اقتربت الولايات المتحدة هذا الأسبوع من مشاهدة مبارزة شرسة ثانية بين الرئيس جوزيف بايدن وسلفه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بعد إعلان الرئيس بايدن يوم الثلاثاء عن ترشيح نفسه لولاية ثانية، بعد أشهر من بدء ترامب لمسيرته إلى البيت الأبيض. توضح مختلف المؤشرات الانتخابية واستطلاعات الرأي أنه من المحتمل جدا أن يفوز ترامب مرة ثانية بترشيح الحزب الجمهوري لمنصب الرئاسة. وبعكس ترامب، لا يواجه الرئيس بايدن أي تحد من داخل حزبه الذي يقف، وإن ليس بحماس كبير، وراء ترشحه، لأن قرار بايدن جعله، وهو البالغ من العمر ثمانين عاماً، المرشح الرئاسي الأكبر سنًا في تاريخ الانتخابات الأميركية.
وفي إشارة ضمنية إلى توقع بايدن – والبعض يقول أمنيته – أن يكون ترامب منافسه في الانتخابات، طرح الرئيس الأميركي نفسه المدافع الأول عن الحريات السياسية والمدنية في البلاد، والتي يرى هو وأكثرية من الأميركيين أن ترامب حاول تقويض هذه الحريات مرارًا، خاصة حين شجع المتطرفين من أنصاره على اجتياح مبنى الكابيتول في يناير/كانون الثاني 2021، قال بايدن في شريط الفيديو الذي أعلن فيه ترشيحه، “المسألة التي نواجهها في السنوات المقبلة هي هل سنتمتع بحريات أكثر أم أقل؟ هل سنتمتع بحقوق أكثر أم أقل؟ أنا أعرف ما هو الجواب المطلوب. هذا ليس وقت التقاعس، ولهذا أُرشح نفسي لولاية ثانية”.
أيضًا، برر بايدن رغبته بولاية ثانية بالقول إنه يريد إنجاز المهمة التي بدأها في ولايته الأولى، والتي تشمل، إصافة إلى الانجازات الاقتصادية والاجتماعية التي حققها مع حزبه في أول عامين له في البيت الأبيض، قضايا لا يمكن بسهولة قياسها ماديًا، والتي يلخصها بايدن دائما بالقول انه يريد استعادة “روح” الولايات المتحدة، وجوهر الحوكمة الديموقراطية، وبلسمة الجراح التي عمّقها أو خلقها دونالد ترامب والحركة السياسية والاجتماعية التي يقودها.
وخلال الأيام التي عقبت إعلان ترشحه، كرر بايدن التركيز على هذه المسألة الحيوية، محذرًا من أنه يدرك تمامًا “الخطر الذي يمثله [ترامب] على ديموقراطيتنا”، وأغتنم الفرصة ليؤكد فيما يتعلق بسنّه المتقدم، [سوف يكون في الثانية والثمانين في 2024، وفي السادسة والثمانين حين تنتهي ولايته الثانية]، في حال فوزه بالانتخابات، أنه “بحالة جيدة، ومتحمس بشأن احتمالات” المستقبل.
ولكن تطمينات بايدن للناخبين من ديموقراطيين ومستقلين إنه لا يزال قادرا ذهنيًا وجسديًا على القيام بواجباته الرئاسية حتى سنة 2028، لا تلغي حقيقة أن الحزب الديموقراطي يعيش في حالة انفصام بشأن ترشحه لولاية ثانية. صحيح أن هناك أكثرية ديموقراطية تفضل مرشح آخر أصغر سنا من بايدن، ولكن الأكثرية ذاتها مصممة على منع ترامب من العودة إلى البيت الأبيض، أو انتخاب مرشح جمهوري آخر من قماشة الرئيس السابق. هذه الاكثرية الديموقراطية تدرك، على مضض أيضًا، أن الرئيس بايدن الذي هزم ترامب في انتخابات 2020، لا يزال مؤهلًا أكثر من أي مرشح ديموقراطي بديل، على هزيمة ترامب مرة أخرى في 2024.
