الاهتمام السياسي والإعلامي الدولي المكثف على الأزمة الروسية-الأوكرانية المتفاقمة، والمفاوضات التي تقوم بها واشنطن لمنع تحولها إلى حرب تهدد الأمن الأوروبي والعالمي، حجب، جزئيًا، المفاوضات الأخرى الهامة التي تواصلها واشنطن في فيينا للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران في سياق محادثاتها مع مجموعة الخمسة زائد واحد، والتي بدأت في أبريل/نيسان 2021. المفاوضات صعبة في كلا الحالتين، وسوف يكون لكلاهما تأثير مباشر على سياسات واقتصاديات دول منطقة الشرق الأوسط وتوازن القوى فيها، لأسباب عديدة من أبرزها المشهد المعقد لإمدادات الطاقة وأسعار الغاز والنفط في العالم.
أي اجتياح روسي لأوكرانيا سيؤدي إلى ارتفاع حاد في اسعار النفط في العالم (سعر البرميل قد يرتفع من 90 إلى 120 دولار أو أكثر) في الأسابيع التي ستتبع الهجوم، مع تعليق صادرات الغاز الروسية إلى دول أوروبا الغربية، وتحديدًا ألمانيا، التي تستورد حوالي 40 بالمئة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا. في المقابل إذا توصلت مفاوضات فيينا إلى احياء الاتفاق النووي مع إيران، فإن ذلك سيؤدي إلى تعليق العقوبات الأميركية المفروضة على تصدير النفط والغاز الإيرانيين، ما يعني توفر الطاقة الإيرانية للأسواق الأوروبية، التي توقفت عن استيراد الغاز والنفط الإيرانيين بسبب العقوبات الأميركية.
المشهد المعقد لإمدادات الطاقة في العالم بدأ يتغير في غياب حرب مدمرة في وسط أوروبا، وقبل التوصل إلى اتفاق في مفاوضات فيينا. ففي الشهر الماضي، وللمرة الأولى، فاقت صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، صادرات روسيا عبر شبكة الأنابيب التي تعبر أوكرانيا إلى أوروبا. الصادرات الروسية انخفضت بسبب سعرها الذي يفوق سعر الغاز الأميركي بأربعة أضعاف. هذا الواقع الجديد يعكس تحول الولايات المتحدة إلى أكبر دولة منتجة للغاز والنفط في العالم. ومن المتوقع ان تتحول الولايات المتحدة قبل نهاية السنة الحالية إلى أكبر مصّدر للغاز الطبيعي في العالم، متخطية بذلك استراليا وقطر.
ولكن إذا قررت روسيا قطع مجمل صادراتها من الطاقة إلى أوروبا، في حال حدوث نزاع شامل في أوكرانيا، فإن واشنطن لن تكون قادرة لوحدها على إبقاء الأضواء في أوروبا مشعة، ومن هنا الاتصالات المكثفة والملحة، التي تقوم بها واشنطن، على مختلف المستويات مع حلفائها من الدول المصدرة للنفط والغاز لضمان توفير هذه الامدادات إلى أوروبا الغربية في حال انقطاع أو حظر الإمدادات الروسية. وكان الرئيس بايدن قد ناقش هذه المسألة مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني خلال زيارته الأخيرة لواشنطن لتحويل شحنات الغاز الطبيعي القطري لدول شرق آسيا إلى أوروبا في حال اندلاع حرب في أوكرانيا.
