويًا لأستراليا، والتي جاءت على حساب صفقة غواصات فرنسية لأستراليا، ونجم عنها أزمة مرحلية بين واشنطن وباريس.
هذه العودة الأميركية إلى المسرح العالمي، لم تنجح كليًا في اقناع الحلفاء التقليديين أن واشنطن سوف تبقى على مسارها الجديد، لأن هذه الدول لا تزال تذكر تجاهل، وحتى ازدراء، إدارة الرئيس السابق ترامب بهذه التحالفات التقليدية التي بنتها واشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هذه الدول تدرك أن انتخاب رئيس جمهوري في 2024، بما في ذلك احتمال انتخاب ترامب مرة أخرى، أمرًا لا يمكن استبعاده، ما يثير الأسئلة حول ثبات التزامات وتعهدات أي إدارة أميركية في ظل الانقسامات السياسية العميقة في البلاد.
مع نهاية سنته الأولى في البيت الأبيض، يجد الرئيس بايدن نفسه في مواجهة علاقات متوترة أكثر مع الصين (الذي أبقى على العقوبات التي فرضها ترامب عليها) بسبب استفزازات الصين العسكرية لتايوان، وتهديدها باجتياح الجزيرة التي تربطها علاقات اقتصادية وعسكرية قوية مع واشنطن. أيضا العلاقات الأميركية-الروسية شهدت تدهورًا ملحوظًا بسبب السياسات العدائية التي يعتمدها الرئيس فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا، وتهديداته باجتياحها مرة أخرى، ومحاولاته ترهيب دول بحر البلطيق، ومطالبته عمليًا بإعادة تقسيم النفوذ في أوروبا بين الولايات المتحدة وروسيا، (كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية)، وهو موقف رفضه قبل أيام الوزير بلينكن بحزم. وكما أبقى بايدن العقوبات الاقتصادية التي فرضها ترامب على الصين، فإنه أبقى أيضًا العقوبات التي فرضها سلفه ضد إيران بعد انسحابه الأحادي الجانب من الاتفاق النووي في 2015. بايدن لا يريد تعليق العقوبات المفروضة على روسيا والصين وإيران طالما بقيت هذه الدول على تصلبها الراهن.
المشكلة التي يواجهها بايدن في هذا السياق، هي أن موسكو وبيجين وطهران، وحتى العواصم الحليفة، تدرك محدودية نفوذه كرئيس بسبب ضعف الجبهة الداخلية الأميركية، واستمرار التحدي الذي يمثله الرئيس السابق ترامب وأنصاره والحزب الجمهوري للمؤسسات والقيم الديموقراطية. وكذلك محدودية نفوذ الولايات المتحدة في العالم، في أعقاب الانسحاب من أفغانستان، والاخفاق في الضغط على إيران (التي تبيع نفطها للصين التي لا تبالي بالعقوبات الأميركية)، في الوقت الذي تسعى فيه واشنطن إلى تخفيض حضورها العسكري، وحتى الديبلوماسي في الشرق الأوسط، وتركيز مواردها وطاقاتها واهتمامها على احتواء المد الصيني في مياه المحيطين الهادئ والهندي. وليس من الواضح حتى الآن ما إذا كانت تحذيرات بايدن لموسكو وبيجين بعدم الاعتداء على أوكرانيا وتايوان، (بعد قمتين افتراضيتين مع الرئيسين بوتين وشي جينغ بينغ) ستردع الدولتين المتسلطتين، أم أنهما ستفرضان على الولايات المتحدة وحلفائها تحديات تاريخية بسبب الانطباع العام بأن بايدن ليس رئيسًا قويًا وأن الجبهة الداخلية الأميركية ضعيفة.
