قبل عدة أسابيع، اقترح عليّ الدبلوماسي والباحث الإيراني القدير سيد حسين موسويان قراءة كتابه الأخير، لقد وجدت أن موسويان يعرض في كتابه “بنية جديدة للأمن والسلام والتعاون في الخليج الفارسي” بياناً قصيراً وموثقًا، بشكل جيد، لعلاقة إيران المعاصرة المشحونة مع دول الخليج العربية، وما يتعلق بها من خلافات بين تلك الدول، حيث ساهم كلا الطرفين بشكل كبير في حالة عدم الاستقرار الإقليمي.
لا ينكر موسويان أنه يدافع عن وجهة النظر الإيرانية، ومع ذلك، يعد كتابه قراءة قيمة لكل من يفكر في البحث في الوضع الخليجي، وفي دور الولايات المتحدة في تلك المنطقة والشرق الأوسط على نطاق أوسع. إلا أنه يعد عرضاً مكثفاً ومعقداً، إذ تتضمن حسابات موسويان التاريخ والتحليل والوصفات السياسية، وكلها مستقاة من حياته المهنية كدبلوماسي، وباحث وممارس للعمل السياسي، وطرف سياسي فاعل، لا سيما خلال الفترة الرئاسية للرئيس علي أكبر هاشمي رفسنجاني. والكتاب بحاجة إلى قراءة متأنية.
القضايا المعرضة للخطر في الخليج متعددة الجوانب، فتطوير إيران قدراتها النووية جزء لا يتجزأ من نضالها لضمان استمرار نظامها السياسي ما بعد الثورة، وتأمين حدودها وسيادتها وسط ما تعتبره بيئة خطرة. ويساهم هذا الصراع بشكل مباشر في قضايا أخرى مهمة لأمن المنطقة، وأهمها تطوير إيران للصواريخ، وتطويرها كميات هائلة من الأسلحة التقليدية في جميع أنحاء الخليج والمنطقة، بما في ذلك إسرائيل. يعد الوضع الحالي مأزقاً خطيراً، وعنيفاً أحياناً. لكن من الواضح أنه من المستحيل أن نتخيل مخرجاً من هذه المعضلة دون فهم الانقسامات الخليجية والتعامل معها. وهذا نداء من أجل الحل.
ويقدم موسويان، في هذا الصدد، رؤى خاصة، وإن كانت غير كاملة، فهو يدفع نحو بنية أمنية خليجية من شأنها أن تسمح لإيران وجيرانها الخليجيين بالمشاركة في منتدى لإدارة الخلافات، بحيث تقوم على مبادئ احترام سيادة الدولة وتكامل أراضيها بالإضافة إلى التسامح الديني وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء. ويتطلع موسويان كذلك إلى مستقبل يمكن فيه لجميع دول منطقة الخليج أن تبدأ السعي لتلبية احتياجاتها من أجل أداء اقتصادي أقوى، بالإضافة إلى إدارة القضايا الوجودية المتعلقة بالتحكم بالجائحات وتغير المناخ.
إن رؤية موسويان جاذبة للاهتمام، فهو يوثق أفكاره بعناية، معتمداً على العديد من السوابق التاريخية. فقد انطلق موسويان من قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 598 الصادر في يوليو/تموز 1987، والذي تمت صياغته في أعقاب الحرب الإيرانية-العراقية المدمرة، ونص القرار على تكليف الأمين العام للأمم المتحدة “بالتحقق من الإجراءات الرامية إلى تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، بالتشاور مع إيران والعراق ودول أخرى في المنطقة”.
في السنوات الأخيرة، أعربت إيران عن رغبتها في التعاون في مجال الأمن الخليجي من خلال المبادرات الدبلوماسية التي قدمتها على الصعيدين الإقليمي والدولي. في مناسبات مختلفة، أرسلت الكويت وسلطنة عُمان إشارات تفيد باستعدادهما لمواصلة الحوار مع إيران، لكن معارضة السعودية الحازمة للحوار الإقليمي على الطريقة الإيرانية وضعت قيوداً على مشاركتهما. وفي سبتمبر/أيلول 2019، خلال اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، قدم الرئيس الإيراني حسن روحاني أحدث نسخة إيرانية من الطرح الإقليمي على شكل “مبادرة هرمز للسلام”.
يشرح موسويان سبب عدم اكتساب هذه المبادرات الزخم المطلوب من وجهة نظره. فهو يدرك، بدايةً، أن الدول على جانبي الخليج لديها صيغ شديدة التباين بخصوص الأزمات في المنطقة. فالدول مختلفة على قضايا تتعلق بالدين والأنظمة السياسية وانعدام التوازن العسكري في المنطقة. ويعترف موسويان بأن إيران تعتقد أنه من المفترض أن يكون لها “دور حيوي، ورادع لتأمين حدودها ومؤسساتها الحكومية وتماسكها الوطني”، وهو ما قد يكون بمثابة العنصر المبطل للصفقة بالنسبة للعديد من الدول العربية السنية.
