مني الرئيس دونالد ترامب بنكسة قضائية- سياسية هي الأكبر منذ أن بدأ حملته الرئاسية قبل سنتين، وذلك عندما رفضت لجنة قضائية في محكمة استئناف فيدرالية تابعة للدائرة التاسعة في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا بالإجماع طلب وزارة العدل إعادة فرض حظر السفر إلى الولايات المتحدة من سبع دول ذات أكثرية مسلمة، والذي أصدره ترامب في قرار تنفيذي قبل أسبوعين. ويعتبر قرار المحكمة رفضا مدويا لادعاء إدارة ترامب أنه لا يحق للمحاكم الفيدرالية أن تراجع قرارات الرئيس أو أن ترفضها. ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض قبل ثلاثة أسابيع، والرئيس ترامب يتصرف وكأن للرئيس الأمريكي صلاحيات تنفيذية شبه مطلقة. وجاء قرار اللجنة المؤلفة من ثلاثة قضاة عينهم الرؤساء جيمي كارتر، وجورج بوش الابن، وباراك أوباما، بعد أن شنّ ترامب في وابل من التغريدات والتصريحات حملة شرسة ضد القاضي الفيدرالي جيمس روبارت الذي أمر أولا بتعليق العمل بقرار الحظر مؤقتا. ووصف ترامب القاضي روبارت “بما يسمى القاضي” استصغارا له، وتبع تلك التغريدة بأخرى تصف مداولات قضاة المحكمة الاستئنافية مع ممثلي وزارة العدل “بالمخزية”.
واعتبر هذا الهجوم غير المعهود ضد السلطة القضائية من قبل رئيس أمريكي انقلاب على الأعراف لأن السلطات الثلاثة التي هي أساس الحكم الديمقراطي في الولايات المتحدة: التنفيذية والتشريعية والقضائية هي سلطات متساوية ومستقلة عن بعضها البعض، ووحدها السلطة القضائية هي التي تفصل في الخلافات وتطبق أحكام الدستور الأمريكي. مواقف ترامب النابية ضد النظام القضائي، دفعت بمرشحه للمحكمة العليا القاضي نيل غورستش إلى وصف اهانات ترامب للقضاء في حواراته مع أعضاء مجلس الشيوخ بأنها “تحطم المعنويات” و”محبطة”. وسارع ترامب فور صدور قرار المحكمة الفيدرالية، وقبل استشارة وزير العدل الجديد، إلى إطلاق صاروخ تغريدي للقضاة قائلا “سوف نراكم في المحكمة”، في إشارة ضمنية إلى أنه سيواصل المواجهة القضائية ضدهم إلى حين وصولها إلى المحكمة العليا، ومدعيا أن قرارهم يهدد أمن البلاد. ورد عليه حاكم ولاية واشنطن، جاي أنسلي قائلا “حسنا، السيد الرئيس، لقد رأيناك في المحكمة وهزمناك”. وكانت ولايتي واشنطن ومينيسوتا أولى الولايات التي تحدت قرار ترامب حظر السفر وطلبت من القضاء تعليقه لأنه غير قانوني.
