قبل سنة من موعد أول انتخابات حزبية لاختيار مرشح الحزب الديمقراطي لمنصب الرئاسة بدأ السباق إلى البيت الأبيض مزدحما بخليط غير معهود من المرشحين من النساء والأقليات بينهم للمرة الاولي مرشح مثلي الجنس هو بيتر بوتيجيك ، وذلك مع إعلان السيناتور الديمقراطي-الإشتراكي بيرني ساندرز ترشيحه، ومع توقع دخول نائب الرئيس السابق جوزف بايدن المعترك الانتخابي قريبا. الطيف الانتخابي – حتى الآن- يضم بعض المرشحين الذين ينتمون إلى التيار المعتدل او إلى الوسط السياسي، بينما معظمهم من الليبراليين التقدميين واليساريين، ويغطون مختلف الأعمار من أكبرهم سنا (ساندرز البالغ من العمر 77 عاما) إلى أصغرهم (بوتيجيك البالغ من العمر 37 عاما والذي شارك في حرب أفغانستان هو رئيس بلدية مدينة ساوث بيند بولاية انديانا ). وقبل انضمام ساندرز إلى السباق، سبقه خمسة نساء، أربعة منهن أعضاء في مجلس الشيوخ، والخامسة عضو في مجلس النواب، من بينهم مرشحين من أصل أفريقي، ومرشح من أصل أمريكي-لاتيني.
طيف انتخابي ديمقراطي غير معهود
السباق الديمقراطي في 2016، كان بين اليساري ساندرز الذي تحدى هيلاري كلينتون، مرشحة المؤسسة الديمقراطية التقليدية. صحيح أن كلينتون حصلت على ترشيح الحزب، ولكن ذلك حدث بعد معركة مضنية وصلت فيها كلينتون إلى المؤتمر العام للحزب في صيف تلك السنة منهكة بعد أن كشف ساندرز نقاط ضعفها ومحدوديتها في خلق مشاعر الحماس في أوساط الشرائح الاجتماعية التي تشكل القاعدة الانتخابية للحزب الديمقراطي، كما فعل باراك أوباما في 2008 و2012. صحيح أن ساندرز نجح بعد مرور 24 ساعة من إعلان ترشيحه في 19 شباط- فبراير بجمع تبرعات وصلت إلى ستة ملايين دولار تقريبا – بمعدل 27 دولار للمتبرع الواحد- وصحيح أنه حتى الآن، المرشح الأكثر شهرة بين المتنافسين الحاليين، إلا أنه لا يمكن القول في هذا الوقت المبكر من هو المرشح المتقدم بالفعل، ومن هو المرشح المؤهل لتعبئة الناخبين الديمقراطيين خلال السنتين المقبلتين، خاصة وأن الانتخابات النصفية في تشرين الثاني –نوفمبر الماضي أبرزت إلى العلن حزبا ديمقراطيا يختلف عن الحزب الديمقراطي في 2016. وهذا يبدو واضحا عبر وصول أكبر عدد من النساء في تاريخ البلاد إلى مجلس النواب، كما أن معظم الأعضاء الجدد هم من الشباب والشابات، وأكثرهم من الليبراليين الذين يطالبون باعتماد سياسات تقدمية اجتماعيا واقتصاديا، يعتبر بعضها راديكالية حتى بمقاييس الليبراليين الديمقراطيين في السابق.