في الشرق الأوسط بدأ بايدن حملته الانتخابية، ولاحقًا سنته في البيت الأبيض، بتحذيرات وانتقادات وإجراءات عقابية ضد قادة دول حليفة لواشنطن، من بينها قادة السعودية وتركيا ومصر، وعلّق شحنات أسلحة للسعودية ولدولة الإمارات، (تخلى عنها لاحقًا)، ولكنه، وغيره من المسؤولين في إدارته، واصلوا تخفيض الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة، بما في ذلك إنهاء المهام القتالية للقوات الأميركية في العراق، وأوضحوا، بشكل لا لبس فيه، إن ولاية بايدن لن تلجأ إلى أي مبادرات كبيرة في المنطقة مماثلة لمبادرات الرئيس الأسبق جورج بوش الابن حول نشر الديموقراطية في المنطقة، أو حل النزاع العربي-الاسرائيلي كما فعل الرئيس الأسبق بوش الأب، ولاحقًا الرئيس الأسبق باراك أوباما. هذا لا يعني أن بايدن يريد تجاهل المنطقة كليًا، ومن هنا كان تعيينه لعدد من المبعوثين المخضرمين لمحاولة حل، أو على الأقل تهدئة، النزاعات التي تمزق اليمن والقرن الأفريقي وليبيا. ولكن الاهتمام الأميركي بهذه النزاعات لم يصل، وليس من المرشح أن يصل، إلى مستوى الرئيس الأميركي.
محدودية النفوذ الأميركي في التأثير على الانقلاب العسكري ضد الحركة الديموقراطية في السودان، والانقلاب السياسي البطيء ضد الديموقراطية في تونس، والاهتمام الأميركي الرسمي المحدود بالتطورات المقلقة في هذين البلدين، هو مؤشر آخر حول انخفاض سقف الاهتمام السياسي الأميركي، وليس فقط الحضور العسكري الأميركي في المنطقة.
قبل أيام ناقش مسؤول أميركي بارز معني بالشرق الأوسط في إيجاز خلفي مع الصحفيين الطموحات الأميركية المحدودة والعملية في المنطقة، وأوضح، “أننا لن نحاول تحقيق ما لا يمكن تحقيقه، ونحن لن نحاول تغيير الشرق الأوسط”، وذلك في تراجع واضح عن الطموحات الكبيرة والقديمة التي رأى المسؤول أنه لم يمكن بالإمكان تحقيقها. وأضاف، “سوف نركز على المصالح التي تؤثر على الأميركيين وعلى أمننا القومي وعلى الأمن القومي لأصدقائنا”. وتابع المسؤول، “ونحن نعتقد أن هذه الأهداف قابلة للتحقيق من خلال الردع وتخفيض التوتر والتكامل”. يجب وضع هذه الأهداف الواقعية، أو المحدودة، في سياق إن الطموحات الضخمة التي دفعت بالولايات المتحدة للتدخل العسكري لتغيير مسيرة مجتمعات قديمة، مثل العراق وأفغانستان، أدت إلى كوارث إنسانية ومادية فادحة. سوف تبقى أميركا والعراق أتعيش في ظلالها الداكنة لسنوات طويلة.
في السنة المقبلة سوف يواجه الرئيس بايدن تحديًا ملحًا يتمثل في استمرار إيران بتطوير برنامجها النووي، وربما في انهيار مفاوضات فيينا. الأميركيون يتحدثون عن خطة بديلة للمفاوضات الديبلوماسية، وهذه الخطة يفترض أن تشمل نظريًا، على الأقل، الإجراءات العقابية بما فيها العسكرية. ولكن يُعتقَد أن الرئيس بايدن والمقربين منه سوف يبذلون جهودًا كبيرة في تفادي مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، وإن كانت الإجراءات العقابية يمكن أن تشمل الهجمات الإلكترونية أو العمليات التخريبية.
كان بايدن في السلطة حين قرر الرئيس أوباما زيادة عديد القوات الأميركية في افغانستان – خلافًا لنصيحة نائبه بايدن – وحين أرغمت “الدولة الاسلامية” (داعش) الرئيس أوباما على العودة عسكريًا إلى العراق وسوريا لمواجهتها على رأس ائتلاف دولي. بايدن أدرك خلال عمله كنائب للرئيس اوباما، محدودية القوة العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق وليبيا، ولذلك فإنه سيتفادى، إلى أقصى حد، التورط عسكرياً مرة أخرى في المنطقة.
سياسة “التحول” الأميركي من الشرق الأوسط إلى الشرق الاقصى، تفسر جزئيًا على الأقل، محاولات بعض دول المنطقة إعادة صياغة علاقاتها وتحالفاتها الاقليمية، بما في ذلك محاولة تخفيف حدة التوتر السياسي والتنافس على النفوذ، تمهيدًا لحقبة السياسات الأميركية الواقعية الجديدة والقابلة للتحقيق، وتحضيرًا لأفول حقبة الطموحات الأميركية الضخمة وغير القابلة للتحقيق.