جاءت وفاة عضو المحكمة العليا القاضية روث بادر غينزبيرغ لتضع مستقبل المحكمة، ومعها مستقبل الديموقراطية الأميركية على المحك، في خضم سباق انتخابي لم تشهد مثله الولايات المتحدة منذ أجيال، وعلى خلفية استقطابات سياسية واجتماعية وثقافية، انعكست على تظاهرات دموية وأعمال شغب في شوارع مدن اميركية عديدة، وعلى خلفية اقتصاد متعثر بسبب جائحة كورونا. تحولت غينزبيرغ في السنوات الأخيرة إلى نجمة شعبية، بسبب دفاعها الحماسي عن المساواة بين الجنسين، وكفاحها الطويل لصيانة الحقوق المدنية للأميركيين بغض النظر عن خلفياتهم العرقية والدينية. هذه الشعبية وصلت إلى أوساط الشابات والشباب، الذين شاهدوا تحول القاضية المتقدمة في السنّ، وهي تدافع عن طروحاتها الحقوقية ببلاغة وبساطة، وتمارس الرياضة البدنية، وتشارك في النشاطات الثقافية، إلى مادة جذابة وايجابية في البرامج التلفزيونية، التي عرّفت جيل كامل من الأميركيين على ظاهرة حقوقية-انسانية لا مثيل لها.
رفضت غينزبيرغ كل أنواع التمييز التي تعرضت لها، لتكسرها وتتخطاها لتدخل التاريخ الأميركي من بابه العريض. اشتهرت غينزبيرغ بطروحاتها القانونية لتفسير وتبرير تصويتها على القضايا التي كسبتها مع الأكثرية في المحكمة العليا، كما اشتهرت بمعارضتها للقضايا التي خسرتها مع الأقلية في المحكمة. في سنواتها الأخيرة، ناضلت غينزبيرغ ضد أكثر من هجوم سرطاني، تفوقت على بعضهم، ولم تسمح لهم بتعطيلها عن عملها، ولكنها لم تستطع الصمود لوقت أطول، بعد أن أبلغت حفيدتها بأمنيتها الأخيرة، ألا يتم تعيين خلف لها، إلا بعد الانتخابات الرئاسية في الثالث من نوفمبر المقبل.
ولكن فور الاعلان عن وفاة غينزبيرغ، سارع رئيس الأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ السناتور ميتش ماكونال إلى الاعلان بأن المجلس سوف يصوت على خلفها، الذي سيرشحه الرئيس ترامب بأسرع وقت ممكن. وقال الرئيس ترامب انه سيرشح قاضية لتخلف غينزبيرغ في نهاية الأسبوع الجاري، وشدد على ضرورة التصديق عليها قبل الانتخابات، متجاهلاً موجة الاعتراضات من قبل الحزب الديموقراطي والعديد من المراقبين والحقوقيين، وحتى أكثرية الأميركيين وفقاً لبعض استطلاعات الرأي.
سوف يأتي الاعلان عن ترشيح خليفة غينزبيرغ، قبل مراسم تشييعها، وقبل أقل من أربعين يوماً من موعد الانتخابات. تركزت اعتراضات الديموقراطيين على السابقة التي خلقها السناتور ماكونال، الذي كان زعيم الأغلبية الجمهورية في 2016، حين رشّح الرئيس السابق باراك أوباما القاضي ميريك غارلاند لخلافة القاضي المحافظ انطونين سكاليا الذي توفي في فبراير من ذلك العام، وذلك قبل عشرة أشهر من موعد الانتخابات. السناتور ماكونال، وغيره من القادة الجمهوريين، ادعوا أن الرئيس المقبل هو الذي يجب أن يختار القاضي الجديد، ولذلك رفضوا تنظيم جلسات الاستماع ومثول القاضي غارلاند أمام اللجنة القضائية، بل إن بعض أعضاء المجلس من الجمهوريين رفضوا حتى الاجتماع بالقاضي المرشح.
الجمهوريون الذي عارضوا التصويت على مرشح رئيس ديموقراطي للمحكمة العليا قبل عشرة أشهر من الانتخابات، يقولون الآن، أنهم سيصوتون على مرشح الرئيس الجمهوري، ربما قبل أيام من موعد الانتخابات، وبعضهم قدم طروحات واهية من نوع: هذه المرة الترشيح هو من قبل رئيس جمهوري، والتصديق سيأتي من مجلس شيوخ جمهوري، بعكس 2016. ولكن في الأيام الماضية ركزّ الرئيس ترامب، وغيره من القادة الجمهوريين، على سبب آخر، بالغ الأهمية والخطورة، وهو ضرورة إضافة قاضية محافظة لزيادة عدد أعضاء الكتلة المحافظة /اليمينية في المحكمة العليا من خمسة إلى ستة، مقابل الأقلية الليبرالية المؤلفة من ثلاثة أعضاء.
