كان الرئيس جوزيف بايدن يعتزم ترشيح نفسه لولاية ثانية خلال الأشهر، إن لم يكن الأسابيع، الأولى من السنة الجديدة وفقا لما أوحى به الرئيس نفسه وعدد من المقربين منه، الذين وضعوا قراره المتوقع في سياق التحسن الذي طرأ على شعبيته بعد الأداء الإيجابي غير المتوقع للديموقراطيين في الانتخابات النصفية، والانحسار المستمر في معدلات التضخم، ومع استمرار الضغوط القانونية والسياسية التي أضعفت منافسه دونالد ترامب. هذه التطورات أضعفت أيضًا تلك الأصوات الديموقراطية التي كانت تنادي، بدرجات متفاوتة من الالحاح، بضرورة البحث عن بديل شاب لبايدن، الذي سيكون في الثانية والثمانين من عمره في 2024.
ولكن طموحات بايدن تعثرت مؤقتًا بعد اكتشاف وثائق رسمية سرية في مكتب كان يستخدمه في مركز أبحاث يحمل اسمه، أسسه بعد انتهاء ولايته كنائب للرئيس، ولاحقًا في منزله (ومرأب سيارته الشهيرة من طراز كورفت) بولاية ديلاوير. هذا التطور المفاجئ قلب حسابات بايدن والديموقراطيين، ووضعهم في موقع دفاعي، ووفر للجمهوريين ذخيرة جديدة لاستخدامها ضدهم في التحقيقات البرلمانية، التي كانوا يعتزمون تنظيمها قبل حصولهم على الهدية الأخيرة من بايدن ومساعديه. كما خفف من الضغوط المتفاقمة على الرئيس السابق ترامب، الذي يواجه تحقيقات جنائية لأنه نقل مئات الوثائق الرسمية السرية إلى مقره في ولاية فلوريدا، هذا الأمر خلق، ولو بشكل سطحي، حالة من التكافؤ الخاطئ بين الحالتين.
وللمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة تجري وزارة العدل تحقيقين جنائيين متوازيين برئيسين: حالي وسابق. وكان وزير العدل ميريك غارلند (Merrick Garland) قد عين في نوفمبر/تشرين الثاني المحقق جاك سميث (Jack Smith) للتحقيق بنقل الرئيس السابق ترامب ومساعديه لمئات الوثائق السرية الرسمية إلى مقره في مارا لاغو بولاية فلوريدا، ورفضه إعادة تسليم هذه الوثائق إلى وزارة العدل ومكتب الأرشيف حتى بعد صدور مذكرة رسمية بهذا الشأن. وبعد أيام من كشف شبكة التلفزيون سي بي أس عن وثائق بايدن، أعلن الوزير غارلند عن تعيين المحقق (الجمهوري) روبرت هير (Robert Hur) الذي عينه ترامب في وزارة العدل، كمحقق جنائي خاص للنظر بملابسات وصول وثائق بايدن إلى مكتبه ومنزله ومرأبه.
الضجيج الجمهوري الاحتفالي لم يخفت للحظة منذ الكشف عن الحفرة التي حفرها بايدن لنفسه. غلاة الجمهوريين كانوا يحلمون قبل هذا الاكتشاف بتنظيم جلسات استماع للتحقيق بمختلف أوجه إدارة الرئيس بايدن، والتلويح بتهم تتراوح بين الفساد الموجه للرئيس ونجله هنتر، والتقصير بالقيام بالواجبات الرسمية ومنها، وفقا للجمهوريين، الاخفاق في حماية الحدود الجنوبية للبلاد، والدعوة لمحاكمة وزير الأمن الوطني اليهاندرو مايوركاس (Alejandro Mayorkas) لفشله في حماية الحدود.
وبغض النظر عما سيكشفه المحقق الخاص بشأن وثائق بايدن، وحتى في حال خلص التحقيق للقول، كما يتوقع الكثير من المحللين أن بايدن كان صادقًا حين قال أنه لا يعرف مضمون الوثائق، ولا يعرف كيفية وصولها إلى مكتبه ومنزله، فإن غيوم التحقيق الداكنة سوف تبقى مخيمة فوق رؤوس بايدن ومساعديه خلال الأشهر القليلة المقبلة. وحتى ولو انتهى تحقيق وزارة العدل، فإن ذلك لن ينه تحقيقات لجان مجلس النواب الجمهوري.
المقارنة السطحية بين حيازة كل من الرئيس السابق ترامب والرئيس الحالي بايدن لوثائق رسمية سرية لا يفترض أن تكون في حوزتهما لا تحجب حقيقة وجود فروق جذرية بين الحالتين. أشرف الرئيس ترامب على نقل حوالي 300 وثيقة سرية من البيت الأبيض إلى مقره في فلوريدا. ترامب رفض بعد ذلك طلبات عديدة من قبل وزارة العدل لإعادة الوثائق إلى مكتب الأرشيف الوطني، وواصل معارضته ومحاولاته عرقلة التحقيق حتى بعد توجيه مذكرة رسمية من وزارة العدل بهذا الشأن، ما أدى لاحقًا إلى أمر قضائي بتفتيش مقره. ترامب، أكد عبر أحد محاميه أنه تم تسليم جميع الوثائق، ولكن تبين لاحقًا أن هذا التأكيد لم يكن صحيحًا.
