أظهرت القمة التي عقدها حلف الناتو الأسبوع الماضي في عاصمة دولة ليتوانيا، فيلنيوس، مرة أخرى فداحة التهور الاستراتيجي الذي ارتكبه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حين بدأ غزوه لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، حيث أصبحت فنلندا كعضو كامل للمرة الأولى في الحلف، ولأن عضوية السويد أصبحت مؤكدة بعد أن تنازل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن اعتراضاته، ما يعني أن بحر البلطيق سوف يتحول عمليًا إلى بحيرة لحلف الناتو، بعد أن يوافق البرلمانين التركي والهنغاري رسميًا على انضمام السويد في الخريف.
عشية انعقاد القمة، كانت الأنظار مركزة على الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي عقب انتقاداته القوية للحلف لتردد أعضائه بقبول عضوية أوكرانيا، وعلى الرئيس بايدن والتحدي الذي سيواجهه في معالجة طلب زيلينسكي، واعتراضات أردوغان على إنضمام السويد، وشروطه لتعديل مواقفه، والتي اعتبرها بعض أعضاء الحلف، وفقًا للتسريبات الصحفية الخلفية “ابتزازا صارخًا”.
ولكن قبل وصول جميع الأعضاء إلى فيلنيوس، وقبل انعقاد الجلسة الأولى، وقبل لقائه الحسّاس مع بايدن، سرق الرئيس التركي أردوغان الأضواء الإعلامية والاهتمام السياسي، وقلب توقعات المسؤولين، بإعلانه عن تنازله عن اعتراضاته على عضوية السويد. وهكذا، تحول “السياسي المعرقل” لتقدم الحلف، كما كان بعض السياسيين والمحللين الاستراتيجيين في الغرب يصفونه، إلى عضو مسؤول في الحلف، ووصفه البعض بـ “رجل دولة” يتخذ قراراته الرئيسية، بعد مفاوضات وموازنات صعبة ودقيقة. بعض المحللين، رأوا أن أردوغان، وليس زيلينسكي، الذي حصل على ضمانات أمنية ثابتة وغير مسبوقة من الحلف، وليس بايدن الذي أشرف على توسيع الحلف وترسيخ وحدته، هو الفائز الأول في قمة ليتوانيا، التي حوّلها بقراره حول السويد إلى قمة تاريخية.
مرة أخرى يستغل أردوغان، الموقع الجغرافي المتميز لتركيا، وأهميتها العسكرية لحلف الناتو، ولكونها “جسرًا” بين آسيا وأوروبا لا تستطيع الدول المطلة على البحرين الأسود والمتوسط تجاهلها. وحتى خصوم أردوغان، وهم كثر، لأنه زاد من عددهم على مدى أكثر من عشرين سنة في السلطة، بسبب انتهاكاته الداخلية لحقوق الانسان، ولطموحاته الإقليمية التوسعية، يعترفون أنه، بعكس الحكام المتسلطين الأخرين في المنطقة وما ورائها، يلعب أوراقه بذكاء وحنكة، حتى عندما تكون هذه الأوراق ضعيفة.
الغزو الروسي كان له بضعة أهداف، أبعد من إعادة أوكرانيا إلى الفلك السياسي الروسي، واحتلال أراض إضافية لضمها إلى روسيا الأم، من أبرزها منع إنضمام أوكرانيا إلى الناتو، وخلق الشكوك حول مستقبل ووحدة الحلف. بعد أكثر من 500 يوم على الغزو، تواصل أوكرانيا مقاومتها العنيدة للاحتلال الروسي، وهي تحصل على دعم عسكري فعّال ومتواصل من أعضاء الحلف، بمن فيهم الدول التي اعتقد بوتين، خطأ، أنها سوف تتردد أو تمتنع عن إمدادا كييف بالأسلحة، مثل ألمانيا. حين بدأ الغزو، كان عدد أعضاء حلف الناتو 30 دولة، بعد قمة ليتوانيا، ارتفع عددهم إلى 32 دولة الأمر الذي زاد حدود روسيا مع دول الحلف مئات الأميال في شمال أوروبا، ودخول دولتين هامتين عسكريًا إلى الحلف بعد أجيال من الحياد السياسي.
منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، وتركيا تمارس لعبة التوازنات الحساسة بين روسيا والغرب. رسميًا، أردوغان أدان الغزو وأغلق مضائق البوسفور والدردنيل في وجه البحرية الروسية لمنعها من تعزيز أسطولها في البحر الأسود، ولكنه رفض المشاركة في المقاطعة الاقتصادية الغربية للاقتصاد الروسي، بل قام بزيادة حجم التبادل التجاري مع موسكو، وزاد من قيمة الصادرات التركية لروسيا، وبدأ بالحصول على امدادات نفطية روسية بأسعار مخفضة. ولهذه الأسباب، أعرب أردوغان عن امتنانه “لصديقي” بوتين. كل هذه الخطوات، إضافة إلى وصول ودائع روسية مالية إلى المصارف التركية، ساهمت في إنعاش الاقتصاد التركي المتدهور، والذي يعاني من التضخم وارتفاع معدلات البطالة.
ولكن علاقات تركيا بالغرب بشكل عام، ومع واشنطن بشكل خاص، شهدت خلال العقد الماضي أزمات وتوترات عديدة لأسباب عديدة، أبرزها جهود أردوغان لجمع مقومات السلطة السياسية والقضائية في يده ويد حزبه، وقمع منافسيه وخصومه السياسيين، وترهيب الناشطين السياسيين والصحفيين المستقلين ومنظمات المجتمع المدني التي تعنى بالحقوق المدنية والسياسية. هذا الجنوح نحو الممارسات الأوتوقراطية والقمعية وصل إلى مستويات سافرة بعد المحاولة الانقلابية في 2016، وما تبعها من اعتقالات واسعة ومحاكمات غير منصفة. هذه الممارسات تم انتقادها من بعض دول حلف الناتو، بمن فيها الولايات المتحدة.
على الصعيد الخارجي، استغل أردوغان، بشكل سافر، أزمة اللاجئين السوريين التي اندلعت في 2015 في علاقاته مع الدول الأوروبية، وخاصة المتوسطية منها، للحصول على تنازلات ومساعدات مالية منها مقابل عدم فتحه لسد اللاجئين، ودفعهم لاختراق حدود الدول الأوروبية.
في 2017، اتخذ أردوغان قرارًا متهورًا هدد موقع تركيا في حلف الناتو حين اشترى منظومة الصواريخ الدفاعية S-400 من روسيا، الأمر الذي يتناقض مع عضوية تركيا في الناتو، ما عرضّه إلى عقوبات أميركية، وإخراج تركيا من برنامج تطوير المقاتلة الأميركية المستقبلية أف-35. ودخلت تركيا في نزاعات مع اليونان وقبرص حول حقوق التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط، وبدأت بمهاجمة قوات سوريا الديموقراطية المعارضة لنظام بشار الأسد في شمال سوريا، والتي تضم أكثرية من المقاتلين الأكراد، وصولًا إلى استغلال أردوغان للغزو الروسي لأوكرانيا، بما في ذلك تجاهل المقاطعة الغربية لروسيا، وأخيرًا معارضة انضمام السويد إلى الناتو.
برر أردوغان اعتراضاته على انضمام السويد للناتو باتهامها بالتسامح مع عناصر كردية تركية وسورية تقيم في السويد وتعارض تركيا، وتصنفها تركيا كتنظيمات إرهابية منضوية تحت لواء حزب العمال الكردي، الذي تصنفه أنقرة – وواشنطن – كمنظمة إرهابية. ولكن شروط أردوغان تطورت لاحقًا، لتشمل مطالبة واشنطن بتزويده بأربعين طائرة عسكرية من طراز اف-16 بقيمة 40 مليار دولار، للتعويض عن طرد تركيا من برنامج تطوير المقاتلة أف-35، وهو طلب وافق عليه الرئيس بايدن، ولكنه واجه معارضة قوية في الكونغرس من قبل بعض أقطاب الحزبين الجمهوري والديموقراطي بسبب سياسات أردوغان الداخلية والخارجية.