وقبل يومين وصل مسؤولين أميركيين بارزين، هما بريت ماكغورك (Brett McGurk) منسق السياسة الأميركية في الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي ومبعوث وزارة الخارجية لشؤون الطاقة آيموس هوتشستين (Amos J Hochstein) إلى الرياض، السعودية، لمناقشة سبل الحفاظ على “استقرار” أسعار الطاقة في العالم، وإمكانية المساهمة في مساعدة أوروبا في هذا المجال إذا دعت الضرورة. وتأتي هذه الزيارة على خلفية تقارير صحفية حول تردد السعودية في التعاون مع واشنطن في هذا المجال، وخاصة رفضها زيادة انتاجها من النفط، الأمر الذي سيؤثر سلبًا على تفاهمات السعودية مع دول أخرى مصدرة للنفط من خارج منظمة أوبك، وتحديدا روسيا. وجاءت زيارة المسؤولين للرياض في أعقاب الاتصال الهاتفي الأسبوع الماضي بين الرئيس بايدن والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، والذي تطرق إلى ” ضمان استقرار امدادات الطاقة في العالم”، وفقا لبيان البيت الأبيض حول مضمون المكالمة. وكان بايدن في كلمته المتلفزة للأميركيين يوم الثلاثاء الماضي حول أوكرانيا، قد حذّر من أن الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا سوف يتسبب بالمعاناة لمستهلك الطاقة الأميركي. ومن هنا قول بايدن “سوف يكون هناك تأثير على أسعار الطاقة لدينا… ولذلك فإننا نتخذ الخطوات العملية لتخفيف الضغوط على أسواق الطاقة للتعويض عن ارتفاع الاسعار”.
ولاحظ محللون أن معظم أصدقاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من دول مصدرة للنفط، مثل السعودية والإمارات والكويت، وغير مصدرة للنفط مثل إسرائيل وتركيا، تفادت الوقوف العلني مع الولايات المتحدة ودول حلف الناتو أو انتقاد روسيا علنًا في المواجهة الراهنة بين الطرفين في وسط أوروبا. ولهذا التردد اسباب عديدة، من بينها الاختراقات الروسية السياسية والعسكرية والاستراتيجية التي حققتها موسكو في منطقة الشرق الأوسط خلال حقبة الرئيس بوتين، من تسليح بعض دول المنطقة (ومن بينها تركيا عضو حلف الناتو)، إلى تدخلها العسكري غير المكلف كثيرًا في سوريا، وإلى تنسيقها مع دول الخليج في تحديد انتاجها من النفط.
أيضا تخفيض “البروفيل” العسكري الأميركي في المنطقة، الذي بدأ خلال ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما، وازدادت وتيرته خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، والمستمر خلال ولاية الرئيس بايدن، والذي صاحبه انحسار الاهتمام السياسي الأمريكي بالمنطقة، ساهم في دفع دول المنطقة لإعادة النظر بحساباتها وتحالفاتها السياسية والعسكرية. ويجب وضع عملية تطبيع العلاقات بين اسرائيل ودول خليجية، مثل الإمارات والبحرين في هذا السياق. وهذا يفسر أيضا التحركات والمبادرات الديبلوماسية التي تقوم بها بعض دول المنطقة لحل نزاعاتها وخلافاتها السياسية والأمنية، تحضيرًا لمرحلة أفول النفوذ الأميركي في المنطقة.
الانسحاب الأميركي المتسرع والفوضوي والدموي من أفغانستان في الصيف الماضي، إضافة إلى احتمال توصل مفاوضات فيينا إلى إحياء الاتفاق النووي مع إيران، والموقع في 2015، مع ما يعنيه ذلك سياسيًا واقتصاديا لإيران وللتنظيمات العسكرية المتطرفة التي تدعمها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، كانت من بين التطورات التي تفسر التحركات والمبادرات السياسية التي شهدتها المنطقة منذ انتخاب الرئيس بايدن.
في المواجهة الراهنة بين روسيا ودول حلف الناتو حول أوكرانيا ومستقبلها، حظي الرئيس بوتين بدعم واضح من زميله الكبير في الكتلة الأوتوقراطية الرئيس الصيني شي جينغ بينغ خلال اللقاء الاخير بين الرئيسين في بيجين مع افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية. الصين هي الدولة التي يمكن القول أنها انقذت إيران من كارثة اقتصادية بسبب العقوبات القاسية، التي فرضها الرئيس السابق ترامب وحافظ عليها بايدن، على صادرات إيران النفطية. ووفقًا لتقديرات الخبراء فقد تضاعفت صادرات إيران من النفط للصين ووصلت إلى مليون برميل من النفط في اليوم وفقًا لوكالة رويترز في تجاهل واضح للعقوبات الأميركية، الأمر الذي يفسر عدم قلق طهران من العقوبات الأميركية الراهنة، بعكس قلقها وخوفها على اقتصادها من العقوبات الشاملة التي فرضتها واشنطن والتزمت بها روسيا والصين، والتي أرغمت طهران على التفاوض مع إدارة الرئيس الأسبق أوباما، والتي أوصلت إلى اتفاق 2015.
