ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
الآمال التي علقها بعض القادة الجمهوريين على أن يتسم أداء دونالد ترامب في المناظرة الثالثة والأخيرة ضد منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون ببعض الانضباط والجدية، على الأقل لوقف النزيف المستمر في حملته، وتمنياتهم بأن يحاول إقناع تلك الشريحة الضئيلة من الناخبين المترددين والذين لم يحسموا أمرهم بعد أن يصوتوا له، كلها انهارت خلال أقل من ساعتين من المناوشات والسجالات التي نضحت بعدائية سافرة. وارتكب ترامب هرطقة جديدة قد تهدد باندلاع أزمة دستورية، حين رفض القول بأنه سيقبل بشرعية نتائج الانتخابات في حال فوز كلينتون، وتعثر سياسيا مرة أخرى حين دافع عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحربه في سوريا، ومحاولته تبرئة روسيا من مسؤولية اختراق الحسابات الإلكترونية لمؤسسات وشخصيات أمريكية، على الرغم من تأكيد الاستخبارات الأمريكية لذلك.
الشعور السائد في أوساط الجمهوريين، وتحديدا المرشحين لعضوية مجلسي الكونغرس، قاتم لأن أداء ترامب بدلا من أن يحملهم معه فوق موجة عارمة تبقي اكثريتهم في الكونغرس، تحول إلى عبء ثقيل سوف يغرق فرص بعضهم بالبقاء في الكونغرس، وربما أدى إلى حرمان الحزب من صيانة سيطرته على مجلس الشيوخ، وحتى على مجلس النواب، على الرغم من أن الأكثرية الجمهورية في هذا المجلس راسخة أكثر من اكثريتهم البسيطة في مجلس الشيوخ. احتمال انهيار الحزب الجمهوري في الثامن من الشهر المقبل، يثير قلق قياداته قبل أقل من ثلاثة أسابيع من الانتخابات، وجلب معه الأسئلة المحرجة من نوع : ما الذي أوصل الحزب إلى هذا المأزق؟ كيف يمكن منع بروز ظاهرة مماثلة لترامب في المستقبل؟ وكيف أخفق ستة عشر مرشحا بالتصدي الفعال لترامب وإيقاف قطاره الجامح الذي يهدد الآن بالخروج عن سكته والتسبب بهزيمة جمهورية قد تكون الأسوأ منذ الهزيمة الساحقة التي مني بها المرشح المتشدد باري جولدووتر، على أيدي الرئيس ليندون جونسون في 1964؟ وهل هناك احتمال جدي لاصلاح الحزب وابقاء جناح ترامب داخل الخيمة الجمهورية؟ أم أن التغيير يتطلب صيغة جديدة لحزب جمهوري أقل تشددا، وله القدرة على جذب النساء والأقليات لكي تتوفر لديه الفرص الجدية للفوز في الانتخابات على مختلف المستويات؟ اللافت، هو أن الجمهوريين بعد هزيمتهم في معركة الرئاسة في 2012 شكلوا لجنة للنظر في إصلاح الحزب، خرجت بتقرير دعا إلى “تشريح” للحزب، بعد أن تبين أن المرشح مت رومني لم يحصل على ما يكفي من أصوات النساء والأقليات لهزيمة الرئيس أوباما وائتلافه الذي ضم هذه الفئات من الأمريكيين. ولكن قيادة الحزب الجمهوري، بعد أن تعافت من آثار الصدمة الأولية للهزيمة، تجاهلت توصيات التقرير، وعادت إلى مسلماتها وممارساتها التقليدية.
تهور ترامب
أبرزت المناظرة الثالثة وبشكل نافر للغاية مكامن نرجسية وغطرسة وتهور ترامب والتي تدفعه للتصرف المتهور والعبثي، وتضعه خارج المألوف الحزبي، وبعيدا عن الاورثوذوكسية الجمهورية التقليدية المتعلقة بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، وأيضا خارج المسلمات الجمهورية بشأن السياسة الخارجية. خذ مثلا دفاعه الغريب عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي قضم وضم شبه جزيرة القرم في 2014 ، والذي شن قبل أكثر من سنة حربا ضارية في سوريا قتلت الآلاف من المدنيين السوريين دون أي محاسبة أمريكية أو دولية جدية. ادعاءات ترامب بوجود مؤامرة دولية وداخلية ضده لحرمانه من الرئاسة، تشارك فيها مصارف دولية، وجمعية كلينتون الخيرية ووسائل الإعلام الأمريكية، واصراره المستمر على أن هذه القوى سوف تزّور الانتخابات وتسرقها منه لتعطيها لكلينتون خطيرة للغاية ولا سابقة لها في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ولم يحدث منذ الحرب الأهلية التي انتهت قبل 155 سنة أن قام مرشح حزب كبير بالتشكيك بشرعية العملية الانتخابية وشفافيتها كما يفعل ترامب حاليا. وعندما يستخدم ترامب مثل هذه الصيغ لوصف مؤامرة متشعبة ضده، فإنه يهين ذكاء الناخب الأمريكي لأنه يتحدث عن الولايات المتحدة وكأنها جمهورية موز، أو دولة صغيرة يحكمها رجل قوي، أو دكتاتور قادر على فرض سلطته بشكل عشوائي. وأي معرفة بسيطة بالعملية الانتخابية، حيث لا يوجد للحكومة الفيدرالية في واشنطن أي دور فيها، لأنها تجرى على مستوى المقاطعات وفي كل ولاية على حدة، (وأكثرية الولايات في هذه المرحلة يحكمها حكام جمهوريون) يدرك أنه لا يوجد هناك مجال لأي تزوير على نطاق واسع.
وأظهر ترامب استخفافه وحتى احتقاره لصدقية وشرعية النظام السياسي الأمريكي حين قال خلال المناظرة أنه سيبقي البلاد في “حالة ترقب” إلى حين صدور نتائج الانتخابات قبل أن يقرر ما إذا كانت شرعية أم لا. ولتأكيد احتقاره لمبدأ الانتقال السلمي للسلطة، قال ترامب بعد المناظرة “سوف أقبل بشكل كامل نتائج هذه الانتخابات الرئاسية الكبيرة والتاريخية، اذا ما فزت بها..”. وألمح ترامب، إلى أن مجرد وجود كلينتون في السباق يعني أن النظام الانتخابي مجحف بحقه، قائلا ” كان يجب أن لا يسمح لها على الإطلاق بأن تترشح للرئاسة استنادا لما فعلته برسائلها الإلكترونية”.وهناك مخاوف عّبر عنها مسؤولون عن الانتخابات، بمن فيهم عدد من الجمهوريين، بقيام مؤيدي ترامب باسم ضمان شفافية الانتخابات بدخول مراكز الاقتراع والتسبب بمشاكل وأعمال شغب مع المسؤولين المحليين.
أزمة حزب أم أزمة نظام
يرى المسؤولون في حملة كلينتون، أن قدرتهم على تعبئة الناخبين في الولايات المحسوبة تقليديا على الحزب الديمقراطي هي في حالة جيدة، الأمر الذي شجعهم مؤخرا لتخصيص مبالغ مالية لإنفاقها على الدعايات التلفزيونية وارسال المسؤولين في الحملة إلى بعض الولايات المحسوبة تقليديا على الحزب الجمهوري مثل نيفادا وأريزونا وجورجيا. وحتى المعقل الجمهوري التقليدي في تكساس لم يعد بقوة في الصف الجمهوري. ويشير المسؤولون في حملة كلينتون إلى أن التحولات الديموغرافية والتغييرات الاقتصادية في هذه الولايات، التي جلبتها وسائل الاتصال الاجتماعي وديناميات العولمة، تعطي الأمل للحزب الديمقراطي بقلب هذه الولايات من جمهورية إلى ديمقراطية.
