عندما أعلن الرئيس بايدن في أبريل/نيسان الماضي عن قراره إنهاء أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة وحدد موعد الانسحاب العسكري من أفغانستان مع حلول الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر/أيلول الإرهابية، التي أدت إلى غزو أفغانستان، حظي قراره بتأييد أكثرية الأميركيين، وفقًا لاستطلاعات الرأي. وعندما أعلن يوم الثلاثاء عن النهاية الرسمية لهذه الحرب، ودافع بقوة عن القرار، مؤكدًا أنه “القرار الأفضل والصحيح للولايات المتحدة”، أظهرت استطلاعات الرأي أن أكثرية الأميركيين لا تزال على موقفها المؤيد لإنهاء الحرب.
ولكن استطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت أيضًا أن طريقة تنفيذ الانسحاب، وما شاب عملية إجلاء الرعايا الأميركيين والأجانب والحلفاء الأفغان من أعمال عنف وفوضى في محيط مطار كابول، تعرضت لانتقادات شعبية واسعة. الانتقادات كانت لاذعة ليس فقط من المشرعين الجمهوريين والمعلقين المحافظين، بل أيضا من بعض حلفاء الرئيس بايدن من الديموقراطيين في الكونغرس وفي أوساط المحللين السياسيين والاستراتيجيين.
وجاء في استطلاع لمركز بيو للأبحاث، نشر يوم الثلاثاء، أن 54 بالمئة من الأميركيين رأوا أن قرار سحب القوات من أفغانستان كان صائبا، بينما رأى 42 بالمئة منهم أنه كان خاطئًا. ولكن 27 بالمئة فقط وصفوا معالجة بايدن للوضع الافغاني “بالممتاز” أو “الجيد”، بينما أعتبره 29 بالمئة “منصفًا بعض الشيء” ووصفه 42 بالمئة “بالسيء”.
الرئيس بايدن وكبار مستشاريه يدركون عمق هذه الانتقادات، وكيف يمكن أن تتحول في أيدي خصومه الجمهوريين إلى سلاح فّعال يستخدمونه ضده وضد المرشحين الديموقراطيين في الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. هذا الادراك هو من أبرز الأسباب التي دفعت بالرئيس بايدن لمواجهة خصومه في الداخل، وتحديدًا الجمهوريين في الكونغرس وسلفه ترامب في خطابه الأخير، ومحاولة تفنيد حججهم وتقويضها قبل أن تتطور أكثر، وتتحول إلى حجر كبير معلق في عنقه. وهذا بالضبط ما فعله الجمهوريون بنجاح حين حمّلوا وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون مسؤولية الهجوم الدموي الذي تعرضت له البعثة الديبلوماسية الأميركية في بنغازي، ليبيا، في 2012، وأدى الى مقتل أربعة أميركيين، من بينهم السفير كريستوفر ستيفنز. الجمهوريون استخدموا جلسات الاستماع في الكونغرس وانتقاداتهم العلنية ومبالغاتهم في تشويه أداء هيلاري كلينتون، ليقوضوا من سمعتها قبل دخولها معركة الانتخابات الرئاسية في 2016.
ولذلك لم يكن من المستغرب أن يخلو خطاب بايدن من أي اعتذار أو اعتراف بخطأ، ولو تكتيكي، من قبله، إن كان خلال عملية الانسحاب أو اجلاء الرعايا. لا، بل إن بايدن كرر لوم سلفه ترامب الذي وقع اتفاقًا سياسيًا مع طالبان في فبراير/شباط 2020، وضعه أمام خيارات صعبة. وكان من الواضح أن بايدن أراد بنبرته القوية أن يقول لخصومه السياسيين، بشكل لا لبس فيه، أنه يرفض كليًا انتقاداتهم وتحفظاتهم، وأن الوقت قد حان للتطلع الى المستقبل وليس إلى الماضي.
