خلال أيام قليلة، تغير المشهد الانتخابي الأميركي بصورة لم يتوقعها أحد. فجأة برز منافس شرس للرئيس ترامب، يمكن أن يلعب دوراً هاماً في حرمانه من ولاية ثانية، اسمه فيروس الكورونا وهو منافس لا تؤثر فيه هجمات ترامب أو سخريته كما يمكن أن تؤثر على منافسيه الديموقراطيين الباقيين في السباق: نائب الرئيس السابق جوزيف بايدن، والسناتور بيرني ساندرز.
فيروس كورونا، كشف قصور فهم الرئيس الأميركي لخطر الاوبئة التي لا تعترف بسيادة الدول أو بحدودها الدولية، وهذا ما عكسه قرار ترامب الاعتباطي بحظربفرض قيود على السفر من دول الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة لثلاثين يوما للحد من انتشار الوباء، على الرغم من أن الوباء موجود في معظم الولايات المتحدة.
إن أبرز ما كشفه الوباء هو تخبط إدارة ترامب للأزمة، حيث تعامل مع فيروس كورونا وكأنه لا يمثل خطراً صحياً واقتصادياً، وقلل من أهمية هذا التحدي، الذي أوحى انه خدعة اخرى يقف ورائها الحزب الديموقراطي. ادعاءات ترامب بأن خطر الوباء على الأميركيين محدود جداً ويتم احتوائه، هو ادعاء قوضته التطورات الصحية التي كشفت، بعد ساعات من إعلانه حظر السفر من أوروبا، أن عدد المصابين بالوباء قد ارتفع بسرعة الى 1663 حالة، بينما ارتفع عدد الوفيات إلى 41 أميركيا.
ولكن الزائر الجديد قلب المعادلات والتقاليد الانتخابية رأساً على عقب، ودفع بجميع المرشحين والمسؤولين في الحزبين الديموقراطي والجمهوري إلى إعادة النظر جميع طقوس الانتخابات الرئاسية الاميركية كما عهدناها منذ الحرب العالمية الثانية. كل هذه الطقوس مرشحة للإلغاء أو التأجيل. أبرز هذه الطقوس، هي المهرجانات الحزبية الصاخبة التي يخاطب فيها المرشح أنصاره ويعبئهم عاطفياً وسياسياً، ثم يلتقي بهم ويصافحهم. كما تشمل هذه التقاليد أن يحمل المرشح الاطفال الصغار ويقبلهم ويلتقط الصور معهم ومع أمهاتهم. وتنتهي عملية الانتخابات الحزبية الأولية بانعقاد المؤتمر الوطني لكل حزب، حيث يتم اختيار مرشح الحزب رسمياً. المؤتمر الوطني لكل من الحزبين الجمهوري والديموقراطي هو طقس اميركي فريد من نوعه، ولا تعرفه الدول الديموقراطية الاخرى.
وعلى مدى أربعة أيام صاخبة يجتمع المندوبين الذين يصوتون في اليوم الأخير على مرشح الحزب، مع حوالي خمسين ألف من أنصار الحزب، إلى جانب جيش من الصحفيين الأميركيين والأجانب تحت قبة واحدة، للمشاركة فيما يمكن وصفه بفولكلور ملون وصاخب لتغطية الخطب الطويلة حول صفات المرشح، ومناقشة برنامج الحزب. وهناك أيضا الأغاني والاحتفالات والموسيقى، حيث تلوح آلاف الأيادي باللافتات وصور المرشح وقادة الحزب. وينتهي المؤتمر بخطاب طويل يلقيه المرشح ويعد فيه – عادة – الأميركيين بأنه سينقلهم الى أفق جديد، وأن مستقبل البلاد هو في بقاء البيت الأبيض في يد الحزب. وبعد أن ينتهي المرشح من إلقاء خطابه يتجمع حوله أفراد عائلته وكبار مساعديه، ليراقبوا آلاف البالونات الملونة التي تتساقط عليهم.
