توقع بعض المراقبين ما أسموه “الموجة الحمراء”، أخرون يميلون إلى الإثارة أغالوا في توقعاتهم وأسموه “التسونامي الأحمر”، في إشارة إلى الانتصار الجمهوري الكاسح الذي كان يفترض أن يحرزه الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية على حساب الحزب الديموقراطي والرئيس جوزيف بايدن. ولكن الناخبين الأميركيين، فاجأوا المنظّرين والمحللين حين قرروا تحدي النمط التاريخي للانتخابات النصفية منذ الحرب العالمية الثانية حيث يخسر حزب الرئيس، في معظم الانتخابات النصفية، عشرات المقاعد في مجلسي الكونغرس وأيضًا بعض مناصب حكام الولايات، في انتخابات تعتبر استفتاء على أداء الرئيس وحزبه.
في السابق خسر الرئيس الديموقراطي هاري ترومان 55 مقعدًا في مجلس النواب في أول انتخابات نصفية له. الرئيس الجمهوري رونالد ريغان خسر 26 مقعدًا في مجلس النواب خلال أول انتخابات نصفية في ولايته الأولى. الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون خسر 52 مقعدًا في مجلس النواب في أول انتخابات نصفية له، كما خسر الرئيس الديموقراطي باراك أوباما 63 مقعدًا في مجلس النواب في أول انتخابات نصفية في ولايته الأولى.
وبعد ساعات قليلة من اغلاق مراكز الاقتراع في ولايات الساحل الشرقي، والإعلان عن النتائج الأولية في بعض هذه الولايات المحورية مثل بنسلفانيا ونيويورك، بدا من الواضح أن الرئيس بايدن تفادي نكسة انتخابية كبيرة، حتى ولو فاز الجمهوريون بمجلس النواب بأكثرية بسيطة كما توحي الأرقام الأولية، بينما مُني الرئيس السابق دونالد ترامب بنكسة انتخابية وسياسية كبيرة، لا بل إن البعض وصف ليلة الثلاثاء بالنسبة لترامب بالليلة الكارثية.
وحتى مساء الأربعاء، ظل المشهد الانتخابي غامضًا مع استمرار عمليات الفرز في ولايتي نيفادا [المرشح الجمهوري آدم لاكسولت (Adam Laxalt) متقدم فيها]، وأريزونا [المرشح الديموقراطي مارك كيلي (Mark Kelly) متقدم فيها] في غرب البلاد. في ولاية جورجيا الجنوبية قررت السلطات الانتخابية اجراء دورة انتخابية جديدة لعضوية مجلس الشيوخ بين الديموقراطي رافايل وورناك (Raphael Warnock) والجمهوري هيرشل والكر (Herschel Walker)، لأن القانون الانتخابي في الولاية يتطلب فوز المرشح بأكثر من 50 بالمئة من الأصوات في الدورة الأولى. وفي حال تعادل الاصوات بعد انتهاء الفرز في ولايتي نيفادا وأريزونا، عندها سوف يتوقف مصير مجلس الشيوخ في 2022 مرة ثانية، كما حدث في 2020، على دورة الاقتراع الثانية في ولاية جورجيا بين مرشحي الحزبين لعضوية مجلس الشيوخ.
المؤشرات والإحصائيات الأولية توضح أن الجمهوريين يقتربون من الحصول على الأكثرية البسيطة، المؤلفة من 218 مقعدًا، للسيطرة على مجلس النواب. تحدث الجمهوريون قبل أشهر عن أكثرية من 60 مقعدًا، وقبل أسابيع خفضوا توقعاتهم إلى 30 مقعدًا، وفي الأسبوع الماضي انحسر العدد إلى 20 مقعدًا. ولكن أكثريتهم قد لا تتعدى حفنة من المقاعد، الأمر الذي لا يعطي الرئيس الجمهوري المقبل لمجلس النواب أي رقعة واسعة للمناورة، خاصة وأن هناك مجموعة من غلاة النواب الجمهوريين الذين يدينون بولاء شبه مطلق للرئيس السابق ترامب.
