هناك تسليم واسع في الأوساط السياسية في واشنطن أن سياسات وقرارات الولايات المتحدة في المنطقة الممتدة من جنوب آسيا إلى شمال أفريقيا في القرن الحادي والعشرين اتسمت بالتهور الاستراتيجي كما يتبين من حربين كارثيتين في أفغانستان والعراق، والتأرجح بين مهادنة ومعاداة إيران، والجمود العملي، والبعض يقول احتضار “عملية السلام” بين الفلسطينيين وإسرائيل على خلفية استمرار حرب غزة، واخفاق واشنطن في اعتماد اسلوب واحد وثابت في التعامل مع انتهاكات حلفائها لحقوق الانسان.
لم يفكر أي مسؤول في إدارة الرئيس جورج بوش الابن أن القوات الأميركية التي غزت أفغانستان في 2001 والعراق في 2003 سوف تظل في هاتين الدولتين لأكثر من عقد من الزمن، والأهم من ذلك لم يفكر أحد بفداحة الثمن البشري والمادي الذي ستدفعه الولايات المتحدة حتى بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. وعلى الرغم من محاولات الرئيسين الديموقراطي باراك أوباما والجمهوري دونالد ترامب سحب جميع القوات الأميركية من أفغانستان، إلا أنهما أُحبطا في تحقيق هذه الغاية. صحيح أن الرئيس جوزيف بايدن أنهى التورط العسكري في أفغانستان، إلا أن الانسحاب كان دموياً وفوضوياً ومحرجاً. الرؤساء أوباما وترامب وبايدن خفضّوا الوجود العسكري في العراق (بايدن غّير المهمة القتالية إلى مهمة تدريبية في 2021)، ولكن بايدن أبقى على أكثر من ألفي عنصر عسكري في العراق، كما أن محاولات سحب جميع القوات الأميركية من سوريا واجهت معارضة داخلية، حيث لا يزال للولايات المتحدة أقل من ألف عنصر عسكري في شمال شرق سوريا.
وبغض النظر عن هوية الرئيس السابع والأربعين الذي سينتخبه، أو ينتخبها، الناخبون الأميركيون في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، سوف تتعرض الإدارة الجديدة لضغوط من مصادر جمهورية وديموقراطية لإخراج القوات الأميركية من العراق وسوريا لأن هذه القوات لن تمنع العراق من الدوران بثبات في الفلك الإيراني، وسوف تبقى معرضة للتحرش والقصف من وكلاء وعملاء إيران، كما أن القوات الأميركية في سوريا لن تستطيع توفير الحماية المفتوحة للأكراد من مخالب دولة حليفة مثل تركيا، أو مخالب دولة مفترسة مثل سوريا.
قبل انسحاب الرئيس بايدن من السباق الرئاسي لم يتوقع المراقبون تغييرات جذرية في سياسات واشنطن في الشرق الأوسط بعد الانتخابات، لأن هناك سجل للرئيس السابق ترامب (على الرغم من أن سلوك ترامب معرض للتقلب) وسجل للرئيس بايدن. ونظراً لعدم وجود مواقف واضحة أو ثابتة لكامالا هاريس تجاه قضايا الشرق الأوسط تختلف عن مواقف الرئيس بايدن أو عن الأرثوذوكسية السياسية الديموقراطية التقليدية في الشرق الأوسط (حل الدولتين للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ومنع إيران من التحول إلى دولة نووية عبر الأساليب السلمية إن أمكن، ومواصلة إثارة مسألة حقوق الانسان، ولكن دون تهديد العلاقات مع الحلفاء أو الإضرار بالمصالح الاستراتيجية الأميركية)، سوف تحظى مواقف كامالا هاريس باهتمام متزايد لحين موعد الانتخابات.
ما يمكن قوله ببعض الوضوح واليقين هو أن مواقف هاريس تجاه الاجتياح الإسرائيلي لغزة، لا تختلف كثيراً من حيث المضمون مع سياسات بايدن، إلا أن النبرة التي تستخدمها هاريس، وخاصة انتقاداتها الواضحة والصريحة للعنف المتطرف الذي تستخدمه إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، قد عرّضها لانتقادات المسؤولين في حكومة بنيامين نتنياهو، كما عرّض بعض خطبها حول غزة لمقص رقباء مجلس الأمن القومي الذي هذّب لهجتها الانتقادية للحكومة الاسرائيلية وأساليبها الدموية.
يردد الرئيس السابق ترامب أنه أكثر تأييداً لإسرائيل من بايدن، ويدعي إن أي يهودي أميركي ينتخب اللائحة الديموقراطية التي ترأسها هاريس الآن، يجب أن يفحص عقله، ويتهم كامالا هاريس بأنها لا تؤيد إسرائيل، على الرغم من أن سجلها في الكونغرس أو خلال عملها كمدع عام لولاية كاليفورنيا يؤكد تأييدها القوي لإسرائيل. عودة ترامب إلى البيت الأبيض تعني استئناف سياسة العداء لإيران، والعودة لاستئناف سلاح العقوبات الاقتصادية كأبرز أسلوب في التعامل معها. ترامب لن يثير انتهاكات حقوق الانسان في الدول العربية، تماماً كما فعل خلال ولايته الأولى، ولن يلوح بتعليق صفقات الأسلحة لهذه الدول كما فعل جوزيف بايدن في الأشهر الأولى من ولايته، ما يفسر ارتياح هذه الدول لعودة ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض.
ذّكر ترامب في تصريحاته الأخيرة الاسرائيليين بأنه “أعطاهم” هضبة الجولان السورية المحتلة، حيث جعل الولايات المتحدة الدولة الرئيسية الوحيدة في العالم التي تعترف بسيادة إسرائيل على الجولان، كما “أعطاهم” القدس الشرقية المحتلة، بعد أن نقل السفارة الأميركية إليها، كما أغلق المكتب الذي كان يمثل السلطة الفلسطينية في واشنطن، وهي بالمناسبة قرارات لم يتراجع عنها الرئيس بايدن، وليس من المتوقع أن تتراجع عنها كامالا هاريس في حال انتخابها. لم يبال الرئيس ترامب عملياً بالاستيطان الإسرائيلي في القدس أو الضفة الغربية، ومع أنه كان بين وقت وآخر يتحدث عن “حل الدولتين” إلا أنه لم يسع إلى استئناف المفاوضات، ولا يعتقد أنه مهتم بهذه المسألة. الرئيس بايدن ونائبته هاريس لم يدفعا بقوة لاستئناف المفاوضات، وإن كانوا قد استأنفوا المساعدات الاقتصادية للفلسطينيين والاتصالات الديبلوماسية معهم. لم تحقق إدارة بايدن وعدها بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، ولا يوجد هناك موقف مختلف لهاريس حول القنصلية.
ركز الرئيس بايدن ونائبته هاريس قبل حرب غزة على البناء على “اتفاقات إبراهام” من خلال العمل على اقناع السعودية بالانضمام لهذه الاتفاقات، حيث أمضيا أول ثلاثة سنوات لهما في البيت الأبيض وهما يعملان على توفير الثمن الذي طلبته السعودية مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، أي معاهدة دفاع وشراء برنامج نووي يسمح لها بتخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية. وتقول مصادر أميركية بارزة إن المفاوضين الأميركيين والسعوديين قد أنهوا عملياً صياغة معاهدة الدفاع، وإن لا تزال هناك معارضة (جمهورية وديموقراطية) في الكونغرس ضد المعاهدة، التي تقول المصادر إنها قريبة جدا من المعاهدات التي تربط الولايات المتحدة بالتزامات أمنية مع حلفائها الأوروبيين، إضافة إلى معارضة توفير برنامج نووي طموح للسعودية. ويُعتقد أن هاريس سوف تواصل الدفع بهذا الاتجاه، أي توثيق العلاقات مع السعودية، وتعزيز العلاقات بين السعودية وإسرائيل، وخلق كتلة اقليمية تتصدى لإيران، وتساعد واشنطن على مواجهة محاولات الصين وروسيا تعزيز وجودهما الاستراتيجي والاقتصادي في الخليج. الرغبة في التصدي للنفوذ الاقتصادي الصيني، هو من أبرز الأسباب التي ستؤخر تخفيف الوجود العسكري الأميركي الراهن في دول الخليج.
في حال انتخاب كامالا هاريس، سوف تتركز الأنظار على من ستعين في وزارتي الخارجية والدفاع، وتحديداً كمستشار للأمن القومي. وكانت هاريس قد عينت فيليب غوردون، الخبير في الشؤون الأوروبية، بما في ذلك الشؤون التركية، مستشارها الخاص لشؤون الأمن القومي. غوردون كان يعمل كباحث وأكاديمي حين لا يشغل أي منصب حكومي، وكان من أبرز مساعدي الرئيس الأسبق أوباما، كما سبق وخدم في مطلع حياته السياسية كمساعد للرئيس بيل كلينتون.
وكانت هاريس قد أيدت الاتفاق النووي الذي وقعه الرئيس الأسبق أوباما مع إيران، (لاحقاً انتقدت بقوة قرار ترامب في 2018 الانسحاب من الاتفاق، ووصفت القرار كما وصفت قرار اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني “بالمتهور)، وهو موقف مماثل لمساعدها غوردون، الذي انتقد بشدة سياسات الرئيس جورج بوش الابن في العراق وأفغانستان، حيث دعا إلى انسحاب مبكر من أفغانستان، وانتقد “الحرب ضد الإرهاب” كما حددها الرئيس بوش الابن. وكان غوردون قد انتقد بقوة الدعم الاميركي “الكارثي” للحرب بين إسرائيل وحزب الله في 2006.