الرئيس بايدن في تعليقه الأول والوحيد أكد أنه تعاون ومساعديه بشكل كامل مع التحقيق، وأن مساعديه هم الذين أبلغوا وزارة العدل بالوثائق التي عُثر عليها في مكتب ومنزل بايدن. أكد مساعدو بايدن أن الوثائق التي لا تتخطى الثلاثين، ووصلت بطريق الخطأ إلى مكتب ومنزل بايدن، بسبب السرعة (والإهمال) التي تم بها إخلاء مكاتبه بعد انتهاء ولايته كنائب للرئيس.
ولكن المأزق الذي يواجهه بايدن ومساعديه ليس قانونيًا بقدر ما هو سياسيًا. مساعدو بايدن اكتشفوا بضعة وثائق في مكتبه السابق في واشنطن في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أي قبل ستة أيام من موعد الانتخابات النصفية، وأعلموا مكتب الأرشيف ووزارة العدل. ولكن البيت الأبيض ظل صامتًا حول هذا التطور حتى التاسع من يناير/كانون الثاني الراهن، أي بعد أن كشفت شبكة سي بي أس عن الوثائق، وهو ما أكده البيت الأبيض.
ولكن البيت الأبيض خلال تأكيده لصحة اكتشاف وثائق في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، تجاهل الإشارة إلى اكتشاف وثائق إضافية في منزل بايدن ومرأبه في العشرين من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهو ما كشفته وزارة العدل. ولاحقًا، في الحادي عشر من يناير/كانون الثاني تم اكتشاف وثيقة في منزل بايدن، وفي اليوم التالي تم الكشف عن خمس صفحات (ليس من الواضح ما إذا كانت وثيقة واحدة من خمس صفحات او خمسة وثائق مختلفة.)
هذه المعلومات والتسلسل التاريخي للكشف عن الوثائق أثار، ولا يزال يثير، الكثير من الأسئلة الشرعية، ناهيك عن الاتهامات الجمهورية للرئيس بايدن ولوزارة العدل بممارسة “المعايير المزدوجة”، والمقاربة الخاطئة لحالتي ترامب وبايدن، وكذلك اتهام بايدن بالخبث السياسي على خلفية انتقاداته القاسية لتهور ترامب حين نقل الوثائق إلى فلوريدا. كما تركزت انتقادات الجمهوريين، ومعها تساؤلات من العديد من المعلقين المحايدين حول الأسباب التي دفعت بالبيت الأبيض على التستر على اكتشاف وثائق مكتب بايدن قبل أيام من الانتخابات النصفية، وإلى أي مدى كانت الانتخابات عاملًا أساسيًا في التكتم على الأمر.
إخفاق إدارة الرئيس بايدن في مناقشة ملابسات اكتشاف الوثائق في موعدها، والتستر على الأمر لأسابيع طويلة، أثار الأسئلة والشكوك حول فعالية ودقة البيت الأبيض في التعامل السريع والشفاف مع مثل هذه القضية الحساسة. لماذا الصمت الطويل للبيت الأبيض؟ في أي وقت تم إعلام بايدن بوجود هذه الوثائق؟ وهل لعب الرئيس دورًا في التستر الأولي عليها؟ ولماذا لم يتم القيام بعملية تفتيش شاملة لمنزل بايدن بعد اكتشاف الوثائق في مكتبه؟ هذه عيّنة من الأسئلة التي طرحها ويطرحها السياسيون والمعلقون بمن فيهم مشرعون ديموقراطيون لا يخفون إحباطهم لهذا الاخفاق الذريع للبيت الأبيض في احتواء الأزمة قبل تفاقمها.
منذ فضيحة ووترغيت قبل نصف قرن، يقول المراقبون أن ما هو أسوأ من الفضيحة أو الخطيئة الأولية هو محاولة التغطية عليها لاحقًا. وفي هذا السياق، إذا تبين أن بايدن أو مسؤولين بارزين في البيت الأبيض قرروا التستر على اكتشاف الوثائق السرية لكيلا يؤثر ذلك سلبًا على الديموقراطيين في الانتخابات النصفية، أو أنهم تفادوا الكشف عن الوثائق اللاحقة لكي لا يرغموا وزير العدل على تعيين محقق خاص، سوف يكون لذلك تداعيات سياسية سلبية على البيت الأبيض وعلى بايدن شخصيًا، الذي لا يستطيع أن يدعي أن وزارة العدل نصحته بعدم مناقشة قضية اكتشاف الوثائق السرية لأنها لم تفعل ذلك. الديموقراطيون المحبطون يقولون إنه كان على البيت الأبيض أن يعلن بسرعة وبشفافية عن كل ما لديه من معلومات لمنع بروز أي تساؤلات أو شكوك، وتفادي تعريض نفسه بأنه يحاول التغطية على التحقيق.
حتى الآن، ووفقًا لما هو علني، قام البيت الأبيض بكل ما هو مطلوب منه قانونياً: التعاون الكامل مع المحققين. ولكن ذلك لن يحجب حقيقة أن الرد السياسي للمسؤولين في البيت الأبيض على هذه القضية اتسم بالتخبط والغموض وانعدام الخبرة.
ما هو معروف حتى الآن عن التحقيق بالوثائق السرية في حوزة بايدن هو أمر محرج ومحبط للرئيس، ولكنه لا يضع ترشيحه لولاية ثانية في مأزق حقيقي. ولكن إذا أظهر التحقيق في الأشهر المقبلة تطورات أخرى محرجة أكثر لبايدن ولكبار مساعديه، عندها سوف تبرز من جديد تلك الأصوات الديموقراطية التي كانت تبحث عن بديل لبايدن، والتي خفتت في الشهرين الماضيين، لكي تطالب بفارس ديموقراطي شاب للسباق المقبل إلى البيت الأبيض.