ويأمل الرئيس ترامب وحلفائه التمهيد لاحتمال حدوث انتهاكات ونزاعات قانونية وسياسية، وربما أعمال عنف وشغب ناتجة عن الخلافات المتوقعة حول فرز الأصوات والدعاوى القضائية، التي رفعتها حملة ترامب أمام عدد من المحاكم في عدد من الولايات، والتي تشكك بنزاهة عملية الاقتراع عبر البريد. وفقا لهذا السيناريو، يمكن أن تصل الخلافات القانونية بين الطرفين إلى المحكمة العليا، كما حدث عقب انتخابات سنة 2000، والتي فاز فيها المرشح الديموقراطي آل غور بأكثرية بسيطة في الاقتراع الشعبي، ولكن منافسه الجمهوري جورج بوش الابن، فاز بأكثرية أصوات المجمع الانتخابي، وهو ما أقرته المحكمة العليا بأكثرية خمسة مقابل أربعة لصالح المرشح بوش، قبل الانتهاء من إعادة فرز الأصوات في أربعة مقاطعات في ولاية فلوريدا.
ينظر الرئيس ترامب في سجل قاضيتين فدراليتين من المتوقع أن يرشح احداهن: أيمي كوني باريت البالغة من العمر 48 سنة، وهي القاضية الكاثوليكية المفضلة لليمين الأميركي، لأنها معروفة بتدينها ومواقفها المحافظة ومعارضتها للإجهاض. قبل أيام، اجتمع الرئيس ترامب بالقاضية باريت في البيت الأبيض. كما ينظر ترامب أيضاً احتمال ترشيح القاضية المحافظة باربرة لاغويا، البالغة من العمر 52 سنة، والمولودة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا من أبويين كوبيين، لجآ الى الولايات المتحدة هرباً من نظام فيديل كاسترو. ويحظى ترشيح لاغويا بتأييد الجالية الكوبية الهامة انتخابيا في فلوريدا، وهي من أهم الولايات ثقلا في المجمع الانتخابي. وسوف يلتقي ترامب بالقاضية لاغويا في نهاية الأسبوع الجاري قبل أن يعلن قراره، ربما يوم السبت.
تصديق الأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ على ترشيح أي من القاضيتين الشابتين نسبياً، يعني سيطرة الكتلة المحافظة على قرارات المحكمة، ربما لثلاثين سنة إضافية، لأنه لا توجد فترة زمنية محددة لخدمة قضاة المحكمة العليا. وتعتبر التعيينات القضائية من أبرز انجازات الرئيس ترامب التي تحظى بتأييد قاعدته، بما في ذلك أولئك الناخبين الجمهوريين، الذي يمقتون سلوك ترامب وفظاظته وتقويضه للاعراف والتقاليد السياسية، ولكنهم يؤيدون تعيين القضاة الفيدراليين المحافظين بمن فيهم قضاة المحكمة العليا.
الصراع على مستقبل المحكمة العليا هو جزء لا يتجزأ من الصراع على مستقبل الديموقراطية الأميركية. ولقرارات المحكمة العليا تأثير مباشر على مختلف نواحي حياة الأميركيين من السياسية إلى الاقتصاد، من الاجهاض إلى زواج المثليين، من الحقوق المدنية وعقوبة الاعدام إلى حق اقتناء الأسلحة النارية. وأي مراجعة سريعة لقرارات المحكمة العليا في العقدين الماضيين، تبين مركزيتها في حياة الأميركيين: من حسم السباق الانتخابي في سنة 2000، إلى إعادة تأكيد حق المواطن باقتناء الأسلحة النارية، إلى تأكيد شرعية قانون العناية الصحية، المعروف أيضاً باسم أوباما كير، إلى تأكيد حق زواج المثليين.
يواصل الرئيس ترامب منذ أشهر تشكيكه بنزاهة نتائج الانتخابات، وتحديداً رفضَه للانتخاب بواسطة البريد، حيث يدعي أن الديموقراطيين سوف يستغلون ذلك، وسوف يزورون النتائج. ولنظام الاقتراع بالبريد تاريخ طويل في الولايات المتحدة يعود لفترة الحرب الأهلية قبل أكثر من قرن ونصف. ووفقا لدراسات عديدة أجرتها منظمات محافظة وليبرالية لم تشهد أي انتخابات رئاسية أميركية أي عمليات تزوير منظمة أو تستحق الذكر.
وهذا ما أكده قبل يومين، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (الاف بي آي) كريستوفر راي حين قال خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ أن مكتبه لم يشهد تاريخياً أي نوع من أنواع التزوير المنظم على الصعيد الوطني خلال أي انتخابات رئاسية إن كانت بواسطة البريد أم الاقتراع المباشر.