لا صوت يعلو فوق الدستور
وجاء في قرار محكمة الاستئناف المؤلف من 29 صفحة أن حظر السفر لن يعزز من الأمن الوطني، وأن إدارة ترامب لم تقدم “أي أدلة” تثبت أن رعايا الدول التي يشملها الحظر، وهي العراق وسوريا وإيران وليبيا والصومال والسودان واليمن، ارتكبوا أي أعمال إرهابية في الولايات المتحدة منذ عقود. ورفضت المحكمة ادعاء وزارة العدل بأن القضاء الفيدرالي لا يتمتع بصلاحية “مراجعة” قرارات الرئيس المتعلقة بالأمن القومي وإصدار الأحكام بشأنها وجاء في قرارها “لا يوجد هناك أي شك أن القضاء الفيدرالي يملك السلطة لإصدار الأحكام بشأن التحديات الدستورية للإجراءات التنفيذية”(الرئاسية). ومع أن المحكمة وافقت على أن الرئيس يتمتع بصلاحيات كبيرة بشأن الإجراءات المتعلقة بالأمن القومي والهجرة، إلا أنها رفضت ادعاءه بأن قضايا الأمن القومي غير خاضعة “لمراجعة” القضاء بما فيها تلك التي تتعارض مع أحكام الدستور والحقوق والحماية التي يضمنها. ولكن قرار محكمة الدائرة التاسعة، لم يحسم مسألة قانونية القرار التنفيذي للرئيس ترامب، وإن ألمح إلى أنه يشكك بدستوريته، ولكنه حسم المسألة الجزئية المتعلقة بتعليق تنفيذ قرار ترامب إلى أن تحسم المحاكم الفيدرالية قانونيته. وتتصرف جميع الأطراف الآن، على أن محاكم الاستئناف سترفع القضية إلى المحكمة العليا لتقول كلمتها الفصل. ولكن اللجوء إلى المحكمة العليا قد لا يخدم الرئيس ترامب، لأن المقعد التاسع في المحكمة لا يزال شاغرا منذ وفاة القاضي أنطوني سكاليا في فبراير 2016، بسبب رفض الجمهوريين في مجلس الشيوخ النظر في تعيين الرئيس السابق باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند خلفا لسكاليا. وهناك احتمال بتعادل التصويت في المحكمة العليا، الأمر الذي يعني أن قرار محكمة الاستئناف الذي علق تنفيذ قرار ترامب يصبح هو الحكم القضائي النهائي. اللافت أن قرار المحكمة لم يتطرق إلى مسألة اعتبرها الحقوقيون نقطة ضعف أساسية في قرار ترامب التنفيذي، أي إعطاء الأولية في استقبال اللاجئين إلى الذين ينتمون إلى الأقليات، وذلك في إشارة ضمنية إلى الأقلية المسيحية بشكل خاص، وهذا ينسجم مع تصريحات ترامب خلال الحملة الانتخابية وحتى في اليوم الذي وقع فيه القرار التنفيذي حين كرر رغبته بإعطاء الأولوية إلى المهاجرين المسيحيين على حساب غيرهم، وهو أمر يناقض الدستور ويناقض قانون هام للهجرة أقر في 1965 ويرفض التمييز بين اللاجئين على أسس دينية أو إثنية.
وحتى قبل صدور قرار محكمة الاستئناف كان نقاد ومعارضو الرئيس ترامب القلقين من تجاوزاته وميله للتفرد بصنع القرارات بالتعاون مع مستشاريه المقربين في البيت الأبيض وابقاء الأجهزة والوزارات الأخرى في الظلام، يقولون إن السلطة القضائية وحدها القادرة الآن على كبح جماح ترامب وردعه بعض الشيء على الأقل، لأن الكونغرس الذي يسيطر على مجلسيه الحزب الجمهوري لن يحاسب ترامب، على الأقل في هذه المرحلة المبكرة من ولايته. ومن هنا الأهمية الكبيرة لقرار المحكمة الاستئنافية، الذي وجه إلى ترامب ضربة موجعة لتذكره بأن جوهر الديمقراطية الأمريكية يكمن في احترام الدستور وتطبيق أحكامه حتى على الرئيس الأمريكي، وأنه لا صوت يعلو على الدستور.
… وفي الأسبوع الثالث من ولايته
قرار محكمة الدائرة التاسعة، جاء بعد أسبوع حافل بتطورات وإجراءات ومواقف للرئيس ترامب ومساعديه أبقت البلاد في حالة توتر وصدمة، لأن معظم ما صدر عن ترامب والبيت الأبيض كان مناقضا للمقاييس المتعارف عليها ومثيرا للجدل والاستهجان والغضب أيضا.
