النزاعات والأزمات التي سيرثها الرئيس جوزيف بايدن من سلفه دونالد ترامب في منطقة الشرق الأوسط قديمة وجديدة في الوقت ذاته، وبعضها تفاقم أكثر خلال السنوات الأربعة الماضية، وسوف تتطلب اهتماماً سريعا من رئيس جديد، يؤكد دائما أن أولوياته الملحة داخلية بامتياز، وفي طليعتها إنهاء تحدي جائحة كورونا، الذي سيبقى مهيمناً على الصحة العامة في البلاد. وثانيا معالجة النكسات التي تعرض لها الاقتصاد الأميركي بسبب الجائحة، وتحديداً توفير الدعم للشركات الصغيرة وللعمال والموظفين، الذين خسروا وظائفهم. لكن خارجياً، وفور ادلائه بقسم اليمين، سوف يجد بايدن نفسه في مواجهة حليف قديم تحول إلى خصم من الصعب احتوائه أو حتى التنبؤ بمواقفه، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي كان الرئيس ترامب معجباً به، في سياق اعجابه بالقادة المتسلطين، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي تغاضى عن تحدياته لمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية والسياسية ومصالح أصدقائها في المنطقة.
ويعد تردد طويل في محاسبة أردوغان على انتهاكه لقانون أميركي يحظر استيراد الأسلحة من روسيا، عندما اشترت تركيا منظومة الصواريخ المعروفة باسم أس-400 في 2017، وافق ترامب على فرض عقوبات محدودة ضد الهيئة العسكرية التركية، التي اشترت المنظومة. العقوبات التي أعلنتها وزارة الخارجية يوم الاثنين، هي أقل بكثير من تلك العقوبات التي طالب بها مجلسي النواب والشيوخ مؤخراً في مشروع قرار الحق بميزانية وزارة الدفاع. قرار الكونغرس عكس عمق الاستياء في أوساط الحزبين الديموقراطي والجمهوري من سياسات ومواقف الرئيس أردوغان. منذ محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في صيف 2016، والذي ادعى أردوغان ان واشنطن وقفت ورائه، اعتمد الرئيس التركي سياسات اثارت استياء المشرعين الأميركيين، وعرضته لانتقادات واسعة في وسائل الإعلام الأميركية، وكان يمكن أن تخلق شرخاً عميقاً في العلاقات لولا تعاطف الرئيس ترامب ودفاعه العلني عن الرئيس التركي.
ميول أردوغان الأوتوقراطية كانت معروفة، ولكنها ازدادت شراسة ضد حريات التجمع والتعبير في أعقاب المحاولة الانقلابية، التي استخدمها أردوغان لتبرير ممارساته المتسلطة ضد خصومه الحقيقيين والمتخيلين. وفي السنة التالية عندما وصلت المفاوضات بين البلدين لبيع تركيا صفقة صواريخ من طراز باتريوت إلى طريق مسدود لأسباب تقنية، قام أردوغان بخطوة غير معهودة واستفزازية لعضو في حلف الناتو، وعقد صفقة صواريخ أس-400 مع روسيا، على الرغم من أن المنظومة لا تنسجم مع أسلحة وتقنيات الحلف. صفقة صواريخ أس-400 تعني جلب المدربين الروس إلى دولة في حلف الناتو.
في السنوات الماضية، بدأ أردوغان يتصرف وكأن لديه مناعة وفرها له الرئيس ترامب ضد انتقادات المشرعين والمعلقين والأكاديميين الأميركيين. هذه الاستقلالية في مجال السياسة الخارجية والأمنية، كما يسميها أردوغان، أدت إلى اجتياح الجيش التركي – بالتنسيق مع القوات الأميركية – لشمال سوريا لضرب واحتواء التنظيمات الكردية التي تصدت لتنظيم (داعش) الإرهابي، والتي يعتبرها أردوغان امتدادا لحزب العمال الكردستاني في تركيا، والذي تصنفه أنقرة (وواشنطن أيضاً) تنظيماً إرهابياً.
