سرت مشاعر القلق والارتباك في أوساط قيادات ونشطاء الحزب الديموقراطي حول فرصهم في الفوز بالانتخابات الرئاسية، خاصة بعد تبرئة الرئيس ترامب في مجلس الشيوخ من تهمتي إساءة استخدامه لصلاحياته الدستورية، وعرقلة تحقيقات الكونجرس. وأضافت الفوضى التي شهدتها الانتخابات التمهيدية للمرشحين الديموقراطيين في ولاية آيوا Iowa، وانعدام اليقين في نيوهامبشير New Hampshire، مزيداً من التعقيد لهذا المشهد.
توضح المراجعة السريعة للتطورات والأحداث السياسية والانتخابية في الأيام الماضية، بوضوح لا لبس فيه أن أكثر مخاوف الديموقراطيين من خروج ترامب من معركة محاكمته منتصراً كانت في محلها. ترامب يتصرف كحصان جامح لا يوجد مسؤول بارز قادر على لجمه، ولا توجد أي مؤسسة رسمية قادرة على احتواء أهوائه وغطرسته، أو كبح ميله الصارخ للانتقام من خصومه الحقيقيين والمتخيلين. كما أدى تأخر الحزب الديموقراطي في الاعلان عن نتائج الانتخابات التمهيدية في ولاية آيوا، لأكثر من ثلاثة أيام، إلى إحباط في القاعدة التصويتية للحزب، وأعطى للرئيس ترامب الفرصة ليسخر من الديموقراطيين، العاجزين عن إجراء انتخابات في ولاية صغيرة، فكيف سيكونوا قادرين على حكم البلاد؟
لم تسفر الانتخابات التمهيدية، حتى الآن، عن بروز مرشح قادر على توحيد الحزب الديمقراطي. في أعقاب انتخابات ولاية نيوهامبشر في الأسبوع اللاحق، استمر التقارب في النتائج بين المرشح التقدمي، والأكثر تقدما في السنّ، السيناتور بيرني ساندرز Bernie Sanders، والمرشح المعتدل، الأصغر سنّا، بيت بوتيجيج Pete Buttigieg، وحصول نائب الرئيس السابق جو بايدن Joe Biden على المركز الخامس. بايدن الذي كان يعتقد -هو وترامب – أنه المرشح المفترض للحزب الديموقراطي.
زادت هذه التطورات من حدة التساؤلات حول مدى قدرة الديموقراطيين على هزيمة ترامب، ومنعه من الفوز بولاية رئاسية ثانية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. حتى في أوساط الديموقراطيين، فإن احتمال نجاح ترامب في الفوز بولاية ثانية، لم يعد أمراً صعبا للغاية أو غير ممكن. قبل عدة أشهر، كان العديد من قادة الحزب ونشطائه يعتقدون أن فوز ترامب بولاية ثانية أمراً صعب التحقق، بسبب انتهاكاته السافرة للدستور والأعراف، ومحاولاته المستمرة لتقويض المؤسسات الديموقراطية.
إذا لم تكن هذه التطورات سلبية بما فيه الكفاية، جاءت نتائج آخر استطلاع رأي لمؤسسة جالوب حول موقف الأميركيين من الاقتصاد خلال ولاية ترامب لتعمق من صعوبة موقف الديموقراطيين الانتخابي. قال 61% من الأميركيين أنهم في وضع اقتصادي أفضل اليوم مما كانوا عليه قبل وصول ترامب إلى البيت الابيض قبل ثلاثة سنوات. ورأى 62% منهم أن ترامب هو المسؤول عن تحسن الاقتصاد (على الرغم من أن الاقتصاد الأميركي ينمو باضطراد منذ 2009). وتعتبر مثل هذه الأرقام ايجابية للغاية لأي رئيس يسعى للتجديد لنفسه لولاية ثانية.
