ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
الرئيس ترامب غاضب ومحبط. الرئيس الجديد والمقربون منه في البيت الأبيض أقنعوا أنفسهم أنهم يواجهون ائتلافا معاديا لهم مؤلفا من البيروقراطية المتجذرة في المؤسسات الأمريكية ومن بقايا الليبراليين المؤيدين للرئيس السابق باراك أوباما، إضافة إلى أجهزة الاستخبارات، والنظام القضائي، وأن هذه القوى تتآمر مع وسائل الاعلام، من خلال تسريب المعلومات والوثائق والأسرار، لتشويه صورة ومكانة الرئيس ترامب ولتقويض طموحاته وبرامجه وسياساته والحركة المحافظة التي يقودها. ما يعمق ويؤكد هذه المخاوف المبالغة بها هو إيمان الرئيس ترامب ومساعديه بنظريات المؤامرة وميلهم الطبيعي إلى نكران الواقع وحتى تشويهه ليتناسب وينسجم مع تصوراتهم المسبقة، والحملة الانتخابية الطويلة حافلة بالأمثلة التي تبين ذلك بوضوح كامل. ما هو مقلق للغاية وما هو جديد في السجال السياسي الذي جلبته ظاهرة ترامب هو استخدام مؤيدو ترامب لمفهوم “الدولة العميقة” لوصف المشاكل والتحديات التي واجهها الرئيس الجديد منذ وصوله إلى البيت الأبيض.
ولا يتحدث الرئيس ترامب ومساعدوه علنا عن رغبتهم بالتصدي “للدولة العميقة”، ولا يذكرون هذه العبارة علنا ولكن ستيفن بانون، مستشار ترامب للشؤون الاستراتيجية، تحدث قبل أسابيع عن أن أحد أهداف ترامب هو “تفكيك الدولة الإدارية” وهي إشارة ضمنية إلى تفكيك البيروقراطية الفيدرالية المتجذرة والتي يعتبرها بانون مخترقة من اليسار الليبرالي وبقايا الموظفين والمدراء والقضاة المعينين في مناصبهم القديمة من قبل رؤساء ليبراليين مثل بيل كلينتون وباراك أوباما. عبارة بانون، هي إشارة ملطفة إلى رغبته بتطهير الأجهزة البيروقراطية وإعادة هيكلتها لكي تنسجم أكثر مع طروحات الرئيس الجديد وسياساته. ولكن عبارة “الدولة العميقة” تذكر باستمرار في المقالات التي تنشر على موقع بريتبارت الالكتروني الذي كان يديره بانون قبل التحاقه بحملة ترامب في السنة الماضية. وتعتبر الإقالات التي طالت كبار الموظفين غير المسيسين في وزارة الخارجية، وتهميش الوزارة بشكل عام حيث لم يتم حتى الآن ترشيح نائب للوزير ووكيل للوزارة للشؤون السياسية أو مساعدي الوزير لمختلف المناطق الجغرافية مثل الشرق الأوسط وغيرها مثال نافر على هذا الأسلوب. وعلى سبيل المثال زار وزير خارجية المكسيك واشنطن وأجرى اجتماعات مع مسؤولين في البيت الأبيض من بينهم جاريد كوشنر صهر الرئيس ترامب ومستشاره المكلف بإدارة ملفي النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي والمكسيك وذلك دون مشاركة أي مسؤول من الخارجية، وهو أمر غير معهود. المؤسف والمحرج للوزارة هو أن الناطق باسمها لم يكن على علم بوجود الوزير المكسيكي في واشنطن.
هذه الخلفية ضرورية لفهم الاتهام الصارخ الذي وجهه الرئيس ترامب في سلسلة من التغريدات السريالية لسلفه باراك أوباما الأسبوع الماضي بأنه أمر أجهزة الاستخبارات بالتنصت على مكالماته الهاتفية من برج ترامب في نيويورك، قبل انتخابه واعتبر ذلك أمرا مماثلا لما فعله الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون خلال فضيحة ووترغيت، ووصف ترامب سلفه أوباما بأنه “رجل سيء أو مريض”. وحتى بمقاييس ترامب المتدنية في التعامل مع منافسيه وخصومه، فإن هذا الاتهام لأوباما والذي لم يستند إلى أي دليل، والذي لا مثيل له في تاريخ البلاد، يعتبر سافرا وفضائحيا بامتياز.