مؤيدو الرئيس بايدن في الكونغرس وفي أوساط المحللين السياسيين والعسكريين سارعوا إلى تذكير خصوم الرئيس بأن الانسحابات العسكرية نادرًا ما تخلو من النكسات والهفوات، خاصة إذا تم الانسحاب في ظروف غير سلمية. وتجربة الولايات المتحدة في إنهاء معظم النزاعات العسكرية، التي تورطت فيها منذ حرب فيتنام، لم تكن سهلة أو دون ثمن سياسي أو بشري. محللون كثيرون قارنوا الانسحاب وإجلاء الرعايا من كابول بالانسحاب السياسي وإجلاء الرعايا من سايغون في 1975 خلال سقوطها في أيدي الفيتكونغ وقوات فيتنام الشمالية.
ولكن التدخلات العسكرية الأميركية في المنطقة الممتدة من أفغانستان في الشرق إلى ليبيا في الغرب، بعد حرب فيتنام، اتسمت بنكسات سياسية وعسكرية، كانت كلها بسبب السعي إلى تحقيق أهداف سياسية طموحة وغير واقعية، لم تطرح للنقاش قبل التدخل العسكري. في لبنان تم تبرير التدخل العسكري الأميركي في 1982 لأسباب إنسانية، (حماية المخيمات الفلسطينية)، وفي الصومال لمساعدة الأمم المتحدة. ولكن المهام العسكرية في البلدين تغيرت لاحقًا، وبشكل جذري، لم يكن متوقعًا في بداية التدخل، حين أصبحت واشنطن متورطة في النزاع الداخلي في لبنان، ما أدى إلى تورط مفتوح انتهى بتكبد الولايات المتحدة لأكبر خسارة في هجوم واحد في تاريخ مشاة البحرية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، حين تم تفجير مقر المارينز في بيروت وقتل 241 عنصرًا. الرئيس الأسبق رونالد ريغان سارع إلى الإعلان عن “إعادة نشر” القوات الأميركية، أي نقلهم إلى السفن المنتشرة قبالة الساحل اللبناني، قبل ابحار هذه السفن إلى قواعدها. ريغان حّول الانظار والاهتمام من لبنان، إلى جزيرة غرانادا التي غزاها فور نكسة بيروت.
في الصومال، قرر الرئيس الأسبق بيل كلينتون التخلي عن مهمة المارينز، الذين نشرهم في الصومال الرئيس جورج بوش الأب قبل نهاية ولايته، بعد مواجهة عسكرية في نزاع داخلي أدت إلى مقتل وجرح عدد من المارينز الأميركيين. لا المهمة في لبنان، ولا المهمة في الصومال، كانتا تحظى بمباركة الأميركيين.
السبب المباشر لغزو أفغانستان في أكتوبر/تشرين الأول 2001، بعد أسابيع من هجمات سبتمبر/أيلول الإرهابية، كان لمعاقبة تنظيم القاعدة ونظام طالبان، الذي وفّر الملجأ للتنظيم وقائده أسامة بن لادن. لاحقًا قام الرئيس بوش الابن بتغيير هذه الأهداف جذريًا، واستبدالها بمحاولة بناء دولة عصرية ونظام تمثيلي في أفغانستان، وهو هدف طموح للغاية إن لم نقل من المستحيل تنفيذه في عقد أو عقدين من الزمن.
السبب الرئيسي والمباشر لغزو العراق في 2003 كان للتخلص من أسلحة الدمار الشامل، التي اعتقدت إدارة الرئيس بوش الابن خطأً انها كانت موجودة في الترسانة العراقية. لاحقًا، غّير الرئيس الأميركي جذريًا من أهدافه في العراق، وغالى في طموحاته حين قرر إقامة نظام ديموقراطي في دولة كان يحكمها أسوأ طاغ في تاريخ العراق الحديث، بعد أن وضعها في حالة حرب أو توتر مع جيرانها منذ 1980 حتى سقوطه في 2003.