وتلتقي مواقف هاريس وغوردون المؤيدة لحل الدولتين مع مواقف جميع الرؤساء الديموقراطيين حول الحل الأفضل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وكان غوردون من بين المسؤولين الذين ساهموا في جهود الرئيس أوباما لدفع “عملية السلام” إلى الأمام. وليس من الواضح، في حال انتخاب هاريس، وفي حال تعيينها لغوردون في منصب مستشار الأمن القومي، وابقائه قريبا منها في البيت الأبيض أو تعيينه في وزارة الخارجية، ما إذا كانت ستضع مسألة معالجة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في طليعة أولوياتها الخارجية، بسبب إلحاح الأوضاع المأساوية في غزة، أم أنها سوف تتبع سياسة حذرة مماثلة للسياسة التي اتبعها بايدن قبل حرب غزة.
وإضافة إلى فيليب غوردون، الذي كان يقدم المشورة لهاريس حول قضايا الشرق الأوسط، عينت هاريس أيلان غولدينبيرغ الإسرائيلي-الأميركي، والذي خدم في مناصب مختلفة في وزارتي الخارجية والدفاع خلال إدارة الرئيس أوباما، كضابط اتصال بينها وبين الجالية اليهودية، وكمستشار لحملتها الانتخابية حول إسرائيل والحرب في غزة. لغولدينبيرغ مواقف مماثلة لغوردون حول إيران، وهو من مؤيدي حل الدولتين وتحسين العلاقات مع السعودية.
مواقف هاريس ومستشاريها حول حل الدولتين وإيران، وإدراكها للصعوبات التي واجهها الرئيس بايدن في بداية ولايته، عندما اتخذ مواقف قوية ومتشددة من دول عربية، حليفة مثل مصر والسعودية، بسبب انتهاكاتها لحقوق الانسان، واستخدم المساعدات العسكرية للضغط عليها، قبل أن يتراجع عن الاجراءات العقابية بعد اكتشاف محدوديتها، تبين أنها من المرجح لن تضع هذه الاعتبارات في طليعة أولوياتها.
النبرة القوية والعلنية التي استخدمتها هاريس في انتقادها للعنف الإسرائيلي المتطرف ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة، وكيف ناقشت الوضع الانساني “الرهيب” في غزة، وقولها إن “ما حدث في غزة خلال التسعة أشهر الماضية هو أمر وخيم”، وتحدثت عن “الصور التي تظهر الأطفال القتلى، والأشخاص اليائسين الجائعين الذين يهربون بحثاً عن الأمان، وأحيانا ينزحون للمرة الثانية والثالثة أو الرابعة، لا يمكننا أن نلتفت بعيداً عن هذه المآسي، ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا أن نشعر بالعجز أمام هذه المعاناة، وأنا لن أصمت” على هذه الانتهاكات. وسارع مساعدو بنيامين نتنياهو إلى تسريب استيائه ووفده من مواقف ونبرة هاريس، إلى المراسلين الأميركيين والإسرائيليين. مواقف هاريس هذه، وما ذكرته مصادر مسؤولة من أن مجلس الأمن القومي تدخل لتخفيف لهجة خطاب لهاريس في شهر مارس/آذار الماضي تحدثت فيه عن الظروف “غير الانسانية” في غزة، وطالبت فيه إسرائيل بزيادة تدفق المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في القطاع، ساهمت في تحسين مكانتها في أوساط الجالية العربية-الأميركية في ولاية محورية مثل ميتشغان، وفي الأوساط المناوئة للحرب في غزة. ولكن يمكن القول إن “الاحتكاك” الأول بين هاريس كرئيسة محتملة وبنيامين نتنياهو لم يكن إيجابيا لنتنياهو.
وجود مستشار مقرب من هاريس مثل فيليب غوردون، مؤشر على أن السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط التي ستنتهجها هاريس في حال انتخابها، وفي حال تعيين غوردون في منصب بارز، سوف تتسم بالاعتدال والتركيز على الوسائل الديبلوماسية لحل أزمات المنطقة. صحيح إن خبرة غوردون السياسية والأكاديمية هي أوروبا بالدرجة الأولى، والدولة الشرق أوسطية التي يعرفها أكثر من غيرها هي تركيا، ومعظم كتاباته ومقالاته تمحورت حول العلاقات مع أوروبا ومكافحة الارهاب، ولكن معرفته بقضايا الشرق الأوسط جيدة أيضاً، وكان في صلب المفاوضات مع إيران بسبب البعد الأوروبي لهذه المفاوضات، وإن كانت معرفته الشخصية بالمسؤولين في دول المنطقة محدودة.
يبقى أن كيفية تعامل الرئيسة كامالا هاريس، إذا وصلت إلى البيت الأبيض، مع دول مثل إيران وإسرائيل، يتوقف إلى حد كبير على سلوك القيادة الإيرانية الذي سيبقى متسماً بالتشدد طالما ظل المرشد الأعلى علي خامنئي على قيد الحياة، وعلى بنيامين نتنياهو طالما بقي رئيساً لوزراء إسرائيل. ولكن وجود مستشار موثوق وله خبرة واسعة وعملية في الشؤون الأوروبية وشؤون المنطقة، وذو شخصية تتحلى بالصبر والدقة والاتزان والاعتدال قرب هاريس هو عامل إيجابي تحتاجه السياسة الخارجية الأميركية في هذه المرحلة الحرجة، كما تحتاجه المنطقة.