هل هناك دولة عميقة في أمريكا؟
مفهوم الدولة العميقة يستخدم عادة لوصف قوى حكومية غير خاضعة للمساءلة مثل قيادات الجيش والاستخبارات وغيرها من المؤسسات البيروقراطية في دول تفتقر إلى مؤسسات ديمقراطية شفافة، وتقوم بالتعاون مع بعضها البعض أما للتأثير على سياسات الحكومة، وفي معظم الأحيان التآمر لإحباط أو رفض قرارات سياسية أو قضائية تتخذها الأجهزة الرسمية إذا كانت هذه القرارات تتعارض مع مصالح هذه القوى التي لها جذور عميقة وقديمة في السلطة وتبقى في مكانها حتى عندما يتم تبادل السلطة على مستوى القيادات. وفي السنوات الماضية شاع مفهوم “الدولة العميقة ” في العالم العربي في سياق الانتفاضات الشعبية، وخاصة في مصر، عندما اتهمت بعض العناصر في “الدولة العميقة” بمعارضة وتقويض التغيير الديموقراطي واحباط عملية الإصلاح منذ سقوط الرئيس حسني مبارك، وخلال حكم العسكر، وتجربة حكم الاخوان المسلمين، قبل الانقلاب العسكري والشعبي الذي أوصل عبد الفتاح السيسي إلى الحكم. مفهوم الدولة العميقة يستخدم عادة لوصف النفوذ المتجذر والعميق لأجهزة الاستخبارات والضباط البارزين الذين يسيطرون فعليا على السلطة، حتى عندما تكون هناك قيادة مدنية منتخبة.
وحتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض كان الرئيس ترامب ولا يزال في حالة حرب مفتوحة مع أجهزة الاستخبارات، والقضاء ووسائل الاعلام التي يرى أنها تشكل حلفا غير مقدس يسعى إلى هزيمته من خلال استخدام المؤسسات والأجهزة البيروقراطية. وصُدم ترامب وكبار موظفي البيت الأبيض عندما نجح القضاء الأمريكي في الأسبوع الثاني من ولايته بتعليق تطبيق قراره التنفيذي المتعلق بفرض حظر سفر مؤقت ضد رعايا سبعة دول ذات أكثرية مسلمة، عندما اعتبرته لجنة قضائية في الدائرة التاسعة في ولاية كاليفورنيا غير دستوري. هذه الهزيمة السريعة والحاسمة أرغمت ترامب على التراجع عن قراره الأول بتحدي القرار في المحاكم، عبر إصدار قرار جديد، يواجه بدوره الآن تحديات قانونية من بضعة ولايات. وجاءت الهزيمة الثانية لترامب بشكل غير مباشر على أيدي وسائل الاعلام التي كشفت الاتصالات السرية بين مستشاره الأول لشؤون الأمن القومي مايك فلين والسفير الروسي في واشنطن سيرغي كيسلياك، وتضليل فلين لنائب الرئيس مايك بنس بشأن مضمون هذه الاتصالات، الأمر الذي أرغم ترامب على إقالة فلين. وينصب غضب ترامب على التسريبات الرسمية لوسائل الاعلام والتي يعتقد الرئيس أن مصدرها أجهزة الاستخبارات التي وصفها قبل أسابيع باعتماد أساليب نازية.
ولكن تسريب المعلومات لوسائل الاعلام هو جزء من العلاقات المتشعبة بين الاعلام والمسؤولين الحكوميين الذين يسربون المعلومات لأكثر من سبب أبرزها، رغبة المسربين الشرعية بالكشف عن الفساد والهدر المالي وأي انتهاكات مهنية أو أخلاقية يعتبرونها خطيرة أو تهدد أمن البلاد، أما السبب البارز الثاني، فهو رغبة المسؤولين بتسريب بالونات اختبار بشأن سياسات جديدة أو تحولات في مواقف معينة، لامتحان ردود فعل الرأي العام تجاهها، قبل اعتمادها رسميا. ولا نبالغ عندما نقول إن وسائل الاعلام تصبح خاوية وفقيرة لولا التسريبات الحكومية.وقد لوحظ مؤخرا أن وتيرة هذه التسريبات قد ارتفعت كثيرا، ما يشير إلى أن المسربين يساورهم قلق حقيقي من أنه إذا لم يتم تحدي بعض قرارات ترامب قانونيا فإنها ستلحق اضرارا كبيرة بالبلاد في مختلف المجالات. وسائل الاعلام الرئيسية كانت مسؤولة عبر السنين عن تغييرات سياسية واستراتيجية كبيرة لأنها كشفت عن انتهاكات خطيرة أو ممارسات غير قانونية، استنادا إلى تسريبات معظمها من مصادر حكومية. وتعتبر قضية “أوراق البنتاغون” (1971) المتعلقة بحرب فيتنام من أهم التسريبات التي كان لها أثرا كبيرا على نهاية ادارة الرئيس ريتشارد نيكسون. أوراق البنتاغون هي وثيقة رسمية وسرية حول تاريخ الحرب في فيتنام، سربها دانيال ايلزبيرغ الذي ساهم في كتابتها إلى صحيفة نيويورك تايمز التي بدأت بنشرها في 1971. ومن أهم ما كشفته هذه الأوراق هو أن الولايات المتحدة وسعت رقعة الحرب لتشمل كمبوديا ولاوس وأهداف ساحلية في فيتنام الشمالية دون علم الشعب الأمريكي لأنها بقيت سرا. الأوراق كشفت أن الحكومة الأمريكية قد ضللت الشعب الأمريكي، وأن أحد أهداف الحرب في فيتنام ليس حماية استقلال فيتنام الجنوبية بل احتواء الصين. وتعتبر التسريبات الرسمية التي كانت في جوهر فضيحة ووترغيت السبب الرئيسي لاستقالة الرئيس نيكسون لأنها كشفت ضلوعه في التغطية على الفضيحة وانتهاكه للقانون. وخلال الغزو الأمريكي للعراق، كانت الصحافة الأمريكية التي استندت على التسريبات هي التي كشفت الانتهاكات في سجن أبو غريب، فضلا عن برنامج السجون السرية في العالم لاستجواب وتعذيب عناصر القاعدة والتي أشرفت عليه وكالة الاستخبارات المركزية، وغيرها من الفضائح والممارسات التي كان يمكن أن تبقى سرية لو لم يقم مسؤولون عارضوا هذه الممارسات بكشفها.
