سعى الرئيس جوزيف بايدن خلال جولته الأوروبية إلى تحسين علاقات الولايات المتحدة مع أعضاء مجموعة الدول الصناعية السبعة التي اجتمعت في بريطانيا، ومع أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) خلال قمة بلجيكا، بعد أربعة سنوات من التوتر والمناوشات خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي لم يشكك فقط بجدوى حلف الناتو، بل هدد بالانسحاب من الحلف، التي بادرت الولايات المتحدة إلى إنشائه قبل أكثر من سبعين سنة لاحتواء الاتحاد السوفياتي. كما سعى بايدن خلال قمة جنيف مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين إلى اقناع الرئيس الروسي بضرورة الالتزام بقواعد وشروط واضحة للعلاقات المستقبلية بين البلدين، تشمل توقف موسكو عن التدخل في الانتخابات الأميركية، ووقف الهجمات الالكترونية إن كان من الأجهزة الروسية أو من “قراصنة” يقيمون في روسيا، والتأكيد بأن واشنطن ستواصل دعم أوكرانيا ودول بحر البلطيق للتصدي للضغوط والتهديدات الروسية.
الرئيس بايدن كان يدرك أنه سيواجه مهمة صعبة في أوروبا مع الحلفاء ومع الرئيس بوتين، لأنها المرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة التي يقوم فيها رئيس أميركي جديد بمثل هذا النشاط الدولي على خلفية زلزال سياسي تمثل بالاقتحام العنيف لمئات المتطرفين والعنصريين لصرح الديموقراطية الأميركية، مبنى الكابيتول، في محاولة “انقلابية” بمضمونها الحقيقي، لإلغاء نتائج انتخابات ديموقراطية، وإعادة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض. بمعنى آخر، بايدن كان يدرك أن تاريخ الاقتحام، أي السادس من يناير، قد أصبح معلما للمؤرخين والمحللين (وكذلك للأصدقاء والخصوم) في تحليلاتهم وتقويمهم للولايات المتحدة قبل السادس من يناير والولايات المتحدة بعد السادس من يناير. بايدن كان يدرك أيضا، أن اقتحام الكابيتول أظهر مدى وعمق الخلل السياسي الأميركي الراهن، وتأثيره السلبي الكبير على الديموقراطية الأميركية وسمعتها في العالم.
وعندما رفض الجمهوريون في مجلس الشيوخ، قبل أيام من جولة بايدن، الموافقة على اقتراح للديموقراطيين انشاء لجنة مستقلة وتحظى بانتداب واضح وواسع لإجراء تحقيق شامل بأسباب ومضاعفات اقتحام الكابيتول، رأى المحللون انه من المحتّم ان تؤدي هذه التطورات إلى اضعاف الموقع التفاوضي للرئيس الأميركي مع الحلفاء ومع الخصوم، وأن رفض الجمهوريين كشف كل الحقائق المتعلقة بهجوم تعرضت له المؤسسة التي ينتمون إليها، كان تعبيرًا نافرًا عن الخلل السياسي الراهن في واشنطن.
الاستقبال الحار الذي حظي به بايدن من قبل الحلفاء أظهر أنه نجح إلى حد كبير في رأب الصدع الذي تسبب به ترامب، بعد تأكيدات بايدن بأن ترامب كان يمثل الاستثناء الصارخ للموقف الأميركي التقليدي من ضرورة صيانة وتعزيز الحلف. وجاء في استطلاع لمؤسسة بيو Pew، أجري في عشرات الدول، أن 75 بالمئة من المشاركين أعربوا عن ثقتهم بقدرة الرئيس الأميركي الجديد أن يتخذ القرارات الصحيحة، مقارنة بـ 17 بالمئة فقط من الذين أعربوا عن موقف مماثل في السنة الماضية، عندما كان ترامب في البيت الأبيض.
ولكن الاستطلاع أظهر نواح داكنة بالنسبة لسمعة الديموقراطية الأميركية، رأى 14 بالمئة فقط من الألمان أن الديموقراطية الأميركية لا تزال نموذجًا صالحًا للعالم، بينما رأى 54 بالمئة منهم ان الديموقراطية الأميركية “كانت مثالًا جيدًا، ولكنها لم تعد كذلك في السنوات الأخيرة”. وأظهر الاستطلاع وجود مواقف سلبية مماثلة في دول حليفة للولايات المتحدة مثل فرنسا وبريطانيا وكوريا الجنوبية وأستراليا.