هذا التقارب بين الحزبين في الانتخابات، الذي لم يتوقعه لا قادة الحزبين ولا أغلبية المحللين ولا مختلف استطلاعات الرأي، هو الذي يفسر مشاعر الارتياح العامة التي سادت أوساط الحزب الديموقراطي في الكونغرس وخارجه، خاصة في البيت الأبيض. هذا المشهد الانتخابي المفاجئ أدى إلى البحث عن المسؤول أو المسؤولين في قيادة الحزب الجمهوري عن هذا الأداء الفقير لمرشحي الحزب. ووجهت أصابع اتهام ولوم عديدة إلى الرئيس السابق ترامب المسؤول عن ترشيح ودعم عدد هام من المرشحين لعضوية مجلس الشيوخ ومنصب الحاكم في بعض الولايات الكبيرة، ولمناصب المسؤولين عن إدارة لانتخابات في العديد من الولايات لمجرد أنهم يدينون له بالولاء، ولأنهم يؤمنون بأكاذيبه حول تزوير الانتخابات الرئاسية في 2022، ويوافقون على ادعائه بأنه الرئيس المنتخب شرعيًا وليس الرئيس بايدن.
معظم هؤلاء المرشحين للكونغرس ولمنصب حكام الولايات ليسوا مؤهلين لشغل هذه المناصب، وبعضهم مثل المرشح لمجلس الشيوخ عن ولاية جورجيا هيرشل والكر له تاريخ حافل بالفضائح الشخصية والأخلاقية، وآخرون مثل المرشح لمنصب حاكم ولاية بنسلفانيا دوغلاس ماستريانو (Douglas Mastriano) معروف بمواقفه العنصرية وعدائه للسامية. وقال السناتور الجمهوري عن ولاية بنسلفانيا بات تومي (Pat Toomey) الذي سيتقاعد في نهاية دورة الكونغرس الحالي في العشرين من يناير/كانون الثاني المقبل، تعليقًا على فوز المرشح الديموقراطي جون فيتيرمان (John Fetterman) بمقعده بعد هزيمة المرشح الجمهوري محمد أوز (Mehmet Öz) الذي دعمه ترامب “أشعر بخيبة كبيرة. أعتقد أن معظم هذا الوضع يعود للدور الكارثي الذي لعبه دونالد ترامب في هذه العملية”. السناتور تومي ليس صوتا وحيدًا، بل عضوًا في جوقة من المتوقع أن تنمو بسرعة أكثر في الأسابيع والأشهر المقبلة.
ويوافق العديد من المحللين أن النوعية المتدنية لمعظم المرشحين الذين اختارهم أو تبناهم ترامب، إضافة إلى عوامل عديدة من بينها الاقبال المكثف من قبل الديموقراطيين على التصويت، وجذبهم لأكثرية الناخبين المستقلين، هي التي تفسر الأداء الجيد، نسبيًا، لمرشحي الحزب الديموقراطي في انتخابات نصفية كان يفترض بالحزب الجمهوري أن يحولها، تمشيًا مع النمط التاريخي، إلى “موجة حمراء” أو جمهورية.
ما يجعل الأداء الجمهوري الرديء مفاجئًا هو أنه يأتي في ظروف موضوعية يفترض أن تكون يانعة للجمهوريين. وتؤكد استطلاعات الرأي منذ حوالي سنة أن القضايا التي تقلق وتهم الناخب الأميركي هي الارتفاع التاريخي لمعدلات التضخم، والتي يشعر بها المستهلك الأميركي يوميًا حين يشتري المواد الغذائية أو يتزود بالوقود. ومع أن هذه القضايا ساهمت بمعاقبة الناخبين لبعض مرشحي الحزب الديموقراطي إلا أن مخاوف واهتمامات أخرى خلقها الجمهوريون ساهمت، إلى حد ملحوظ، في “تحييد” الاهتمامات والمخاوف الاقتصادية والمعيشية.
وأظهرت استطلاعات الرأي للناخبين عقب أدلائهم بأصواتهم أن شرائح مهمة منهم قررت التصويت للمرشحين الديموقراطيين بسبب خوفهم على مستقبل الديموقراطية الأميركية، والخطر الذي يمثله الرئيس السابق ترامب وأنصاره على المؤسسات والتقاليد والأعراف الديموقراطية في البلاد، ومن بينها تهديد شرعية العملية الانتخابية، وتهديد التبادل السلمي للسلطة، خاصة وأن مئات المرشحين الجمهوريين قالوا إنهم يشككون بشرعية انتخاب الرئيس بايدن، وبأنهم لن يلزموا أنفسهم مسبقًا بقبول نتائج الانتخابات إن لم تكن لصالحهم.
وفي سياق الحقوق السياسية والمدنية، ساهم قرار المحكمة العليا، بأكثرية أعضائها المحافظين في الصيف الماضي، بإلغاء قانون فيدرالي سمح للمرأة الأميركية، منذ حوالي نصف قرن، بحق الاجهاض في تعبئة النساء، وخاصة الشابات، وشجعهن على التصويت بكثافة لصالح مرشحين ديموقراطيين يعارضون قرار المحكمة العليا، ويطالبون بإقرار قانون فيدرالي جديد يضمن حق المرأة بالإجهاض. هذه الاعتبارات السياسية والحقوقية كانت مساوية بأهميتها للاعتبارات الاقتصادية والمعيشية التقليدية التي تحسم تقليديًا إلى حد كبير الانتخابات الأميركية.