خلال السنة التي علّق فيها أردوغان عضوية السويد في الناتو، قامت استوكهولم بقبول معظم شروط تركيا، ومن بينها تشديد قوانين مكافحة الإرهاب، واجراء تحقيقات قضائية في نشاط بعض اللاجئين الأكراد. ولكن الاستياء الغربي من ضغوط وشروط أردوغان السافرة ارتفع بشكل ملحوظ خلال السنة الماضية، وهي السنة التي تدهور فيها الاقتصاد التركي، خاصة بعد الزلزال الكارثي الذي أودى بحياة أكثر من 50 ألف نسمة، وكشف مدى فساد الإدارة التركية وهشاشة الاقتصاد بعد وصول معدلات التضخم إلى أكثر من 40 بالمئة.
هذه الحقائق السياسية، وتحديدًا الاستياء داخل دول الناتو، والتحديات الاقتصادية الداخلية، وضعف الرئيس الروسي بوتين، كما ظهر خلال أزمة التمرد العسكري الذي قام به قادة ميليشيا فاغنر، اقنعت أردوغان بأن الرهان على بوتين محفوف بالمخاطر، ومواصلة الضغوط على الناتو، سوف يؤدي إلى ردود عكسية قد تضعفه في الداخل وفي محيط تركيا، وأن قمة الناتو في ليتوانيا قد تكون فرصته الأخيرة لمنع علاقاته الفاترة مع الرئيس الأميركي من التدهور أكثر.
التحول المفاجئ في موقف أردوغان من عضوية السويد، ورغبته بتحسين علاقاته مع الناتو، وواشنطن بالتحديد، ينسجم مع ممارسات أردوغان في السابق، خاصة رفع سقف مطالبه في بداية المفاوضات والمساومات، وحتى التهديد بالانسحاب من المفاوضات، وهي أساليب يستخدمها لتعزيز موقعه التفاوضي، قبل أن يظهر “مرونته” و”واقعيته” عندما يجد أن أوراقه لن تعطيه أكثر مما يرغب. الاقتصاد التركي المتدهور منذ بضعة سنوات، هو من بين الأسباب الرئيسية التي دفعت بأردوغان إلى تحسين علاقاته بدول خليجية، مثل السعودية والإمارات، والتي تأزمت في السنوات الماضية، قبل أن تبدأ بالانفراج منذ حوالي عامين. الاتفاقات الاقتصادية التي توصل إليها أردوغان خلال جولته الأخيرة في الخليج هي أكبر دليل على أن تحدياته الاقتصادية الداخلية، هي التي أرغمته على إعادة النظر في علاقاته مع دول الخليج.
حققت قمة الناتو لأردوغان انتصارًا تكتيكيًا، لأن السويد ودول الناتو سوف تتخذ بعض الإجراءات البيروقراطية – تسهيل دخول المواطنين الأتراك للدول الأوروبية – وبعض المساعدات الاقتصادية، كما ستفتح المجال لموافقة قادة الكونغرس على صفقة طائرات أف-16، وإعادة بعض الاعتبار للرئيس التركي.
ولكن هذا التحسن المحدود في العلاقات بين واشنطن، وأنقرة، وبين تركيا والدول الأوروبية، لن يغير حقيقة أن أردوغان هو نوعية معروفة، وهو يقود دولة تتخلى تدريجيًا عن قيم ومبادئ الحكم الديموقراطي، كما أن أساليبه وتكتيكاته النابية لن تتغير بعد أكثر من عشرين سنة في السلطة. رسميًا، تركيا هي عضو في حلف الناتو، ولكنها لا تتصرف كدولة حليفة بالمعنى المتعارف عليه، ولا تتصرف كصديق وكشريك حقيقي دائم لواشنطن ولشركائها الأخرين في الناتو. وخلال سنواته الطويلة في السلطة، أكد أردوغان أكثر من مرة بمواقفه السياسية وسلوكه العملي أنه مستعد لاعتماد سياسات واتخاذ اجراءات تتناقض مع سياسات ومصالح دول تفرضها المنفعة الآنية، وليس الصداقات والتحالفات المبنية على مبادئ وأسس قيمية.