– اتهم الرئيس ترامب في بداية الأسبوع الصحافة الأمريكية في خطاب ألقاه أمام ضباط القيادة المركزية في ولاية فلوريدا والمسؤولة عن القوات الأمريكية المنتشرة في الشرق الأوسط، بأنها تتجاهل تغطية الهجمات الإرهابية في أمريكا والعالم. الاتهام أثار استغراب وغضب الإعلاميين والسياسيين لأنه غير صحيح على الإطلاق، لا بل تُتهم وسائل الاعلام الأمريكية وخاصة شبكات التلفزيون والكابل بالإسراف في تغطية الهجمات الإرهابية وبشكل مكثف للغاية واعتماد الإثارة غير المبررة أحيانا. طبعا، الرئيس الأمريكي لم يبال بطرح أي أمثلة، بل اكتفى برمي قنبلته قائلا إن الصحافة “غير الصادقة ابدا لا تريد أن تغطيها. لديهم اسبابهم وأنتم تدركون ذلك”. ولم يكترث ترامب بشرح الأسباب وترك لمساعديه كعادته شرح ما لا يمكن شرحه وتبرير ما لا يمكن تبريره.
– وتميز يوم الثلاثاء بدرر أخرى حين ادعى ترامب أن معدلات الجريمة في البلاد قد بلغت أعلى مستوياتها منذ 45 سنة، في انتقاد سافر لاسلافه، وجدد اتهام الصحافة بتجاهل تغطية ذلك. الواقع هو أن الادعائين خاطئين لأن إحصائيات مكتب التحقيق الفيدرالي (أف بي آي) تؤكد عكس ذلك تماما، وتبين أن معدلات الجريمة انحسرت من أعلى مستوياتها في سبعينات وثمانينات القرن الماضي بنسبة النصف.
-ويوم الأربعاء انتهك الرئيس ترامب القيود الأخلاقية المفروضة على الموظفين الفيدراليين والتي تمنعهم من استغلال مناصبهم لتحقيق أرباح خاصة. جاء لك على شكل تغريدة هاجم فيها رئيس الولايات المتحدة شركة نوردستروم المتخصصة في مجال بيع الأزياء لأنها علقت عرض الأزياء التي تصممها شركة تملكها ابنته ايفانكا. وتصرف ترامب كأن ابنته قاصرة وتعرضت للترهيب قائلا أن الشركة عاملتها بشكل “غير منصف”. وكانت هذه الشركة وغيرها قد أوقفت بيع أزياء شركة ايفانكا نظرا لانحسار الإقبال عليها. أي أن القرار هو قرار مالي محض. التغريدة كانت آخر مثال على أن ترامب لن يقبل بأي فصل حقيقي بين واجباته كرئيس للبلاد، وبين مصالحه المالية التي يشارك اولاده فيها. اللافت أن التغريدة جاءت أولا على الحساب الشخصي لترامب على شبكة تويتر، وبعد ذلك أرسلت على الحساب الرسمي له من البيت الأبيض. وخلال الإيجاز الصحفي للناطق باسمه شون سبايسر بعد ساعات من التغريدة كان المشهد سرياليا بامتياز، حين ادعى الناطق باسم البيت الأبيض أن ترامب تصرف كأب يدافع عن ابنته التي تعرضت “لهجوم” من الشركة. ولكن المسألة تتخطى شركة نوردستروم لأن ترامب يريد أن يقول للموظفين الفيدراليين والشركات التي تتعامل مع شركاته وشركات أولاده، أنه لن يتردد في استخدام سوط السلطة الذي يملكه كرئيس، للدفاع عن مصالحه ومصالح عائلته المالية.
– وتفاقمت فضيحة نوردستروم هذه عندما أخذت المستشارة كالي آن كونواي المقربة من ترامب على عاتقها مهمة الدفاع – ومن داخل البيت الأبيض- عن حقوق ايفانكا ترامب في نزاعها مع شركة نوردستروم، ودعت خلال مقابلة مع شبكة تلفزيون فوكس نيوز كانت تبث مباشرة المشاهدين إلى تحدي الشركة قائلة “اذهبوا واشتروا منتجات ايفانكا. سوف اعطي دعاية مجانية الآن: اذهبوا واشتروا بضائعها الآن، فهي موجودة على الانترنيت”. ما فعلته كونواي يخالف القوانين الفيدرالية التي تمنع الموظفين من القيام بأي إجراءات بصفتهم الرسمية لمساعدة الآخرين على جني الأرباح. البيت الأبيض أعلن لاحقا أنه تم إعلام كونواي أنها قد خالفت القوانين. ولكنها قالت مساء الجمعة أن الرئيس ترامب أيد موقفها بقوة.