الرئيس بايدن رأى أن النتائج الأولية للانتخابات وعدم حدوث “موجة حمراء” يعني أن الناخبين قد بعثوا برسالة لا لبس فيها حول رغبتهم بصيانة ديموقراطيتهم وحقوقهم الأساسية. وأضاف في مؤتمر صحفي عقده في اليوم التالي للانتخابات، وخلا من أي تبجح، “كان يوما جيدًا للديموقراطية، وأعتقد أنه كان يومًا جيدا لأميركا”. الرئيس بايدن أعرب أكثر من مرة خلال لقائه مع الصحفيين عن رغبته بالترشح لولاية ثانية، حتى حين سؤاله عن رأيه بالأكثرية الأميركية التي تقول في استطلاعات الرأي أنها لا تحبذ ترشيحه لولاية ثانية، بسبب تقدمه في السن، حيث سيكون في الثانية والثمانين من عمره في سنة 2024.
عندما ينظر الرئيس السابق ترامب، الذي سيعلن عن ترشيحه لولاية ثانية في الخامس عشر من الشهر الجاري، إلى المشهد الانتخابي الجديد فإنه سيجد أرضا قاحلة وغير ودية. المرشحون الذين تبناهم إما خسروا بمعظمهم، وحتى الذين فازوا بسباقاتهم، مثل المرشح لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو جي دي فانس (J.D. Vance)، الذي شكر القاصي والداني على فوزه، تناسى ذكر ترامب. الرئيس السابق ينظر بريبة كبيرة لأولئك المرشحين الجمهوريين الذين رفضوا التعاون معه في 2020 لتزوير الانتخابات، مثل حاكم ولاية جورجيا برايان كيمب (Brian Kemp)، أو الذين يراهم كمنافسين له أو كعقبات كبيرة أمام طموحاته الرئاسية، مثل حاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتيس (Ron DeSantis)، والذين نجحوا في التجديد لأنفسهم بنسب عالية من الأصوات.
الفوز الساحق للحاكم دي سانتيس في فلوريدا، والمبني على ائتلاف شعبي واسع، حظي باهتمام كبير من قيادات الحزب الجمهوري نظرًا لطموحات دي سانتيس الرئاسية، ما يفسر محاولات ترامب السخرية منه أو تحجيمه. وترى فعاليات جمهورية عديدة أن فوز دي سانتيس يجب أن يشجعه على الاعلان عن نيته بترشيح نفسه رسميًا لمنصب الرئاسة في 2024. بعض المراقبين قالوا إنهم لا يستبعدون قيام شخصيات جمهورية مختلفة بالاتصال بحاكم فلوريدا، وهي من الولايات المحورية في البلاد، لتشجيعه على تحدي ترامب – وهو أيضا من سكان فلوريدا – ووعده بالوقوف ورائه في أي مواجهة مع ترامب. ويقول هؤلاء أن الوقت قد حان لوضع ترامب “في المرآة الخلفية” للجمهوريين لأنه لا يمثل الماضي فقط، بل لأنه تسبب في خسارة البيت الأبيض ومجلسي النواب والشيوخ في 2020، وساهم بالأداء الرديء لمرشحي الحزب في الدورة الراهنة، ولأنه يمثل الفوضى وانعدام اليقين، ولا يفكر إلا بمصلحته الشخصية. هؤلاء يقولون إن شخصيات جمهورية مثل دي سانتيس، تعكس بعض المزايا والطروحات “الترامبية” التي تعجبهم مثل الموقف السلبي من الهجرة، ومعارضة طروحات الديموقراطيين الليبرالية وغيرها، ولكن دون السلبيات الشنيعة والأنانية لترامب. الديموقراطيون، كما قال الرئيس بايدن، سوف يستمتعون بالاقتتال المقبل بين ترامب ودي سانتيس.
الرئيسان جوزيف بايدن وباراك أوباما شددا في الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية على أن الديموقراطية الأميركية بحد بذاتها هي على المحك في هذه الانتخابات النصفية. النتائج الأولية للانتخابات تؤكد أن فئة كبيرة من الناخبين الديموقراطيين والمستقلين لبوا النداء واقترعوا بكثافة، وشكلوا سدّا قويًا تصدى لموجة حمراء عاتية كانت ستضع البلاد على طريق داكن.