ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
قرار مجلس النواب الأمريكي بإحالة الرئيس دونالد ترامب إلى المحاكمة أمام مجلس الشيوخ ، أبرز بشكل صارخ عمق الخلافات السياسية في البلاد والمرارة التي يتسم بها السجال السياسي في الكونغرس والمجتمع الأمريكيين، والتي ازدادت خطورة منذ وصول ترامب إلى سدة الرئاسة.
وراقب ملايين الأمريكيين يوم الأربعاء جلسة تاريخية بالفعل أصبح في نهايتها الرئيس ترامب ثالث رئيس أمريكي يوصي مجلس النواب بعزله خلال أكثر من مئة وخمسين سنة. وكانت اللجنة القضائية في مجلس النواب قد وجهت تهمتي استغلال السلطة وعرقلة أعمال الكونغرس للرئيس ترامب في سياق تعامله مع ما عرف بفضيحة أوكرانيا، وتحديدا محاولته زج أوكرانيا لمساعدته في الانتخابات الرئاسية المقبلة من خلال فتح تحقيقات بدور منافسه المحتمل جوزف بايدن ونجله في أوكرانيا خلال ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، ولاحقا عرقلة محاولات الكونغرس التحقيق بالفضيحة. ولم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة أن وافق مجلس الشيوخ على عزل أي رئيس من منصبه. ونظرا لأن قرار العزل يتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ المئة، ونظرا لأن الجمهوريين يمثلون أكثرية بسيطة في المجلس، من المتوقع أن يبرئ مجلس الشيوخ الرئيس ترامب من التهمتين، كما يكرر القول زعيم الأغلبية الجمهورية السيناتور ميتش ماكونال.
قرار مجلس النواب، يعني أن محاكمة ترامب سوف تخيم بظلالها الثقيلة على الموسم الانتخابي الذي سيبدأ في شباط – فبراير المقبل، ويفترض أن يحسم في تشرين الثاني – نوفمبر المقبل. وحتى قبل محاكمته كان الرئيس ترامب يتعامل مع المرشحين الديمقراطيين بمزيج من السخرية والازدراء والتجريح والتضليل. بعد المحاكمة واستنادا إلى سجل وسمعة ترامب، لن يستغرب أحد لجوئه إلى سياسة الأرض المحروقة في التعامل مع قادة الحزب الديموقراطي، كما يتبين من الرسالة السافرة والمهينة التي بعثها إلى رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي عشية إحالته إلى المحاكمة والتي ادعى فيها أن الديمقراطيين يقوضون الديمقراطية في البلاد ويقومون بمحاولة انقلابية ضده. كما من المتوقع أن يصعّد ترامب من حملاته الشخصية والسياسية ضد منافسيه الديمقراطيين لمنصب الرئاسة، والانتقام من أي شخصية أو مؤسسة يرى الرئيس أنها جزء لا يتجزأ من “الدولة العميقة”، التي يدعي أنها تريد الإطاحة به. ويتخوف بعض المراقبين، من أن يرى ترامب في إحالته على المحاكمة، حتى ولو برأه مجلس الشيوخ كما هو متوقع، أن أفضل وسيلة للانتقام من أعدائه، وتحسين مكانته في التاريخ هي الفوز بولاية ثانية مهما كان الثمن، وحتى ولو تعاون مع قوى خارجية، كما يخشى العديد من المشرعّين الديمقراطيين.
ترامب وكلينتون ونيكسون
تعامل الرئيس ترامب باستخفاف واحتقار وتحدي مع محاولات الكونغرس التحقيق بكيفية تعامل البيت الأبيض مع أوكرانيا، بما في ذلك منع المسؤولين البارزين في حكومته مثل مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، ومدير البيت الأبيض بالوكالة ميك مولفيني، ومحاميه الخاص رودي جولياني، من المثول أمام لجان مجلس النواب التي كانت تحقق بطبيعة الاتصالات الأمريكية-الأوكرانية والضغوط التي فرضها ترامب على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بما في ذلك تعيلق تسليم صفقة أسلحة بقيمة حوالي 400 مليون دولار إلى أن ينفذ طلبات ترامب. كما منع ترامب الأجهزة الحكومية من تنفيذ طلبات الكونغرس الرسمية بالحصول على الوثائق الضرورية لمتابعة تحقيقه. هذا الرفض دفع بالديمقراطيين إلى اتهام ترامب رسميا بعرقلة عمل الكونغرس. خلال فضيحة ووترغيت التي أرغمت الرئيس الاسبق ريتشارد نيكسون على الاستقالة في 1974 – الاستقالة الوحيدة في تاريخ الولايات المتحدة – حاول نيكسون في بداية تحقيقات الكونغرس التهرب من التعاون مع اللجنة القضائية، وخاصة رفض تسليمها أشرطة التسجيل لمداولاته ومناقشاته في المكتب البيضاوي، إلا أنه نفذ طلبات اللجنة لاحقا بعد أن حسمت الامر المحكمة العليا. وعلى الرغم من أن نيكسون كان يمارس التضليل والكذب، إلا أنه كان يكذب لأسباب محددة معظمها سياسي، وليس ممارسة الكذب كجزء طبيعي من شخصيته كما هو الحال مع الرئيس ترامب. نيكسون لم يكن فخورا بتغطيته على فضيحة ووترغيت، وأدرك فداحة وضعه السياسي والقانوني، وأعرب عن أسفه لما فعله.