هل يصنف ترامب الحرس الثوري والإخوان تنظيمات إرهابية؟
ذكرت مصادر مسؤولة في تسريبات مدروسة لبعض وسائل الاعلام أن إدارة الرئيس ترامب تدرس مقترحات لتصنيف الحرس الثوري الإيراني وحركة الإخوان المسلمين تنظيمات إرهابية، وذلك في سياق سياسة متشددة ضد ممارسات إيران الإقليمية السلبية وتدخلها العسكري في عدد من الدول العربية، ولتصعيد المواجهة مع رموز “الإسلام السياسي” حيث تعتبر حركة الإخوان المسلمين أم الحركات الإسلامية السياسية السنية في المنطقة منذ حوالي قرن. ووفقا لهذه التسريبات تقوم الأجهزة الحكومية الآن بتحضير الأرضية القانونية لمثل هذه القرارات التي يمكن أن تصدر عن وزارة الخارجية، أو أن يوقعها الرئيس ترامب كقرارات تنفيذية. وكان يفترض بالرئيس ترامب أن يوقع على قرارات تنفيذية بهذا الشأن، إلا أن التحفظات والمعارضة الأولية من وزارتي الخارجية والدفاع دفعت بالبيت الأبيض للتأني، والتعامل بدقة أكثر مع هذين التنظيمين وتفادي موجة الاحتجاجات التي أعقبت قرار حظر السفر. وإذا تم بالفعل تصنيف الحرس الثوري والإخوان كتنظيمات إرهابية سوف يكون لذلك مضاعفات سياسية وأمنية وحتى اقتصادية طويلة الأمد وسوف تمس تداعياتها إيران ودول الخليج العربية، ومصر وتركيا وتونس، وسوف تفرض على حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفي أوروبا تحديات جديدة لأنها لن تستطيع تفادي الآثار المتشعبة لمثل هذه الخطوة.
وهناك حماس في مجلس الأمن القومي لتصنيف الحرس الثوري الإيراني وحركة الإخوان المسلمين تنظيمات إرهابية، وخاصة من قبل المستشارين مايكل فلين وستيفن بانون، حيث يرى هؤلاء أنه في غياب خيار تقويض الاتفاق النووي مع إيران، فإن مثل هذا التصنيف سيبعث برسالة قوية لإيران بأن هناك قيادة مختلفة في البيت الأبيض سوف ترغمها على دفع ثمنا لسياساتها التخريبية في المنطقة، ولفرض عقوبات جديدة عليها، ولكن الأهم من ذلك إرغام الدول الأوروبية على وقف التعاون مع اي مصالح او قطاعات اقتصادية يكون للحرس الثوري حصص فيها، حيث للحرس مصالح في قطاع الطاقة والمواصلات وغيرها. المعترضون أو المتحفظون على التصنيف يقولون إنه سيكون لذلك مضاعفات سلبية على الحرب التي تشنها القوات الأمريكية مع القوات العراقية النظامية ضد قوات تنظيم داعش في الموصل. وتشارك في المعركة أيضا قوات “الحشد الشعبي” وهي الميليشيات الشيعية التي تدربها وتسلحها قوات الحرس الثوري الإيراني. ويرى هؤلاء النقاد أن تصنيف الحرس الثوري في هذا الوقت الحساس قد يعرقل عمل القوات الأمريكية في العراق وقد يخلق توترا في العلاقة مع الجيش العراقي النظامي.
ويرى المتحفظون على تصنيف حركة الإخوان المسلمين، أنها ستخلق التوتر بين الولايات المتحدة ودول مثل تركيا وقطر المعروفة بتعاطفها مع هذه المنظمة، وإن كانت ستلقى الترحيب العلني من مصر، وربما الترحيب الضمني من بعض دول الخليج الأخرى. وتأمل واشنطن – كما يتبين من زيارة مدير “سي آي أي” مايك بومبيو إلى تركيا- أن تحافظ على علاقات التعاون مع أنقرة للتأثير على تطورات الحرب في سوريا وتحديدا حرب الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش، حيث لتركيا نفوذ كبير… وكل ذلك، وقبل أن ينهي الرئيس ترامب أول شهر له في البيت الأبيض.