مواقف وتأكيدات الرئيس بايدن حول “عودة” أميركا لقيادة العالم الديموقراطي في مواجهته الجديدة مع كتلة من الدول الأوتوقراطية الصاعدة، لم يخف حقيقة أن ما يحدث داخل الولايات المتحدة نفسها هو مواجهة مماثلة بين الائتلاف الذي يمثله الحزب الديموقراطي (الذي يضم جماعات وشرائح اجتماعية تقدمية ويسارية إضافة الى بعض الاقليات) والحزب الجمهوري، الذي انكمش في السنوات والعقود الماضية ليصبح في جوهره حزبًا أبيضًا بغالبيته العظمى، يعبئ قاعدته الشعبية على المخاوف من خطر المهاجرين ومن ضغوط الأقليات، وخاصة الأميركيين من أصل أفريقي والجناح التقدمي-اليساري في الحزب، الذي يريد اعتماد سياسات يراها اليمين الأميركي تهديدًا لمصالحهم.
وعندما عاد بايدن إلى واشنطن، استقبله الجمهوريون بنكسة جديدة حين عطلّوا مشروع قانون طموح لضمان حق الانتخاب، كان يهدف لاحتواء القوانين المحلية التي أقرتها ولايات عديدة يسيطر الجمهوريون على مجالسها المحلية، وتهدف إلى خلق العقبات اللوجستية والتنظيمية بوجه الناخبين الفقراء والأقليات، الذين يصوتون تقليديًا لصالح المرشحين الديموقراطيين. زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ السناتور تشاك شومر قال، “هذا التصويت هو الرصاصة التي تؤشر ببدء السباق، ولكنها ليست الرصاصة التي تؤشر بانتهاء السباق”. ولكن الواقع هو أنه لا توجد لدى الديموقراطيين أي حلول بديلة، خاصة وأن الجمهوريين يصرّون على التمسك بالعرف القائل بأن بعض القرارات الهامة يجب أن تحظى بتصويت 60 عضوًا، بدلًا من قبول الأكثرية البسيطة (المتوفرة الآن للديموقراطيين) أي أكثرية 51 صوتًا.
الرئيس بايدن لم يرث فقط الخلل السياسي، الذي وصل إلى مستويات غير معهودة منذ عقود، بل ورث أيضا مجتمعا يمزقه العنف الاجرامي، بما في ذلك ازدياد أعمال القتل الجماعي (الذي يعرّف بقتل 4 افراد على الأقل باستثناء القاتل) والعنف السياسي، الذي بدأ المسؤولون الأميركيون بوصفه بـ “الارهاب الداخلي”، الذي يقوم به أفراد مدفوعين بأحقاد عنصرية.
الازدياد المقلق في معدلات الاجرام دفع بالناطقة باسم البيت الأبيض جين ساكي للقول أن البلاد تعاني من “جائحة عنف مسلح” بعد هجوم أدى إلى مقتل 9 مدنيين في ولاية كاليفورنيا في الشهر الماضي، كان التاسع من نوعه خلال ثلاثة أشهر. حاكم الولاية، غافن نيوسم تساءل بألم واضح، “بحق الجحيم ما الذي يحدث في الولايات المتحدة؟ بحق الجحيم ما هو الخلل فينا؟ وفي أي وقت سوف نعالج هذه المشكلة؟” ووفقا لإحصائيات الاف بي آي، ارتفع معدل جرائم العنف في السنة الماضية بنسبة 25 بالمئة. واستخدم الجمهوريون هذه الاحصائيات لإحراج بايدن والديموقراطيين باسم “الأمن والنظام”.
قبل أيام، طرح بايدن استراتيجية جديدة لمكافحة الاجرام، تشمل تشديد المراقبة على محلات بيع الأسلحة التي تخالف القوانين الفدرالية، وتوفير الدعم المادي لمراكز الشرطة. وخاطب الجمهوريين قائلًا إن هذه المسألة ليست جمهورية او ديموقراطية، هذه مسألة أميركية، محذرا من “صيف حار “لأن معدلات الجريمة ترتفع عادة في الصيف.