توضح ثماني استطلاعات رأي، تمت على المستوى الوطني بين عامي 2022 و2023، أن نسبة 38 بالمئة من الديموقراطيين فقط أيدوا ترشيح الحزب الديموقراطي لبايدن في 2024، بينما أرادت أكثرية من 57 بالمئة من الديموقراطيين ترشيح سياسي آخر. موقف الديموقراطيين من بايدن يتناقض بشكل واضح مع رغبة 73 بالمئة من الجمهوريين بإعادة ترشيح ترامب لولاية ثانية، ومع 75 بالمئة من الناخبين الديموقراطيين الذين أيدوا إعادة ترشيح باراك أوباما لولاية ثانية. وعشية ترشح بايدن لولاية ثانية، جاء في استطلاع لشبكة التلفزيون NBC أن 26 بالمئة من الأميركيين فقط قالوا أن بايدن يجب أن يترشح لولاية ثانية، بينما رأى 70 بالمئة من الناخبين، بمن فيهم 51 بالمئة من الديموقراطيين أن بايدن يجب ألا يرشح نفسه لولاية ثانية. هذه النتيجة مماثلة لاستطلاعات رأى أجرتها مؤسسات إعلامية أخرى، من بينها شبكة تلفزيونCNN وكالة الأنباء أسوشييتد برس. وبما أن الناخبين المستقلين يشكلون أكبر كتلة انتخابية، فهذا يعني أن المرشح الديموقراطي أو الجمهوري غير قادر على الوصول إلى البيت الأبيض دون تأييد نسبة هامة من الناخبين المستقلين. والتحدي الذي يواجه بايدن هو أن 35 بالمئة فقط من الناخبين المستقلين يوافقون على أدائه.
درجة حماس قاعدة الحزب لمرشحها هي من بين العوامل الحاسمة في الانتخابات الرئاسية. الحماس الشعبي هو الذي يخلق الموجة العارمة التي توصل مرشح رئاسي إلى البيت الأبيض، وليس الفتور الشعبي الذي بالكاد يمكن أن يشكل موجة خجولة تتبخر قبل الوصول إلى البيت الأبيض. والتحدي الأكبر الذي يواجهه بايدن قبل 18 عشر شهرًا من الانتخابات هو بث حيوية جديدة في أوساط الديموقراطيين تحوّل تأييدهم الفاتر أو المتردد له إلى دعم قوي.
وحتى قبل ترشحه لولاية ثانية، واجه الرئيس بايدن حملة منظمة من الجمهوريين شككت بقدراته الذهنية والجسدية على القيام بواجباته الرئاسية، خاصة خلال الأشهر الثمانية عشرة التي تفصلنا عن الانتخابات، حيث يشير هؤلاء إلى بطئه في المشي، وتلعثمه بين وقت وآخر. آخرون يشبهّونه بالرئيس الأسبق جيمي كارتر الذي أخفق بالتجديد لنفسه في سنة 1980 بسبب معدلات التضخم العالية والتحديات الأمنية الخارجية (الغزو الروسي لأفغانستان، وأزمة الرهائن الأميركيين في إيران)، والشعور السائد آنذاك بأن الولايات المتحدة كانت بمثابة سفينة تائهة أو تبحر إلى المجهول.
ولكن هذا التشبيه غير دقيق ومبالغ به. الاقتصاد الأميركي اليوم لا يزال الأكثر حيوية في العالم، ومعدلات البطالة متدنية بنسب تاريخية، والتضخم ينخفض باستمرار منذ تسعة أشهر، ولا يوجد للولايات المتحدة ديبلوماسيين رهائن في الخارج، كما أن بايدن لا يواجه تحد من مرشح ديموقراطي، كما حدث مع كارتر حين واجه تحديًا قويًا من السناتور الديموقراطي إدوارد كينيدي آنذاك ما أضعف الحزب الديموقراطي، وأدى إلى فوز رونالد ريغان في الانتخابات.