وفي مؤشر جديد حول احتمال توصل مفاوضات فيينا إلى اتفاق، بدأت إيران بالتحضير للعودة وبقوة إلى الأسواق العالمية للطاقة، وزيادة انتاجها من النفط والغاز، كما يتبين من وصول مسؤولين من شركة النفط الإيرانية الوطنية إلى كوريا الجنوبية لبحث تصدير النفط الإيراني لتصفيته في المصافي الكورية. ووفقا للخبراء، في حال التوصل إلى اتفاق في فيينا ورفع العقوبات عن إيران، فإنها ستكون قادرة على انتاج نصف مليون برميل نفط إضافي مع حلول شهر مايو/أيار المقبل، إضافة إلى 800 ألف برميل في اليوم مع نهاية السنة.
المؤشرات حول احتمال توصل الجولة الثامنة (والأخيرة وفقًا لما يقوله بعض المسؤولين الأميركيين) من مفاوضات فيينا إلى اتفاق كثيرة، من بينها التصريحات الايجابية الصادرة عن مسؤولين إيرانيين وفرنسيين وأميركيين وروس، إضافة إلى ايفاد إسرائيل لمسؤول بارز في وزارة الخارجية إلى فيينا، هو جوشوا الزرقا، للاطلاع على آخر تطورات المفاوضات، ولتوضيح مواقف إسرائيل، ومحاولة التأثير على سير المفاوضات. اجتمع الزرقا مع ممثلي جميع الدول المشاركة في المفاوضات باستثناء الوفد الإيراني.
ويوم الأربعاء، وفي مؤشر داخلي واضح عكس قلق قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس من اقتراب المفاوضات من احياء الاتفاق النووي مع إيران، وقّع 175 عضوًا جمهوريًا في مجلس النواب على رسالة للرئيس بايدن حذّروه فيها من أنه إذا توصل إلى اتفاق نووي مع إيران “دون موافقة رسمية من الكونغرس” فإن هذا الاتفاق سوف يكون “مؤقتا، وغير ملزم” إذا عاد الجمهوريون للسيطرة على البيت الأبيض والكونغرس. وجاءت الرسالة ردا على مطالبة وزير خارجية إيران من الكونغرس أن يلزم نفسه رسميًا بصيانة أي اتفاق جديد بين البلدين، لتفادي قيام رئيس جديد بالانسحاب من الاتفاق كما فعل الرئيس السابق ترامب في 2018. الموقعون على الرسالة شملوا مؤيدي الرئيس السابق ترامب، مثل زعيم الأقلية النائب كيفين ماكارثي، وأبرز معارضيه مثل النائبة ليز تشيني. وكان 30 عضوًا جمهوريًا في مجلس الشيوخ قد بعثوا برسالة مماثلة لبايدن. ولكن الرئيس بايدن لا يحتاج إلى موافقة الكونغرس على الاتفاق، للتوقيع عليه.
وبغض النظر عن كيفية تطور الأزمة الروسية-الأوكرانية، واحتمال التوصل إلى اتفاق نووي في فيينا، فإن المشهد الدولي لمصادر الطاقة وامدادات النفط والغاز من دول الشرق الأوسط وروسيا إلى أسواق أوروبا وآسيا سوف يتعرض للاضطرابات، وسوف يتغير، وربما بطرق مفاجئة، لم تحسبها مسبقًا بعض الأطراف التي اقنعت نفسها أنها ستبقى في موقع الطرف المقرر والمبادر.