الديموقراطيون في موقع دفاعي
فجأة وجد الديموقراطيون أنفسهم غير موحدين وراء حملة انتخابية قادرة على البناء على الائتلاف الذي أبقى الرئيس السابق باراك أوباما ثمانية سنوات في البيت الأبيض، وتوسيع هذا الائتلاف ليشمل شرائح اجتماعية جديدة. وذلك أمام رئيس يسعى للنيل من خصومه، الذين أحالوه إلى المحاكمة، وسعوا لعزله من منصبه، وهو يقول لهم بكلامه وأفعاله أنه سينتقم منهم، ولن يتردد في القيام بأي شيء ليضمن فوزه في الانتخابات المقبلة.
أول قرارات ترامب، الذي خرج منتصراً من محاكمة مجلس الشيوخ، كانت التخلص من بعض الشهود الذين مثلوا أمام لجان مجلس النواب، وأدلوا بشهادات نقضت وكذّبت ادعاءاته حول مضمون اتصالاته مع المسؤولين الأوكرانيين، وأكدت بدرجات متفاوتة صحة الاتهامات الموجهة إليه، بأنه أراد زج أوكرانيا في معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية. أمر ترامب بعزل الكولونيل ألكسندر فيندمان من مجلس الأمن القومي، كما طرد شقيقه، الذي كان يشغل منصباً مختلفاً في مجلس الأمن القومي، على الرغم من أنه لا علاقة له بفضيحة أوكرانيا. إضافة إلى إقالة السفير الأميركي لدى الاتحاد الاوروبي جوردون سوندلاند، لمعاقبته على ما أعتبره شهادته السلبية في مجلس النواب. وكان ترامب قد طالب الأكثرية الديموقراطية في مجلس النواب بإلغاء قرارها بإحالته للمحكمة في مجلس الشيوخ.
يأمل الديموقراطيون في حسم سباق الانتخابات التمهيدية يوم الثلاثاء العظيمSuper Tuesday في الثالث من مارس /آذار، حيث ستصوت 14 ولاية، بما فيها أكبر ولايتين في الاتحاد الفيدرالي الأمريكي: كاليفورنيا وتكساس. وفي حال تعذر ذلك، عندها سيجد الديموقراطيون أنفسهم في وضع صعب للغاية، لأن التأخر في اختيار مرشح/مرشحة الحزب سوف يؤثر سلباً على فرص فوز الحزب في الانتخابات الرئاسية.
صحيح أن الشعور العارم في الحزب الديموقراطي هو اختيار المرشح القادر على هزيمة ترامب، أكثر من اختيار المرشح الأقرب إلى الناخب سياسياً وأيدولوجياً، ولكن الاستقطاب العميق في الحزب بين الجناح التقدمي الذي توسع في السنوات الماضية، بسبب حملات المرشح ساندرز، وبين الجناح المعتدل الذي انقسمت أصواته في ولاية نيوهامبشر بين المرشحين بيت بوتيجج والسناتور أيمي كلوبوشار Amy Klobuchar، قد يدفع بشريحة من الناخبين للبقاء في بيوتهم إذا لم يختار الحزب مرشحهم المفضل.
تخشى بعض قيادات الحزب الديموقراطي من تكرار سيناريو 2016 في انتخابات 2020. ففي الدورة الانتخابية السابقة كان هناك تسليم في أوساط قادة الحزب أن هيلاري كلينتون هي المرشحة المفترضة للحزب، ما أدى إلى امتناع بعض السياسيين من الدخول في السباق. وقبل 6 أشهر كان هناك افتراض في أوساط الديموقراطيين أن جو بايدن هو المرشح المفترض في 2020. ولكن أدائه كمرشح وكخطيب وكمناظر كان رديئا للغاية، وإذا لم يفز في انتخابات ولاية ساوث كارولينا في التاسع والعشرين من الشهر الجاري -وهي الولاية التي تتواجد فيها نسبة عالية من الأميركيين من أصل افريقي، حيث يحظى بايدن بتأييد ملحوظ – فإنه سيضطر إلى انسحاب مهين من ثالث سباق انتخابي خاضه في حياته السياسية الطويلة.