في المقابل يقول المخططون الاستراتيجيون الديموقراطيون ومساعدو الرئيس بايدن أن انجازات بايدن التشريعية مماثلة لإنجازات الرئيس ليندون جونسون، وحتى انجازات الرئيس فرانكلين روزفلت التاريخية التي غيرت المجتمع الأميركي جذريًا. ويشير هؤلاء إلى أنه تم توظيف 12 مليون أميركي منذ انتخاب بايدن، وإلى الخطط المتعلقة بمعالجة أخطار التغير البيئي، والحوافز الاقتصادية والضرائبية التي ساعدت الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود، وتخفيض أسعار الأدوية، والخطة التي أقرها الكونغرس، وحظيت بدعم عدد من المشرعين الجمهوريين، والتي خصصت ترليون دولار لإعادة بناء البنية التحتية، وخلق عشرات الآلاف من الوظائف، وهي أكبر خطة من نوعها منذ أكثر من نصف قرن، وتخصيص أكثر من خمسين مليار دولار لتشجيع صناعة رقائق الكومبيوترChips في الولايات المتحدة، وتقليص اعتماد الولايات المتحدة على استيراد هذا المكون الهام استراتيجيًا، إضافة إلى المكافحة الناجحة لجائحة كورونا. على الصعيد الخارجي، يشير هؤلاء إلى نجاح بايدن بتشكيل وقيادة ائتلاف دولي للتصدي للغزو الروسي لأوكرانيا، وتصديه لسياسات الصين المتصلبة عسكريًا واقتصاديًا، وإصلاح علاقات واشنطن مع حلفائها في حلف الناتو بعد أن زعزعها الرئيس السابق ترامب، وهدد مستقبلها بشكل غير مسبوق منذ تأسيس الحلف بعد الحرب العالمية الثانية.
إنجازات بايدن على أهميتها غير قادرة على تعديل المزاج العام السائد في البلاد، والذي يعبر عنه المواطنون العاديون في استطلاعات الرأي، حين يقولون إن البلاد تسير على الطريق الخطأ، ويشيرون إلى الاستقطابات والانقسامات السياسية والثقافية والاجتماعية والعرقية العميقة في البلاد، والتي ازدادت حدة منذ بروز ظاهرة دونالد ترامب. وتساهم في هذا المزاج القاتم الظاهرة المقلقة لإقبال ملايين الأميركيين على اقتناء الأسلحة النارية، بما فيها الأسلحة الهجومية التي تستخدم في معظم الحوادث المتزايدة للقتل الجماعي التي تحدث أحيانًا بشكل أسبوعي. حوادث القتل الجماعي التي تحدث في المدارس والجامعات، وفي المعابد الدينية، وفي المحلات العامة والساحات والشوارع، خلقت في الذهن الجماعي للأميركيين شعورًا مروّعًا، وهو أنه لم يعد هناك مكان آمن في البلاد، لأنه لم يعد هناك مكان محرّم تدنيسه في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، يقول المخططون الديموقراطيون ومساعدو بايدن أن “الظروف الموضوعية” في البلاد تحبذ فوز مرشحهم في الانتخابات المقبلة. الديمقراطيون على الرغم من تحفظاتهم يقفون وراء بايدن. الجمهوريون منقسمون بين القاعدة المتشددة والموالية لترامب، وبقايا الجمهوريين التقليديين الذين يريدون مرشحًا بديلًا لترامب، الذي يعني بقائه في المعترك السياسي سلسلة لا نهاية لها من المشاكل والتحديات والانقسامات وحتى المحاكم القضائية، ناهيك عن الانقسام العميق بين أنصار ترامب الذين يرفضون تأييد أوكرانيا، والقيادات الجمهورية في الكونغرس وخارجه من مؤيدي دعم أوكرانيا عسكريًا واقتصاديًا لدحر الغزو الروسي. كما أن معظم القضايا السياسية التي تهيمن على السجال الانتخابي تحبذ فوز المرشح الديموقراطي، خاصة قضايا اجتماعية حساسة مثل حق المرأة بالإجهاض، بعد قرار المحكمة العليا التاريخي في الصيف الماضي بتقييد هذا الحق، الأمر الذي انعكس سلبًا على المرشحين الجمهوريين في الانتخابات النصفية. حق المرأة بالإجهاض سوف يضر المرشح الجمهوري لمنصب الرئاسة والمرشحين للكونغرس، خاصة في أوساط النساء في الضواحي في عدد من الولايات المحورية مثل ويسكونسون وبنسلفانيا وميتشغان.
أيضًا، أظهرت نتائج الانتخابات النصفية، التي كانت إيجابية إلى حد كبير للديموقراطيين، وخاصة انجازاتهم في الفوز بمناصب حكام ولايات هامة، وبالأكثرية في المجالس التشريعية المحلية بولايات محورية في الانتخابات الرئاسية مثل بنسلفانيا وميتشغان. كما أن حظوظ الديموقراطيين في الفوز بولايات متأرجحة أو تعتبر ساحات معارك مثل كولورادو وفيرجينيا ونيوهامبشر جيدة. وهذا يعني تقليص عدد ولايات ساحات المعارك التي يتوجب على بايدن الفوز فيها، ليضمن بقائه في البيت الأبيض لولاية ثانية.