الجمهوريون اختاروا مدينة شارلوت بولاية نورث كارولينا لمؤتمرهم، الذي يفترض أن ينعقد من 24-27 أغسطس/آب، بينما قرر الديموقراطيون أن يجتمعوا في مدينة ميلووكي، بولاية ويسكونسن بين 13-16 يوليو/تموز. وللمرة الأولى في تاريخ هذه المؤتمرات، التي يراقبها عشرات الملايين من الناخبين، يناقش قادة الحزبين والمسؤولين في الولايتين احتمال إلغاء المؤتمرين بسبب فيروس كورونا. وفي الأيام الماضية، ألغى كل من المرشحين الديموقراطيين بايدن وساندرز مهرجانات انتخابية استعداداً للانتخابات التمهيدية في 17 من الشهر الجاري في ولايات محورية من بينها فلوريدا وإلينوي وأوهايو واريزونا.
تزامنت هذه التطورات الانتخابية، مع التغيير السريع الذي طرأ على تفكير المسؤولين على مستويات السلطات الفيدرالية وسلطات الولايات والسلطات المحلية بعد نصائح المؤسسات والمعاهد الطبية بأن أفضل وسيلة للحد من انتشار الوباء هى منع التجمعات الكبيرة، خاصة في الأماكن المغلقة. وتسارعت قرارات السلطات بوقف المباريات الرياضية، وهو امر غير مسبوق في بلاد تعشق الرياضة، كما اعلنت جامعات عديدة تعليق صفوفها، والاعتماد على الاتصالات والدروس الالكترونية، وتبعها اغلاق المسارح في منطقة برودواي المشهورة في نيويورك واغلاق المتاحف. وحتى قبل الغاء وتعليق هذه الأنشطة، اصيب القطاع السياحي بنكسة كبيرة عقب إلغاء الكثير من الرحلات الجوية، وتقليل حجم السفر بالقطارات، ما أدى إلى انحسار نشاط الفنادق والمطاعم.
وللمرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية سوف تجري مناظرة بين المرشحين الديموقراطيين جوزيف بايدن وبيرني ساندرز في واشنطن في أحد أستوديوهات شبكة CNN التي سترعى المناظرة، ولكن دون جمهور. وكان يفترض أن تنعقد المناظرة في ولاية أريزونا، ولكن نظراً لرغبة الحملتين بعدم إرسال عشرات المسؤولين إلى أريزونا، وتفادي السفر الجوي والمطارات، فقد تقرر عقد المناظرة في العاصمة، نظرا لوجود مكاتب للحملتين في واشنطن. وكان بايدن وساندرز قد علقا أنشطتهم التقليدية في الأيام القليلة الماضية بعد أن تعذر عليهم تنظيم المهرجانات كما جرت العادة. ومن المتوقع أن تكون نسبة الاقبال على التصويت يوم الثلاثاء المقبل أقل من نسب الناخبين في الولايات التي جرت فيها الانتخابات في الأسابيع الماضية بسبب انتشار فيروس كورونا، الذي يهدد المتقدمين بالسن أو الذين يعانون من تحديات صحية أو أمراض مثل السكري وضغط الدم وغيرها.
محاولات الرئيس ترامب التقليل من أهمية خطر فيروس الكورونا، والادعاء بأن الوباء تحت السيطرة، وأن الأجهزة المعنية بالصحة العامة تقوم بعمل جيد في هذا المضمار، هي ادعاءات فيها الكثير من المبالغات، مثل قول ترامب ان أي مواطن قادر على اجراء اختبار طبي لمعرفة ما إذا كان/كانت مصاب/مصابة بالفيروس. هذا الموقف الاستخفافي دفع بمؤيدي ترامب لاتهام وسائل الاعلام وقادة الحزب الديموقراطي بتضخيم خطر الوباء. ولكن القرارات الصارمة التي اتخذتها بعض الدول، ومن بينها ايطاليا التي عزلت نفسها كلياً عن العالم الخارجي، أرغمت حتى بعض مؤيدي ترامب إلى مراجعة مواقفهم الأولية، خاصة بعد خطاب ترامب مساء الأربعاء، والذي اقترب فيه أكثر من أي وقت سابق بالاعتراف بخطورة الوباء.