“الدولة العميقة” تنجح في غياب الصحافة الحرة والمسؤولة، والقضاء المستقل الذي يحميها قانونيا والمؤسسات الشرعية الخاضعة للمساءلة. هذه الدولة العميقة ليست موجودة في الولايات المتحدة، وما نراه اليوم هو محاولة غير معهودة من رئيس جديد محاط بمجموعة من المستشارين المتشددين الذين يريدون فرض رؤيتهم المبنية على طروحات قومية انعزالية وحتى شوفينية وعلى نبذ المواقف والسياسات التقليدية التي اتبعتها حكومات جمهورية وديمقراطية على مدى سبعين سنة، خلقت خلالها ما يسمى “بالنظام الليبرالي” الذي ساد في الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هذه طروحات انقلابية وجوهرها غير ديمقراطي، ومن الواضح أن مؤسسات المجتمع المدني، والسلطات القضائية، ووسائل الاعلام والأجهزة البيروقراطية التي تعمل وفق قواعد مهنية وأخلاقية محددة، تقاوم أو سوف تقاوم محاولات هذه المجموعة من المستشارين الهادفة إلى “تفكيك الدولة الإدارية” .
الحكومة الدائمة
أما مفهوم “الحكومة الدائمة” فيشير إلى السياسيين والمشرعين السابقين أو المتقاعدين، وإلى العاملين في مراكز الأبحاث والأكاديميين الذين ينضوون تحت خيمة ما يسمى “بالمؤسسة السياسية”. ويمكن وضع الموظفين غير المسيّسين في وزارات الخارجية والدفاع من الذين يبقون في مناصبهم مع انتقال الحكم من حزب إلى آخر في هذه الخانة. هذه الشريحة من الموظفين تمثل ما يمكن تسميته بالذاكرة الجماعية لهذه الوزارات والأجهزة والتي تضمن استمرارية السياسات الأمريكية الأساسية المقبولة تاريخيا من قبل الحزبين، (صيانة حلف الناتو على سبيل المثال). تستخدم عبارة الحكومة الدائمة أيضا في سياق مفهوم “الباب الدوار” والذي يعني الانتقال الدوري للباحثين والأكاديميين من وإلى مراكز الأبحاث ووزارتي الدفاع والخارجية ومجلس الأمن القومي والأجهزة الحكومية الأخرى. أفراد هذه الحكومة الدائمة المقيمون عادة في محيط مدينتي واشنطن ونيويورك يقومون أحيانا وبشكل غير رسمي بتقديم المشورة للمسؤولين الحكوميين ولأعضاء الكونغرس.
وخلال الأزمات السياسية يبرز دور أعضاء هذه الحكومة الدائمة، في التحقيقات التي يطلبها الرئيس أو الكونغرس من “الحكماء” المعروفين باستقلاليتهم. بعد هجمات سبتمبر/أيلول الإرهابية تم تشكيل لجنة تحقيق مستقلة ضمت مسؤولين سابقين من الحزبين وترأسها الحاكم السابق توماس كين الجمهوري ونائبه لي هاملتون الديموقراطي وأصدرت تقريرا مفصلا تضمن توصيات بشأن المستقبل يعتبر الكلمة الفصل في هذا الحدث. وفي 2006 قرر الكونغرس التحقيق بغزو العراق، وشكل “فريق دراسة العراق” المؤلف من 10 شخصيات جمهورية وديمقراطية برئاسة وزير الخارجية الاسبق جيمس بيكر الجمهوري، والنائب السابق لي هاملتون الديموقراطي.
ما نراه اليوم، هو محاولة تطهير لبيروقراطية الدولة ولمفاهيم سياسية هي جزء أساسي من “الارثوذوكسية” السياسية للحزبين. هذه المجموعة المحيطة بالرئيس ترامب والمؤثرة على تفكيره ومواقفه، تدّعي أنها تقاوم دولة عميقة خيالية، والواقع هو أن الذين يقفون وراء حملة التطهير هم الذين يتصرفون كما يتصرف أعضاء “الدولة العميقة”، في الأماكن التي تتواجد فيها بالفعل.