بيرني ساندرز: إلى اليسار در
وفي الأيام القليلة الماضية، قام بيرني ساندرز بتذكير الأمريكيين في مداخلاته السياسية ومقابلاته الاعلامية، بأنه هو المسؤول عن هذا الخطاب الانتخابي الجديد في أوساط الحزب الديمقراطي، كما يتبين من مواقف وطروحات المرشحين الجدد والمتعلقة بالضمان الصحي، ورعاية أطفال ذوي الدخل المحدود، ورفع الحد الأدنى من الأجور، وتوفير التعليم الجامعي المجاني. في سباق 2016 اعترضت هيلاري كلينتون على اقتراح ساندرز رفع الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولار في الساعة. في السباق الراهن، معظم المرشحين يوافقون على اقتراح ساندرز. في الدورة السابقة، دعا ساندرز إلى توسيع الضمان الصحي وتوفير المساعدات للطلاب المحتاجين، وفرض ضرائب أعلى على الأثرياء والشركات، ورفض التبرعات المالية من شركات اللوبي أو الشركات الكبيرة. من جهتها، رفضت كلينتون بعض هذه المطالب والمقترحات أو تحفظت عليها. العدائون في السباق الحالي أما يوافقون على هذه المقترحات أو صيغ معدلة منها. وحتى خصوم ساندرز يعترفون بأنه مسؤول بالدرجة الأولى عن دفع الحزب الديمقراطي أكثر إلى اليسار، في السنوات الماضية. وفور فوز دونالد ترامب بالرئاسة، بدأ ساندرز، بحملة انتخابية –تعبوية دون ضجة كبيرة لبناء “ماكينته” الانتخابية في معظم الولايات المحورية، ولتعزيز علاقاته مع قاعدته الانتخابية الشبابية، والتي يزيد عددها عن أكثر من مليون متبرع.
هذه المرة، سوف يجد ساندرز نفسه في مواجهة مع مرشحين لا يختلفون عنه كثيرا ايديولوجيا، وعلى سبيل المثال كانت السيناتور إليزابيث وارن تعتبر الوريث الأبرز – سياسيا وايديولوجيا – لساندرز. وقد يُفضل بعض مؤيدي ساندرز في 2016 التصويت إلى مرشحين آخرين أصغر سنا وأكثر حيوية منه هذه المرة. وإذا افترضنا أن ساندرز حصل على ترشيح حزبه وفاز في الانتخابات العامة، فإنه سيدخل البيت الأبيض كأكبر رئيس أمريكي في السن في تاريخ البلاد، وهو على عتبة الثمانين من عمره.
وللتدليل على أن طروحات بعض المرشحين الحاليين تختلف جذريا حتى عن طروحات ساندرز والسياسيين الديمقراطيين السابقين، ومن بينهم الرئيس باراك اوباما وهيلاري كلينتون، أحيا عدد من المرشحين ومن بينهم كامالا هاريس، ممثلة ولاية كاليفورنيا في مجلس الشيوخ، واليزابيث وارن، ممثلة ولاية ماساتشوستس في المجلس، وكوري بوكر، ممثل ولاية نيوجرسي، الاقتراح القديم الذي لم يكن يحظى بتأييد أي سياسي ديمقراطي هام في الماضي، بسبب “راديكاليته”، والقاضي بقيام الحكومة الفيدرالية بدفع التعويضات للأمريكيين من أصل أفريقي بسبب الإجحاف الاقتصادي والتعليمي الذي لا يزال قسم كبير منهم الأمريكيين يعانون منه بسبب الآثار العميقة الباقية لآفة مؤسسة العبودية. وكان ساندرز قد رفض هذا الاقتراح في السابق بحجة أنه “غير عملي” وهو الموقف الذي اعتمده أيضا الرئيس السابق أوباما والمرشحة هيلاري كلينتون. وساهمت تصريحات ساندرز حول فنزويلا ورفضه وصف الرئيس نيكولاس مادورو بالديكتاتور والمطالبة برحيله، إلى تعريضه للانتقادات وخاصة من السياسيين الذين يمثلون ولاية فلوريدا ذات الأهمية البالغة انتخابيا والتي يقطنها ملايين الناخبين من أصل أمريكي-لاتيني – والتي فاز بها ترامب في 2016- وكان من بينهم النائبة دونا شلالا، اللبنانية الأصل، التي قالت إن مواقف ساندرز هذه تعني أنه لن ينجح في الحصول على ترشيح الحزب. المرشحون الآخرون ومن بينهم إليزابيث وارن، والسيناتور كيرستن جيليبراند التي تمثل ولاية نيويورك في مجلس الشيوخ، ونائب الرئيس السابق بايدن، إضافة إلى قادة الحزب الديمقراطي الآخرين، ومن بينهم رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي يطالبون باستقالة مادورو.