وكشف البيت الأبيض في الأسبوع الماضي عن “استراتيجية” جديدة أخرى، للتصدي للخطر الارهابي الداخلي المتزايد، أصدرها مجلس الأمن القومي بعنوان “الاستراتيجية الوطنية لمواجهة الإرهاب الداخلي”. وكان بايدن في اليوم الثاني لاستلامه لصلاحياته الدستورية قد طلب من الأجهزة الأمنية تقديم تقرير حول هذا الخطر الجديد نسبيًا وكيفية معالجته، وذلك بعد أسبوعين من اجتياح مبنى الكابيتول. التقرير المؤلف من 32 صفحة تضمن رسالة من بايدن تطرق فيها إلى أعمال الإرهاب التي شهدتها الولايات المتحدة في السنوات الماضية، والتي قام بها متطرفون عنصريون ومتشددون دينيًا ضد مصلين من أصل أفريقي في مدينة تشارلسون في ولاية ساوث كارولينا، والهجوم الذي تعرض له المصلين اليهود في مدينة بتسبيرغ بولاية بنسلفانيا، والهجوم الذي استهدف مواطنين من أصل لاتيني في مدينة الباسو، بولاية تكساس وغيرها. واضاف بايدن، “نحن لا نستطيع ان نتجاهل هذا الخطر أو أن نتمنى اختفائه. منع الارهاب الداخلي وتقليص العوامل التي تؤججه تتطلب ردود متعددة المصادر وتشارك فيها مختلف الأجهزة الفدرالية”.
ولكن استراتيجيات بايدن لمكافحة العنف الاجرامي والعنف الارهابي لن تحقق الكثير من أهدافها لأكثر من سبب، أبرزها مقاومة الجمهوريين الذين يرفضون فرض قيود متشددة ضد اقتناء أو حمل الأسلحة النارية. وبما أن معظم الهجمات الارهابية الداخلية تقوم بها جماعات أو ميليشيات يمينية متطرفة، أو أفراد متأثرين بهذه الجماعات، وجميعهم متعاطفون مع الحزب الجمهوري، سوف يواصل قادة هذا الحزب في الكونغرس مقاومة أي جهود حقيقية للتصدي لهذه الجماعات وعنفها الإرهابي، كما يتبين من رفض الجمهوريين الموافقة على إنشاء لجنة تحقيق باقتحام الكابيتول.
أكثرية الأميركيين صوتوا لبايدن، وأكثرية قادة الحلفاء يتمنون له النجاح. بايدن يريد أن يعيد للولايات المتحدة سمعتها القديمة بأنها “مدينة مشعة فوق تلة” (Shining city upon a hill)، ولكن أضواء المدينة قد خفتت في السنوات والعقود الماضية، بسبب آفة الخلل السياسي والاجتماعي والثقافي في البلاد، ما أدى إلى اصطفاف الجمهوريين والديموقراطيين وراء متاريسهم، ورفضهم للتسويات والحلول الوسطى وتمسكهم بولاءاتهم الضيقة، والتي يسميها العديد من المحللين بالقبلية الأميركية الجديدة. الكثير من الديموقراطيين يحملّون الرئيس السابق ترامب مسؤولية ايصال البلاد إلى مأزقها الراهن. طبعًا ساهم ترامب كثيرًا في تأزيم العلاقات السياسية والاجتماعية والعرقية في البلاد، ولكن الأصلح هو القول بأن ترامب وحده لم يخلق هذا الخلل أو الشروخ العميقة في الجسم السياسي والاجتماعي الأميركي، وإن جسّدها بأبشع صورها.
خلل وتشرذم سياسي غير معهود، وخطر ارهابي داخلي شاهده الأميركيون برعب خلال اقتحام الكابيتول، هذه التحديات الداخلية تضافرت وبرزت في الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة الخطر الصيني الاستراتيجي والاقتصادي المتصاعد، واستمرار الدور التخريبي لروسيا في أوروبا، وحتى داخل الولايات المتحدة. ولا يمكن لبايدن مواجهة الأخطار والتحديات الخارجية بشكل فعّال، في الوقت الذي تعاني منه الجبهة الأميركية الداخلية من خلل سياسي وشروخ اجتماعية وثقافية، هي الأخطر عليها منذ الحرب العالمية الثانية. هذا باختصار التحدي التاريخي لجوزيف بايدن.