كما يوضح موسويان أيضاً أن إيران تعارض بشكل قاطع وجود أي بصمة أمنية للولايات المتحدة في المنطقة، ويعترف بأن سياسات إيران على مدى أربعة عقود قد استقطبت أقوى معارضة للولايات المتحدة. ونظراً للتفاوت في القوة، تعتقد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بشكل خاص، أن أمنهما يعتمد على علاقاتهما الوثيقة مع الولايات المتحدة، وتعتقد الدولتان أن هذا الوضع يبرر لهما الوقوف في وجه إيران. كما يعترف موسويان بأن احتفاظهما بترسانات ضخمة من الأسلحة التقليدية ودعمهما للعناصر السنية في العراق وجماعات مثل مجاهدي خلق وجند الله هو جزء من مفهومهما للردع. ويأتي دعم هذه الجماعات كردٍ على تورط إيران المكثف إلى جانب الجهات الفاعلة من دون الدولة في لبنان وسوريا والعراق واليمن. باختصار، هنالك عقبات كبيرة أمام بناء مثل هذه البنية الأمنية الخليجية.
وتتفاقم هذه العقبات بسبب المعارضة الأمريكية، فخلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، أحبطت الولايات المتحدة البحث عن ترتيبات أمنية إقليمية وأغلقت الأبواب فعلياً أمام أي حوار خليجي. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الإدارة الجديدة للرئيس جوزيف بايدن ستكون أكثر تعاطفاً أو تعاوناً.
لا تخلو أفكار موسويان من بعض المشاكل، وإن كانت تقدم رؤى للمضي قدماً، فما يطرحه يتطلب مزيداً من التفكير. يعمل كل من قانون هلسنكي لعام 1975 ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا الناتجة عنه على تقديم مفاهيم مثيرة للاهتمام، لكنها تستند إلى ظروف مغايرة ولا تصلح لتكون نموذجاً دقيقاً للتعاون في الخليج.
وعلاوة على ذلك، فإن وصفات موسويان كما تم عرضها في كتابه لا تفسح مجالاً كافيًا للولايات المتحدة وأعضاء مجلس الأمن الآخرين للقيام بدورهم في حوار أمني خليجي. قد تكون سياسة إيران هي “معارضة هيمنة الولايات المتحدة” كما يسميها موسويان، ولكنها لا تأخذ بالحسبان الحساسيات الشديدة لعرب الخليج وحاجتهم إلى الحماية الخارجية. في الواقع، تخضع المنطقة لتدخل خارجي من جهات عديدة – روسيا وتركيا – إذا أردنا تسمية اثنين فقط من الأطراف المشاركة حديثاً، وتلوح الصين في الأفق وربما الهند أيضاً. يجب أن تؤخذ مصالح كل هذه الدول بعين الاعتبار عند صياغة مبادرة أمنية للخليج.
كما أن صيغة موسويان تتجاهل قضية إسرائيل المهمة، فإسرائيل لها مصلحة في الترتيبات الأمنية الشاملة في الشرق الأوسط، واتفاقات إبرهام مع الإمارات والبحرين تجعل إسرائيل شريكًا في مستقبل الخليج. لا ينبغي أن تكون إسرائيل طرفاً في أي ترتيب أمني خليجي، ولكن يجب أن يحسب حسابها أثناء وضع أي ترتيب. والأهم من ذلك أن السياسة الخارجية الإيرانية سوف تستمر في مواجهة طريق مسدود إذا ما سعت إلى استبعاد إسرائيل كلياً من مفهومها للأمن الإقليمي.
منح قرار مجلس الأمن رقم 598 الأمين العام أنطونيو جوتيريس دوراً لاستكشاف الإجراءات اللازمة لتعزيز أمن الخليج. وبقدر ما تبدو هذه المهمة صعبة وغير مجدية، إلا أن لها أهمية حيوية للولايات المتحدة ومنطقة الخليج وللعالم بأسره. إذا لم يتمكن الخليج من إدارة أموره الأمنية، فلن ينعم بالسلام، ولن تجد الولايات المتحدة مخرجاً لها من “حروبها التي لا تنتهي” ووجودها العسكري الكبير المبالغ فيه. ينبغي على جميع الأطراف أن تضع نصب أعينها تحقيق هدف نهائي محكم ومشترك وهو: احتواء التوترات المستمرة منذ عقود. يجب أن يشكل إطار العمل الأمني الإقليمي جزءاً من هذا المستقبل، ويجب أن يبدأ الآن العمل نحو تحديده، حتى في الوقت الذي تسعى فيه واشنطن وطهران بجدية لتسوية خلافاتهما بشأن إحياء الاتفاق النووي المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة.