في المناظرة الأولى والأخيرة بين الرئيس جوزيف بايدن ومنافسه الجمهوري دونالد ترامب في يونيو/حزيران الماضي، هيمن ترامب، دون أي جهد واضح، على السجال، وطغى على خصمه الديموقراطي المنهك، حتى قبل دخوله إلى مسرح المناظرة، وأنهى خلال 90 دقيقة محرجة مستقبل بايدن السياسي، وأرغمه لاحقاً على الانسحاب من السباق.
مساء الثلاثاء الماضي، دخلت كامالا هاريس واثقة الخطى إلى مسرح المناظرة، وكأنها تدخل إلى حلبة ملاكمة، واقتحمت المجال الشخصي لخصمها ترامب، وأرغمته على مصافحتها بعد أن مدت يدها وهي تعرّف عن نفسها “كامالا هاريس”، لأنها المرة الأولى التي تلتقي به وجهاً لوجه. وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي نظر فيها ترامب مباشرة إلى وجه هاريس خلال تسعين دقيقة أخفق فيها الرئيس السابق في حماية وجهه وجسده الضخم من اللكمات المتلاحقة، التي وجهتها إليه هاريس، التي دارت حوله بخفة وثقة وسرعة كبيرة لم يواجهها ترامب من قبل، وكانت تعزز كل لكمة بابتسامة ساخرة، او ملاحظة استفزازية، أو بنظرة استخفافيه، حيث مزجت بفعالية كبيرة استغلالها لمكامن الضعف في شخصية ترامب وغروره وجنون العظمة الذي يعاني منه وكبريائه المصطنع، وتمكنها من تفاصيل القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تهيمن على اهتمامات الناخب الأميركي.
صحيح إن هاريس لم توجه ضربة قاضية لترامب، وصحيح أيضاً أنها لم تجاوب بشكل مباشر على بعض الأسئلة، ولم تشرح بشكل مقنع لماذا غيرت بعض مواقفها – خاصة معارضتها الأولية، المثيرة للجدل، لأسلوب “التكسير الهيدروليكي” (Fracking) لاستخراج النفط، وهو أسلوب مضّر بالبيئة، وتراجعها لاحقاً عن هذا الموقف – إلا أنها نجحت منذ الدقائق الأولى للمناظرة، في السيطرة على وتيرة السجال، وحتى على ارغام ترامب على مناقشة القضايا التي وضعته في موقع دفاعي، وأرغمته على إضاعة وقته في تبرير سياساته الفاشلة أو المثيرة للجدل أو غير القانونية، مثل دوره في تشجيع أنصاره على اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني 2021 لقلب نتائج الانتخابات الرئاسية، التي فازت بها كتلة بايدن-هاريس. وبعد مرور الدقائق الأولى للمواجهة، والتي اتسمت بالهدوء الذي يسبق العاصفة، بدأت هاريس بشكل منظم وهادئ ودون أن تفارق الابتسامة وجهها، بنصب الكمائن لترامب الذي لم يفاجئها حين كان يقع فيها باستمرار.
وهكذا بدت المناظرة وكأنها سلسلة من الاستفزازات، التي رشقتها هاريس بوجه ترامب، وجعلته يغضب ويرفع صوته، ويتحدث بسرعة وبجمل مفككة ومبهمة، وأحيانا غير مفهومة، وترديد نظريات المؤامرة التي لا أساس لها من الصحة، مثل اتهام المهاجرين الشرعيين من هايتي، الذين استقروا في مدينة سبرينغفيلد بولاية اوهايو بسرقة وأكل كلاب وقطط السكان المحليين. هاريس لم تربح المناظرة ضد ترامب ولم تكتف بهزيمته فحسب، وفقا للتقويم الأولي لمجموعات الناخبين الذين راقبوا المناظرة، والتي قامت بها وسائل الاعلام، أو في التحليلات الأولية للمراقبين. فعلت هاريس بترامب ما فعله هو بجميع منافسيه وخصومه من جمهوريين وديموقراطيين على مدى العشر سنوات الماضية. المناظرة التي بدأت بمصافحة فرضتها هاريس، انتهت دون مصافحة، لأن ترامب فور انتهاء الوقت المخصص للمناظرة أدار ظهره لهاريس وغادر المسرح بسرعة.
وهكذا بعد بضعة أسابيع من التكهنات والترقب والحروب النفسية التي تمحورت حول المناظرة بين هاريس وترامب، والتي جاءت بعد أسابيع من المناظرة المفصلية بين بايدن وترامب، ما أعطى المناظرة بين ترامب، الذي واجه ثلاثة منافسين ديموقراطيين على منصب الرئاسة خلال عقد من الزمن، وهاريس التي شاركت فقط في مناظرة واحدة لمنصب نائب الرئيس، أهمية خاصة لم يتردد الكثير من المحللين في وصفها بالتاريخية.
معظم المناظرات الرئاسية لا تؤثر جذرياً على نتائج السباق إلى البيت الأبيض، وإن كانت هناك استثناءات قليلة، مثل المناظرة الوحيدة والأولى المتلفزة بين جون كينيدي وريتشارد نيكسون في سبتمبر/أيلول 1960، والتي ساهمت في فوز كينيدي بأكثرية بسيطة للغاية. وهناك لحظات هامة عززت من مكانة مرشح ما، كما حدث خلال المناظرة بين الرئيس رونالد ريغان ومنافسه الديموقراطي والتر مونديل في أكتوبر/تشرين الأول 1984، حين نجح ريغان في تقويض مخاوف البعض من سنّه المتقدم (73 سنة)، وقلب المعادلة ضد منافسه حين قال ضاحكاً إنه لن يستغل شباب وقلة خبرة منافسه مونديل لأسباب سياسية. الأيام والأسابيع المقبلة سوف تبين – بعد استطلاعات الرأي ومواقف المرشحين – إلى أي مدى كانت المناظرة بين هاريس وترامب مفصلية بالنسبة للناخبين.
المناظرة التي شاهدها أكثر من 67 مليون نسمة (شاهد 51 مليون شخص المناظرة بين بايدن وترامب) كانت مناسبة هامة لهاريس. أولاً، لتعريف نفسها لملايين الأميركيين، بمن فيهم العديد من الناخبين الديموقراطيين الذين لا يعرفون الكثير عن طروحاتها ومواقفها، وإلى أي مدى سوف تكون سياساتها مختلفة عن سياسات بايدن. وثانياً، لاستفزاز ترامب وإغضابه ووضعه في موقف دفاعي. ونجحت هاريس في تحقيق الهدفين. المناظرة بالنسبة لترامب لم تكن من أجل جذب ناخبين جدد إلى حملته، بل في الدفاع عن طروحاته وانتقاد هاريس وتحميلها مسؤولية اخفاقات بايدن، ولكن دون أن يفقد السيطرة على نفسه. بعد تسعين دقيقة من السجال الحاد وتطاير الشرارات الغاضبة والإهانات المتبادلة، ومعظمها من ترامب، يمكن القول إن الرئيس السابق أخفق في تحقيق أياً من الأهداف التي توقعها أو رسمها له المسؤولون في حملته.
وبدلاً من أن يركز ترامب على التحديات الاقتصادية التي لا يزال يواجهها ملايين الناخبين، مثل معدلات التضخم، والصعوبات الكبيرة التي يواجهها الشباب في امتلاك منازلهم أو شققهم، أو انتقاد اخفاق بايدن وهاريس في وقف إطلاق النار في غزة، أو المضاعفات السلبية للانسحاب العسكري الدموي والمهين من أفغانستان، وهي قضايا ذكرها بشكل عابر ومتقطع، وجد ترامب نفسه يدافع عن مناصريه الذين هاجموا مبنى الكابيتول، أو تكرار أكاذيبه حول “سرقة” انتخابات 2020 منه. لا بل إنه دافع عن قراره الأولي (الذي اعترض عليه الكثيرون في حكومته) لدعوة قادة الطالبان في أفغانستان إلى لقاء معهم في كامب ديفيد. وهذا جاء بعد كمين نصبته هاريس لترامب. لم يستطع ترامب حتى ارغام نفسه على القول أنه يؤيد انتصار أوكرانيا في حربها الدفاعية ضد الاحتلال الروسي.