جاء تصريح كريستوفر راي، بعد أن أوصل الرئيس ترامب تشكيكه بنزاهة الانتخابات إلى مستوى جديد حين رفض إلزام نفسه بقبول الانتقال السلمي للسلطة في حال فوز منافسه جوزيف بايدن بالانتخابات. أكد ترامب للصحفيين في البيت الأبيض انه يشكو دائماً من نزاهة بطاقات الاقتراع البريدي، وتابع “تخلصوا من هذه البطاقات، وسوف ترون انتقالاً سلمياً للسلطة، وبصراحة لن يكون هناك انتقال للسلطة بل استمرارا لها”، بمعنى أنه هو الذي سيفوز بالانتخابات وسوف يبقى في السلطة.
وبينما وجه الديموقراطيون انتقادات لاذعة ومتوقعة لترامب، رفض بعض القياديين الجمهوريين في الكونغرس تشكيك ترامب بالانتقال السلمي للسطة، وكان من بينهم رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونال الذي أكد “أن الفائز في انتخابات الثالث من نوفمبر سوف يتم تنصيبه رئيساً في العشرين من يناير، سوف يكون هناك انتقال منظم للسلطة كما يجري كل أربعة سنوات منذ 1792”. جمهوريون آخرون استنكروا موقف ترامب وأعتبروه “أخرقاً”، وكان من بينهم السناتور بين ساس الذي قال إن ترامب ” يقول أشياء مجنونة”.
في الأيام الأخيرة كتب حقوقيون وصحفيون عن سيناريوهات يمكن أن يلجأ إليها ترامب للتشكيك بنزاهة الانتخابات، واتهام الديموقراطيين بتزويرها، مثل انتظار النتائج الأولية للانتخابات ليلة الثالث من نوفمبر، حيث من المتوقع أن تكون النتائج ربما لصالحه لأن معظم ناخبيه سيصوتون بالاقتراع المباشر، بينما سيلجأ ناخبو بايدن بمعظمهم للاقتراع البريدي. وبما أن نتائج الاقتراع البريدي سوف تتأخر، يمكن لترامب أن يعتمد على النتائج الأولية ليعلن فوزه بالانتخابات. وهناك سيناريو آخر يلجأ بموجبه مسؤولو الانتخابات في الولايات الجمهورية لانتخاب ممثليهم في المجمع الانتخابي، والاعتماد على تصويت المجمع الانتخابي بغض النظر عن نتائج الاقتراع الشعبي.
قد تبدو هذه السيناريوهات مجنونة، مثلها مثل تصريحات ترامب حول بقائه في السلطة حتى ولو فاز منافسه بايدن، ولكن مخاوف ترامب من خسارة الانتخابات، لا تعكس حالة جنون، بل تعكس تقويماً منطقياً للمشهد الانتخابي، الذي يبدو قاتماً لترامب قبل خمسة اسابيع من الانتخابات. لا تزال معظم استطلاعات الرأي تؤكد في هذا الوقت المتأخر من السباق، ما كانت تؤكده قبل ثلاثة أشهر من أن جوزيف بايدن متقدم على ترامب في معظم، إن لم نقل، جميع استطلاعات الرأي التي تجري على المستوى الوطني، والأهم من ذلك في معظم الولايات المتأرجحة والتي ستحسم نتائج الانتخابات.
في استطلاع هام أجرته صحيفة نيويورك تايمز قبل يومين أظهر أن بايدن متقدم أو متعادل أو متخلف عن ترامب بنسبة ضئيلة، وذلك في الولايات “الحمراء” التي تصوت تقليدياً للمرشح الجمهوري، مثل آيوا وجورجيا وتكساس. وفي هذه الولايات كما في ولايات ساحات المعارك، حيث يركز كل من ترامب وبايدن كل مواردهم المالية والتنظيمية، مثل بنسلفانيا وويسكونسن وفلوريدا، ويحظى بايدن بتأييد واسع في أوساط النساء يزيد في بعض الولايات عن عشرة نقاط، بينما قلص بايدن من نسبة الرجال البيض الذين دعموا ترامب في انتخابات 2016.
معظم استطلاعات الرأي تؤكد أن معظم الناخبين قد حسموا أمرهم لمن سيصوتون، كما أن عمليات الاقتراع المبكر، بشكل مباشر أم عبر البريد، قد بدأت في ولايات عديدة. هذا المشهد الانتخابي الراهن، ليس مرشحاً لتغييرات عميقة أو سريعة، وهذا ما يعلمه ترامب وحملته، وهذا ما يفسر مواقفه من نزاهة الانتخابات، واصراره على ترشيح قاضية محافظة يتوقعها أن تحكم لصالحه، إذا وصل الخلاف الانتخابي مرة ثانية خلال عشرين سنة، إلى المحكمة العليا.