المرشح المتردد جوزف بايدن يقترب من قرار الحسم
الموارد المالية تعتبر عاملا رئيسيا لبقاء المرشح في السباق، لأنها ضرورية للدعايات التلفزيونية، وبناء الهياكل الانتخابية في الولايات ودفع نفقات موظفي الحملة الانتخابية، ولكن عامل المال لوحده ليس كافيا للحصول على ترشيح الحزب أو جذب أصوات الناخبين، وتاريخ الانتخابات الأمريكية حافل بالمرشحين الأثرياء الفاشلين. ما يحتاجه المرشح، إضافة إلى المال، هو المواقف السياسية والطروحات الاقتصادية والاجتماعية التي تقنع الناخب بالتصويت له. ولكن هناك عوامل أخرى ربما كانت بأهمية المال والبرنامج السياسي، أو حتى تفوقها أهمية، ومنها المزايا الشخصية للمرشح، والتي تلخصها كلمة واحدة في القاموس السياسي الأمريكي Character. هل كلام المرشح ينسجم مع أفعاله؟ هل هو عصامي كما يدعي؟ هل يفرّق بين الرجال والنساء أو بين الأعراق أم يعاملهم بمساواة مطلقة كما يؤكد؟ في المواجهة مع رئيس مثير للجدل مثل دونالد ترامب، الذي يحتفل علنا بتعصبه وعنصريته ضد المسلمين والأفارقة والأمريكيين –اللاتينيين، والذي لا يتردد عن إطلاق الإهانات الجارحة للنساء، وحتى التحرش بهن، كما كشفت ذلك بعض التسجيلات الصوتية، والمعروف بممارساته غير الأخلاقية كرجل أعمال أعلن إفلاس شركاته أكثر من مرة، والذي يمارس الكذب دون تردد، سوف تكون شخصية المرشح الديمقراطي وسمعته وصلابته الأخلاقية وحتى “الكاريزما” التي يمكن أن ينضح بها، عاملا هاما في ردع هجمات وإهانات وأكاذيب ترامب خلال الحملة الانتخابية، وتحديدا خلال المناظرات الانتخابية التي ستتحول إلى مبارزات شرسة للغاية.
في هذا السياق يقول مقربون من الرئيس ترامب إنه مع مساعديه البارزين مقتنعون بأن نائب الرئيس السابق جوزف بايدن، وهو سياسي مخضرم وله خبرة تشريعية، يشكل الخصم الأقوى إذا حصل على ترشيح حزبه. وحتى بعد أن خدم بايدن لثمانية سنوات كنائب للرئيس، وتقريبا ثلاثين سنة كعضو في مجلس الشيوخ، فإنه لا يملك أي ثروة تذكر، لا بل أن الرئيس أوباما عندما علم أن نائبه يعتزم بيع منزله لمساعدة نجله الأكبر على قهر سرطان الدماغ، عرض على بايدن إقراضه من ماله الخاص. بايدن، الذي مثل ولاية ديلاوير في مجلس الشيوخ، ترعرع في مدينة كرانستون في ولاية بنسلفانيا وهي مدينة صناعية فيها طبقة عمالية، يجيد مخاطبة الطبقة العاملة وذوي الدخل المحدود ويعرف كيفية التواصل معهم والتعاطف الحقيقي مع طموحاتهم ومشاركتهم لما يقلقهم. لماذا تقلق هذه المزايا الرئيس ترامب؟ لأن ترامب الذي فاز بأكثرية أصوات المجمع الانتخابي، وخسر التصويت الشعبي بأقل من ثلاثة ملايين صوت، وصل إلى البيت الأبيض بأقل من ثمانين ألف صوت حصل عليها من ولايات بنسلفانيا وميشيغان ويسكونسن، (التي أعطته أكثرية أصوات المجمع الانتخابي) وهي الولايات التي تعيش فيها تلك الشرائح الاجتماعية التي يستطيع جوزف بايدن أن يخاطبها ويتواصل معها بطريقة لم تنجح فيها هيلاري كلينتون، التي لم تهتم حتى بزيارة ولاية ويسكونسن.
خلال حملة 2016، لم يترشح بايدن لأكثر من سبب، أبرزها وفاة نجله الأكبر، وأيضا لأن قادة الحزب الديمقراطي، ومن بينهم الرئيس أوباما، قرروا ترشيح هيلاري كلينتون، التي هزمها أوباما في 2008، والتي “جاء دورها” كما قيل في 2016. المقربون من بايدن يقولون إنه يقترب من إعلان ترشيحه، وأن اتصالاته الأولية مع مؤيديه، بمن فيهم المتبرعين الكبار، سوف يضمنون له ميزانية انتخابية أولية تصل إلى 25 مليون دولار.