ولو لم تتعرض القوات الأميركية في مطار كابول إلى التفجير الإرهابي، الذي قتل 13 عنصرًا عسكريًا، وأكثر من 200 مدني افغاني، لكانت الانتقادات لعملية الجلاء أقل بكثير مما كانت عليه، حتى من قبل الجمهوريين. ويرى الكثير من المراقبين، انه إذا لم تواجه إدارة بايدن أزمة رهائن أميركيين في أفغانستان، كما حدث في إيران خلال ولاية الرئيس الأسبق جيمي كارتر، وإذا لم تتعرض الولايات المتحدة إلى هجوم ارهابي مصدره أفغانستان، كما حدث في سبتمبر/أيلول 2001، فإن معظم الأميركيين لن يفكروا بأفغانستان أو بالهفوات التي أحاطت بعملية الانسحاب واجلاء الرعايا حين يذهبون للتصويت في الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
الناخبون الأميركيون، وخاصة في الانتخابات النصفية، يركزون على القضايا والهموم الداخلية وخاصة الاقتصادية، أو تلك المتعلقة بالنظام الضريبي أو العناية الصحية، إذا لم تكن الولايات المتحدة متورطة في نزاع خارجي دموي. وفي الانتخابات الرئاسية الأخيرة في 2020، لم تكن حربي أفغانستان والعراق أو حتى الحرب الناجحة ضد تنظيم “الدولة الاسلامية” (داعش)، التي أمر الرئيس ترامب بقتل زعيمها أبو بكر البغدادي، من بين اهتمامات الناخب الأميركي العادي.
وجاء في آخر استطلاع لمؤسسة غالوب أن واحد بالمئة فقط من الأميركيين في يوليو/تموز الماضي وضعوا السياسة الخارجية في طليعة اهتماماتهم. ولم تحظ حروب أو تدخلات الولايات المتحدة في جنوب آسيا والشرق الأوسط بأي ذكر. هذه الوقائع لم ولن تثن الجمهوريين عن مواصلة مساعيهم لاستخدام هفوات الانسحاب واجلاء الرعايا من كابول وخسارة العسكريين الأميركيين، لعرقلة برامج بايدن الداخلية أو استخدامها في الانتخابات النصفية.
وفي هذا السياق يواجه النقاد الجمهوريين مشكلة صدقية لن يكون من السهل عليهم تخطيها أو تفاديها. وكانت معظم القيادات الجمهورية قد أيدت أو باركت الاتفاق الذي توصل اليه الرئيس السابق ترامب مع حركة طالبان، بل إن بعضهم، مثل السناتور جوشوا هاولي، كان قد انتقد الرئيس بايدن لأنه لم يلتزم بالموعد الذي حدده الرئيس السابق ترامب بسحب القوات في مايو/آيار الماضي. في الأيام الماضية، بثت بعض شبكات التلفزيون الأميركية تصريحات للرئيس السابق ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو وممثلة واشنطن السابقة في الأمم المتحدة، نيكي هايلي، تصريحات متفائلة ومؤيدة للاتفاق بين واشنطن وطالبان، بما فيها تصريحات أثنى فيها ترامب وبومبيو على المسؤولين في حركة طالبان، مقابل تصريحات متناقضة ونقدية للغاية لتسرع بايدن بسحب القوات والادعاء بأنهم لم يقولوا ما قالوه في السابق.
يأمل الرئيس بايدن أن ينصفه التاريخ – وقبل التاريخ أن ينصفه الناخبون الأميركيون في 2022 و2024 – لأنه اتخذ قرارًا شجاعًا بإنهاء الحرب في أفغانستان، على الرغم من أن سلفيه باراك أوباما ودونالد ترامب، اللذان كانا يرغبان بوضع تلك الحرب في الماضي، ولكنهما أخفقا في ذلك لأنهما قبلا بنصائح مستشاريهم السياسيين والعسكريين، وهو ما رفضه بايدن.
وإذا نجح بايدن قبل نهاية هذه السنة، بتحقيق تقدم أكثر في مكافحة فيروس كورونا، ونجح في إقرار خطته الطموحة لإعادة بناء البنية التحتية من قبل مجلسي الكونغرس، وإذا استمر الاقتصاد الأميركي على معدلات نموه الراهنة والعالية، وهذه انجازات قابلة للتحقيق، فإن كبوته التكتيكية في أفغانستان، لن ترق إلى أكثر من هامش بسيط في حرب طويلة وحده نجح في إنهائها.