البحث عن أجوبة مقنعة وواضحة حول أزمة الحزب الجمهوري، يطرح أسئلة تتخطى الحزب وتمس جوهر النظام السياسي الأمريكي في نصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين . صحيح أن الحزب الجمهوري يواجه الآن مأزق هوية، حيث أن هناك شريحة هامة من المواطنين المحسوبين عليه تقليديا، ترى أن الحزب لم يعد يوفر لها الملجأ السياسي الأمن. هذه هي الشريحة التي كانت في حالة “اغتراب” عن قادة الحزب في واشنطن قبل أن يأتي ترامب ليقول لأعضائها أنه سيكون صوتهم. خلال العقود الأخيرة، وفي ظل ظاهرة العولمة واتفاقيات التجارة الدولية، بدأت الوظائف تختفي من مناطق واسعة في الريف الأمريكي، ومن العديد من البلدات الصغيرة أو المتوسطة الحجم والتي كانت تعتمد على صناعات معينة. انحسار إنتاج الولايات المتحدة لمواد مختلفة بدءا من مصانع الصلب ومرورا بمصانع الاثاث وانتهاء بالاجهزة المنزلية والمواد الكهربائية، وإغلاق آلاف المصانع التي كانت توظف أعداد ضخمة من العمال، ساهم في تقويض الاقتصاد المحلي، وزيادة معدلات البطالة بنسب عالية، الأمر الذي ساهم في تخفيض العائدات الضريبية، الذي صاحبه انخفاض في حجم الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها. وخلال العقود الماضية، تغيرت وتيرة وطبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية في الريف والبلدات الصغيرة، وازداد عدد الأطفال المولودين خارج مؤسسة الزواج، وازدادت معدلات الطلاق، واستشرت ظاهرة إدمان المخدرات، بما فيها الهيروين، في الريف الأمريكي، حيث وصل استهلاك المخدرات في الريف والبلدات الصغيرة ضعف استهلاكه في المدن الكبيرة.
هذه الشريحة والتي وصفتها هيلاري كلينتون بازدراء “بسّلة من البائسين” تشكل القاعدة المحافظة التي فرضت ترامب على الحزب الجمهوري. هؤلاء يشعرون بالتهميش السياسي ولا يرون بالحزبين الأمريكيين الرئيسيين ممثلا لهم، وهذا ما يفسر تقاعس بعضهم عن التصويت في الدورات الانتخابية الماضية، لأنهم فقدوا الأمل بالتغيير، بعد أن أخفق ممثلوهم في السابق بتغيير أوضاعهم الاقتصادية، وإنقاذ عالمهم الثقافي والاجتماعي الذي يواصل انهياره البطيء أمام أعينهم وهم يراقبونه في عجز تام. هؤلاء هم ضحايا العولمة والاقتصاد الجديد المبني على الخدمات والتقنيات الرقمية، الذين فقدوا وظائفهم، ولم يتم تدريبهم على الوظائف الجديدة.
سياسيا، ترى هذه الشريحة في ترامب منقذا لها، وهو يبدو لها زعيما قويا قادرا بشخصيته الكاريزماتية أن يغير من واقعها المؤلم والمظلم ويقلبه رأسا على عقب. ويعكس ترامب في سلوكه ومواقفه شخصية الزعيم الأوتوقراطي التي نراها في دول عديدة بما فيها دول أوروبية، حيث يبرز هؤلاء خلال الأزمات الاقتصادية. ثقافيا، ترحب هذه الشريحة الاجتماعية بطروحات ترامب المعادية للمهاجرين والمسلمين، لأنها ترى في هؤلاء الغرباء الذين “يسرقون” وظائفهم، والذين يحولون أمريكا من مجتمع أبيض إلى مجتمع بنّي، ومن دولة ذات أكثرية مسيحية إلى دولة تعيش فيها جاليات تنتمي إلى ديانات مختلفة. ترامب يجسد آمال ومخاوف هؤلاء الأمريكيين. وعلى الرغم من تعصب وتشدد بعض مؤيدي ترامب، إلا أنه من الخطأ إلصاق صفة العنصرية على جميع أنصار ترامب.
صحيح، أن الحزب الجمهوري، إذا ثبتت صحة استطلاعات الرأي حول هزيمة ترامب المرتقبة، سوف يدخل في مرحلة صعبة من البحث عن الأجوبة والحلول لازمته، ولكن ما يجب فعله بأنصار ترامب الذين ستزداد “غربتهم” عن بقية المجتمع، مع ازدياد نقمتهم بعد هزيمة مرشحهم، لن تكون مسألة متروكة للجمهوريين فقط، بل للنظام السياسي ككل. العولمة والاقتصاد الجديد والتحولات الديموغرافية باقية وليس بالإمكان الغائها، وسوف يكون خطأ تاريخيا كبيرا، ترك ضحايا العولمة في البرية السياسية والاقتصادية، وهم يراقبون المستفيدين من العولمة والاقتصاد الجديد وكأنهم في قافلة تعبر إلى المستقبل وتتركهم ورائها. معالجة هذا التحدي، سوف يتطلب تغييرات جذرية وقرارات صعبة، وإنقاذ الملايين من الأمريكيين من غربتهم السياسية والاقتصادية لن يتحقق بين ليلة وضحاها أو خلال ولاية أول امرأة تصل إلى البيت الأبيض.