هذه هي المرة الأولى، منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، التي يواجه فيها الرئيس الأميركي أزمة حقيقية تختبر قدرته كقائد “شعبوي” يستخدم الترفيه والتهويل وأساليب تلفزيون الواقع ومبالغاته في تعامله مع منافسيه، وهذه أساليب عديمة الفائدة في مواجهة وباء قاتل. كان ترامب يشير دائما الى معدلات النمو المضطرد في الأسواق المالية في نيويورك (والتي كانت تنمو دون توقف منذ أكثر من عقد من الزمن،)، واعتبارها مؤشراً قوياً وملموسا ًعلى نجاحه كرئيس. ولكن في الأسبوعين الماضيين تعرضت هذه الأسواق إلى زلازل واضطرابات مالية ضخمة، أدت إلى إلحاق خسائر جسيمة بملايين الأميركيين من أفراد الطبقة الوسطى، الذين استثمروا قيمة تعويضاتهم وتقاعدهم في هذه الأسواق. في أعقاب هذه النكسات المالية، لم يعد ترامب قادراً على التبجح بأنه عزز وطور الاقتصاد أكثر مما فعله سلفه باراك اوباما.
هكذا وخلال أيام قليلة، وتحديدا ردود الفعل السلبية بالعموم على خطاب ترامب وعدائيته الواضحة لأوروبا، وميله لاتخاذ الاجراءات العقابية، ولوم الأخرين على أخطائه، واعتبار الحدود على أنها قادرة على صد وباء لا يعترف بالحدود او الجدران، وغياب الحلول أو التطمينات التي يتوقعها الأميركيون من رئيسهم حين يخاطبهم من المكتب البيضاوي، كلها عوامل تضافرت لكشف ضعف وتخبط ترامب قبل أشهر قليلة من الانتخابات.
ترامب الآن هو الذي يحكم البلاد بعد انهيار أسواقها المالية واغلاق الكثير من مرافقها الاقتصادية والتعليمية. أراد ترامب من خطابه طمأنة الأسواق المالية في نيويورك والعالم. وتضمن الخطاب عدداً من الأخطاء المحرجة التي سارع ترامب ومساعديه إلى تصحيحها، ومنها أن حظر السفر إلى الولايات المتحدة لن يسري على الأميركيين في الخارج، ولن يشمل البضائع كما قال في كلمته، إضافة الى تطمينات حول تجارب طبية سوف تدفع كلفتها شركات التأمين، وتبين لاحقا انه لم يقصد ذلك.
إذا كان ترامب يريد تهدئة الأسواق المالية في نيويورك والعالم، فإن خطابه حقق العكس، وخلق حالة هلع أدت إلى انهيار الأسواق إلى مستويات غير معهودة منذ اواخر ثمانينات القرن الماضي. ترامب الذي كانت مواقفه من الوباء تتناقض مع مواقف الخبراء في شؤون الصحة العامة، يواجه امتحاناً من صنعه. ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض، يقوم ترامب بمحاولة تقويض الأجهزة الحكومية (قضائية أو استخباراتية) لأنه يعتقد أنها جزء من “الدولة العميقة” التي لا تريده أن ينجح. ولكن ترامب يواجه صعوبة في التوفيق بين عدائه لما يعتبره “الدولة العميقة” ومأزقه الراهن الذي يرغمه على التعاون مع أجهزة “الدولة العميقة” إذا أراد الحصول على المعلومات العلمية الدقيقة والصحيحة حول الوباء لكي يستخدمها، إذا أراد، حين يخاطب الأميركيين.
ترامب غير قادر على السخرية أو الاستخفاف بفيروس كورونا كما يفعل مع منافسيه الأخرين. الوباء سوف يمتحنه أكثر في الأسابيع والأشهر المقبلة، وإذا تعذر التخلص من الوباء أو احتوائه قبل الصيف سوف يدخل ترامب أخر اشواط السباق الرئاسي مرهقاً، ومعرضاً للانتقادات حول أخطاء خطيرة ارتكبها بتهوره وغطرسته، ولن يستطيع تحميلها للرئيس اوباما كما كان يفعل قبل أن يتحداه فيروس كورونا.