وفي سياق عودة تركيا إلى المناطق التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية، حوّل أردوغان تركيا إلى لاعب عسكري واقتصادي كبير في النزاع العسكري في ليبيا. وللمرة الأولى منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، أصبح لتركيا قواعد عسكرية جوية وبحرية في مياه الخليج (في قطر)، وفي منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي (في الصومال)، وفي البحر الأبيض المتوسط (في ليبيا). وإضافة إلى هذه الدول تنشط تركيا عسكرياً في شمال العراق وفي النزاع بين أرمينيا وأذربيجان في القوقاز.
هذه المناعة المكتسبة لأردوغان، جعلته يلقي قفاز التحدي في وجه اليونانيين والقبارصة والفرنسيين، حين توصل إلى اتفاق مع ليبيا لإعطاء تركيا منطقة بحرية واسعة، ولكن متنازع عليها، للتنقيب عن مصادر الطاقة، وأرسل بحريته لترهيب هذه الدول، لفرض سيطرة تركيا على منطقة واسعة في شرق وجنوب المتوسط. هذه الاستفزازات أدت إلى بروز كتلة مناوئة لتركيا، تشمل الدول الثلاثة إضافة الى مصر وإسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة لمحاولة ردع أردوغان في البحر المتوسط.
خلال حملته الانتخابية، وجه المرشح بايدن انتقادات قوية وعلنية للرئيس أردوغان، مثل وصفه “بالأوتوقراطي” خلال مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، ودعوته لاتخاذ موقف مغاير من أردوغان ” لنوضح له اننا سندعم القوى المعارضة” له في تركيا.
وكان بايدن، المعروف بدعمه القديم للأكراد، قد انتقد بشدة قرار الرئيس ترامب سحب القوات الأميركية من شمال سوريا، تمهيداً للاجتياح التركي، واعتبر ذلك تخلياً مشيناً عن حلفاء الولايات المتحدة. وقال في هذا السياق إنه على “تركيا أن تدفع ثمناً باهظاً” لاجتياحها العسكري للمناطق الكردية في سوريا.
بعد يومين من فرض العقوبات الأميركية، قال أردوغان إنه سيتصل بالرئيس بايدن بعد تنصيبه. موقف أردوغان هذا كان متوقعاً، فهو حاول إقامة علاقات وثيقة مع الرئيس السابق باراك أوباما، وبالفعل نجح بذلك في البداية، ولكن هيمن الفتور على العلاقات بعد أن رفض أوباما تسليم الداعية الاسلامي فتح الله غولين، الحليف السابق لأردوغان، والذي يقيم في ولاية بنسلفانيا، وبعد أن اتضح دور تركيا في تسهيل دخول الجهاديين، القادمين من أوروبا إلى سوريا، خلال سيطرة ما سمي “بالدولة الاسلامية” على مناطق واسعة في سوريا والعراق.
هذه المرة سوف يجد أردوغان نفسه ليس فقط في مواجهة رئيس أميركي لن يضع تركيا في طليعة أولوياته، وله مواقف نقدية قوية ضد ممارساته الداخلية والاقليمية، بل سيجد مجمل الطبقة السياسية في واشنطن، من الكونغرس إلى مراكز الأبحاث ووسائل الاعلام تقف في وجهه وترفض ممارساته وسياساته الاستفزازية. لن يكون من السهل على الرئيس بايدن تجاهل حقيقة إن تركيا هي عضو في حلف الناتو، ولها علاقات تاريخية واقتصادية متشعبة معها. ولكن هذه العلاقات تغيرت نوعياً، وللمرة الاولى منذ بداية الجمهورية التركية، حين اعتمد أردوغان سياسات مناوئة، وحتى عدائية للولايات المتحدة، كما تعبر عنها بشكل سافر وسائل الاعلام التركية المؤيدة لأردوغان وحزبه الاسلامي.
وفي السنوات الماضية برزت أصوات أميركية تدعو علناً لخلق آلية في حلف الناتو تسمح بتجميد عضوية دولة تتصرف بطريقة تضر بمصالح الحلف، أو حتى طردها من الحلف. قد يلجأ بايدن إلى تفادي مواجهة مباشرة ومبكرة مع أردوغان لكسب بعض الوقت لترتيب أوضاعه الداخلية، ولكن عمق الخلافات وتنوعها وخطورتها تعني أن اعادة تطبيع العلاقات بين واشنطن وأنقرة، لن تكون قريبة، وربما لن تكون ممكنة، وحتماً لن تتحقق طالما بقي أردوغان متحكماً بمصير تركيا.