كما كرر ترامب موقفه المهين والمشكك بأن هاريس هي امرأه سوداء، وهو الموقف الذي أعلنه قبل أسابيع، وحين سؤاله عن الاتهامات الباطلة للمهاجرين من هايتي في ولاية أوهايو، زمجر ترامب وهو يتهم المهاجرين من هايتي ” إنهم يأكلون الكلاب، يأكلون القطط…” وواصل ترامب اتهاماته المهينة هذه حتى بعد أن أوضح له مذيع شبكة أي بي سي دافيد ميور أن شبكته تحققت من هذه التهم، وتبين أنه لا أساس لها من الصحة، ولكن ترامب قال إنه شاهد البعض يرددون هذه التهم على شبكات التلفزيون. ولكن وسائل إعلام عديدة أكدت أن هذه الاتهامات لا أساس لها من الصحة.
ولعل الاستفزاز الأنجح الذي وجهته هاريس لترامب كان حين سخرت من مبالغات ترامب بحجم الجماهير التي تحضر مهرجاناته الانتخابية، وقالت للناخبين إنهم إذا حضروا برنامج انتخابي لترامب فإنهم سوف يسمعونه يتحدث عن شخصيات خيالية، أو القول إن طواحين الهواء (التي تنتج الطاقة) تتسبب بالسرطان، وأشارت بسخرية إلى أن الناس بعد أن يسمعوا مثل هذا الهراء يبدأون بمغادرة مهرجانات ترامب، إما بسبب الارهاق أو الضجر. وشاهد الملايين الرئيس الأميركي السابق من قاع الكمين الذي وقع فيه وهو يردد غاضباً إن الجماهير لا تنسحب من مهرجاناته، “ونحن لدينا أكبر المهرجانات وأكثرها أهمية في تاريخ السياسة”.
وبينما سعت هاريس إلى الحديث عن رؤيتها لمستقبل البلاد الاقتصادي، وأكدت أنها ستكون رئيسة لكل الأميركيين بعكس ترامب الذي يتحدث علناً عن رغبته بمعاقبة خصومه، كررت حديثها عن ضرورة فتح صفحة جديدة ومتفائلة، ونبذ خلافات واضطرابات ولاية ترامب، واصل ترامب ترديد ادعاءاته المعروفة بأن الولايات المتحدة دولة تعاني من الفشل. ادعى الرئيس السابق ترامب أن أدائه خلال المناظرة كان جيد للغاية، وشكك بإمكانية تنظيم مناظرة جديدة، كما ترغب حملة هاريس، بالقول إنه متردد في ذلك لأنه “فاز” بمناظرة يوم الثلاثاء.
القاعدة الانتخابية لترامب، والتي لا تكفي وحدها لإيصاله إلى البيت الأبيض، لا تزال تقف ورائه بقوة، ومواقف هذه القاعدة لا تتأثر كثيراً إذا كان أداء ترامب ضعيفاً في المناظرة. في المقابل تعمل هاريس على توسيع خيمة الحزب الديموقراطي لتشمل تلك الشريحة الهامة من الجمهوريين الرافضين لترامب، والذين يقولون إن الولاء للوطن وصيانة قيمه ومؤسساته الدستورية أهم من الولاء لمرشح الحزب، وخاصة بعد الجنوح المقلق للحزب الجمهوري عن مساره التقليدي.
بدت قدرة هاريس على توسيع الائتلاف الذي يقف ورائها مدهشة في الأيام الماضية حين بدا الطيف السياسي الذي يؤيد ترشيح هاريس للرئاسة يمتد من اليسار القوي الذي يمثله السناتور بيرني ساندرز، ويصل إلى أقصى اليمين المحافظ الذي يمثله نائب الرئيس الجمهوري السابق ديك تشيني ونجلته ليز تشيني. التحدي الذي يمثله ترامب ضد الديموقراطية الأميركية ومؤسساتها هو الذي يفسر مثل هذا الطيف السياسي الواسع الذي يقف وراء كامالا هاريس.