ويقول الخبراء إن المرشح الذي يريد البقاء في السباق إلى حين بدء الانتخابات الحزبية في الثالث من شباط –فبراير 2020 في ولاية آيوا يحتاج إلى ميزانية تقدر بمئة مليون دولار. وإذا أراد البقاء في السباق إلى موعد “الثلاثاء العظيم” في شهر آذار حين تصوت بعض أكبر الولايات في البلاد، فإنه سيحتاج إلى 50 مليون إضافية. وفي سباق مزدحم، سوف تتحول مهمة جمع التبرعات المالية الكافية، وخاصة من المواطنين وليس من الشركات والأثرياء، مهمة شبه مستحيلة.
دخول بايدن إلى السباق، سوف يغير من المشهد الانتخابي، لأن أسمه معروف لأكثرية الأمريكيين، ما يعني أنه سيحتل المرتبة الأولى بين المرشحين، ولكن ربما لفترة وجيزة، قبل أن يتعرض للمساءلة ولشرح مواقفه السياسية الكثيرة، خاصة وأن بعضها مثير للجدل وغير مقبول في أوساط الحزب الديمقراطي الآن، مثل تأييده لغزو العراق.
أبدية الموسم الانتخابي
في الموسم الانتخابي الأمريكي، أحيانا يتحول أسبوع واحد أو شهر واحد إلى أبدية. وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى أن ما يفصلنا عن أول انتخابات حزبية هو سنة كاملة، وعن الانتخابات العامة 18 شهرا، وهذه فترة زمنية تبدو وكأنها أكثر من أبدية. الرئيس ترامب يدرك أنه سيواجه في 2020 لائحة ديمقراطية مؤلفة من رجل وامرأة، أو امرأة ورجل، أو مرشح أبيض للرئاسة ومرشح أسود لمنصب نائب الرئيس أو العكس. ومن المتوقع أن يلجأ ترامب إلى تخويف قاعدته المحافظة من مضاعفات انتخاب رئيس غير أبيض، أو رئيسة أفريقية الأصل، أو رئيس “اشتراكي” سوف يدعي أنه سيحول الولايات المتحدة إلى فنزويلا أخرى في أمريكا الشمالية. وفي الأسابيع الأخيرة، وبعد بروز أصوات تقدمية ويسارية جديدة في مجلس النواب، وبعد إعلان ساندرز عن ترشحه، بدأ ترامب ومساعدوه باتهام الديمقراطيين بأنهم يريدون تحويل البلاد إلى دولة اشتراكية. ولكن المشهد الانتخابي العام قد يتغير جذريا، إذا أظهرت التحقيقات القضائية التي يجريها المحقق روبرت مولر، ومحاكم أخرى في نيويورك وفيرجينيا، بسلوك الرئيس وعائلته وشركاته، تورط ترامب، أو حملته، أو أفراد في عائلته، في ممارسات غير قانونية، أو حتى تصرفات محرجة سياسيا، فان شعبية ترامب قد تنحسر حتى في أوساط قاعدته الضيقة أصلا، ما يعني أنه سيخسر بعضا من مناعته ضد الهجمات من المرشحين الديمقراطيين.
ما يمكن قوله بثقة، هو أن السباق الأولي بين المرشحين الديمقراطيين سوف يكون مثيرا وجذابا ومتميزا لأنه لم يحدث وأن شارك مثل هذا العدد المتنوع من المرشحين في سباق رئاسي. وإذا بقي ترامب مرشحا عن الحزب الجمهوري، فإن معركة الانتخابات العامة، سوف تكون حتى أكثر إثارة، وقطعا أكثر شراسة من المواجهة بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب. الطريق إلى البيت الأبيض في 2020 طويل وحافل بالمطبّات والمنعطفات الخطيرة، فضعوا أحزمة الأمان واحبسوا أنفاسكم، وتمسكوا باليقظة، وتوقعوا أي شيء، وكل شيء.