ترامب في وضع هجومي
ما يزيد من احباط الديموقراطيين هو أن الرئيس ترامب، حتى خلال محاكمته، ظل قادراً على صياغة وتحديد طبيعة السجال الانتخابي، واتخاذ المبادرات السياسية والانتخابية، وإرغام الديموقراطيين على اتخاذ موقف دفاعي. وعشية الانتخابات التمهيدية في نيوهامبشير، نظم ترامب فاعلية انتخابية كبيرة في الولاية، استحوذ بها على جزءاً كبيراً من الأضواء الاعلامية من المرشحين الديموقراطيين. وبينما سيواجه مرشح/مرشحة الحزب الديموقراطي مهمة صعبة في توحيد الحزب، وتعبئة قاعدته المتنوعة للانتخابات العامة، يجد الرئيس ترامب نفسه متمتعا بسيطرة شبه مطلقة على حزبه الجمهوري، الذي يبارك ويثني على كل خطوة يتخذها ترامب وكل كلمة ينطق بها.
في مقابل تخبط الديموقراطيين، وافتقارهم إلى ميزانية انتخابية كبيرة، يعتزم الحزب الجمهوري إنفاق مليار دولار لإنجاح دونالد ترامب في الانتخابات المقبلة. ويملك الحزب الجمهوري الآن بنية تحتية وتنظيمية في المناطق الهامة في البلاد، تنسجم مع التوسيع المستمر لما يمكن تسميته بالكتائب الالكترونية، التي تعتزم حملة ترامب استخدامها بكثافة، ليس فقط في تعبئة الشرائح الاجتماعية التي تمثل قاعدة ترامب الانتخابية، بل تشويه سجل وسمعة المرشح/المرشحة الديموقراطي، وتضليل الكثير من الناخبين والايحاء لهم، عبر إعلانات موجهة، بأن للمرشح/المرشحة الديموقراطي مواقف وأطروحات تتعارض مع مواقفهم وأطروحاتهم.
كانت حملة الرئيس ترامب في 2016 قد لجأت إلى هذه الممارسات والإجراءات، ومن بينها على سبيل المثال تضليل الناخبين من أصل افريقي في ولاية فلوريدا بأن للمرشحة هيلاري كلينتون مواقف عنصرية ضدهم. من المتوقع أن تتضاعف هذه الممارسات الإلكترونية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني. ومن المتوقع أن تشمل حملة ترامب على الوقائع والحقائق محاولة تقويض مصداقية وسائل الاعلام المعروفة، وهو أسلوب لجأ إليه في 2016، ورفع ترامب من مستواه منذ انتخابه، حيث يشن دورياً هجمات ضد وسائل الاعلام والإعلاميين، إذا تجرأوا على انتقاده أو محاسبته. جعل ترامب من صرخته الخطيرة “الصحافة هي عدوة الشعب“، من أبرز شعارات حملته.
يحظى ترامب بمكانة كبيرة للغاية بين أنصاره، ما يجعله قادراً على قلب الحقائق رأسا على عقب، وترويج الشائعات والأكاذيب، واقناع أنصاره بتصديق أي نظرية مؤامرة تخطر على باله. جاء في استطلاع للرأي أجرته شبكة التلفزيون سي بي أس CBS أن 11% فقط من مؤيدي الرئيس ترامب يثقون بالصحافة، بينما قال 91% منهم أنهم يتطلعون إلى الرئيس للحصول على “المعلومات الدقيقة”.
لكل هذه الاسباب ليس من المستغرب أن يشعر بعض قادة الحزب الديموقراطي بالإحباط في مواجهة رئيس يعتقد بعد تبرئته في مجلس الشيوخ بأنه يتمتع بمناعة وحصانة ضد أي انتهاكات يرتكبها في المستقبل، ويملك الإرادة السياسية والموارد المالية الكافية لإبقائه في البيت الأبيض لولاية ثانية. صحيح، أن هناك أكثر من ثمانية أشهر تفصلنا عن الانتخابات، إن شهرا انتخابياً في الولايات المتحدة يمكن أن يتحول أحيانا الى سباق أبدي -حيث يمكن أن تحدث الكثير من التطورات. لذلك، من الصعب التكهن بمن سيفوز في الانتخابات في هذا الوقت المبكر نسبياً، ولكن المشهد الانتخابي الأميركي – في هذه اللحظة التاريخية – لا يبدو واعداً للديموقراطيين، وبالتالي ليس واعداً لمستقبل الديموقراطية الأميركية.