خلال مداولات مجلس النواب الذي أحاله إلى المحاكمة، كان ترامب يشارك في مهرجان انتخابي، شنّ خلاله هجوما لاذعا ضد خصومه الديمقراطيين ولم يتورع عن توجيه اهانات شخصية لنانسي بيلوسي، ولارملة نائب كان محاربا قديما وخدم لأطول فترة في تاريخ الكونغرس الأمريكي، حين أوحى أن الراحل هو في الجحيم. ترامب قال لجمهوره الذي غمره بعطف وحماس كبيرين، إنه يقضي وقتا جيدا بينهم ولا يشعر بأنه قد أحيل إلى المحاكمة.
خلال فضيحة الرئيس كلينتون ومونيكا لوينسكي، لجأ كلينتون في البداية إلى الكذب حين نفى علاقته بلوينسكي الأمر الذي أدى إلى اتهامه بنكث قسمه. ولكن كلينتون تعاون لاحقا مع لجان الكونغرس، واعرب عن أسفه لسلوكه المشين. وخلال توجيه التهم إليه في مجلس النواب، ومحاكمته لاحقا في مجلس الشيوخ، امتنع كلينتون عن مناقشة الفضيحة وركز على عمله وكأنه لا يواجه المحاكمة، بما في ذلك ادارة السياسة الخارجية.
يفاخر الرئيس ترامب بانه لا يعتذر ولا يمارس أي نقد ذاتي، كما أنه لا يتحمل أي نقد حتى ولو كان مصدره غير عدائي أو آت من صديق. هذه الصفات، يضاف اليها أسلوبه الصدامي وميله لتصفية الحسابات بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، تفسر سيطرته شبه المطلقة على الحزب الجمهوري الذي يفتقر إلى أي أصوات مستقلة بشكل حقيقي. وكان من اللافت أنه خلال جلسة احالة ترامب إلى المحاكمة، تحدث عشرات النواب الجمهوريين الذين حاولوا دحض أو تفنيد اتهامات الديمقراطيين من خلال التشكيك ببعض القضايا الاجرائية، أو نفي التهم بشكل عام والقول إنه لم يكن هناك أي شاهد استطاع القول إن الرئيس ترامب أمره بفرض الضغوط على الرئيس الاوكراني، أو المطالبة بدليل واضح يثبت أن ترامب هو الذي أصدر أمر تجميد صفقة الأسلحة لأوكرانيا. وكان من اللافت أن الجمهوريين لم يشككوا بصدقية التهم الموجهة إلى الرئيس ترامب، وإن قال بعضهم إن ترامب محق في طلبه من الرئيس الأوكراني التحقيق بمنافسه في الانتخابات، وغيرها من التبريرات. ولكن الأمر اللافت بامتياز، وهو أنه لم يقم نائب جمهوري واحد، خلال عشرة ساعات من المداولات والمناقشات، بالدفاع عن نزاهة وصدقية وأخلاق الرئيس ترامب، أو الإيحاء بأن هذه الصفات تجعل من المستحيل تصديق التهم الموجهة اليه والتي تقول عمليا أنه كاذب ومضلل ويفتقر إلى القيم الأخلاقية. ويتطلع ترامب إلى اداء مماثل وولاء أعمى من مجلس الشيوخ خلال محاكمته. خلال التحقيق بفضيحة ووترغيت، برز “نجم” السيناتور الجمهوري هوارد بيكر الذي اشتهر بطرحه لسؤال حول معرفة الرئيس نيكسون بطبيعة التغطية على الفضيحة: “ما الذي يعرفه الرئيس، وفي أي وقت عرفه”. السيناتور بيكر وغيره من المشرعين الجمهوريين مثل السيناتور باري جولدووتر والسيناتور هيو سكوت وغيرهم، كانوا يتمتعون باستقلالية وصدقية جعلتهم يتصرفون بمعزل عن رغبات الرئيس نيكسون. وبعد أن تبين لهؤلاء أن اللجنة القضائية ستوصي بإحالة نيكسون للمحاكمة، قام باري جولدووتر وهيو سكوت، والنائب جون رودز، في السابع من آب- أغسطس 1074 بزيارة نيكسون في البيت الأبيض وابلغوه بصراحة أن الجمهوريين لن يستطيعوا إنقاذه من مواجهة المحاكمة. لم يطالبونه بالاستقالة، لا بل أن كلمة “الاستقالة” لم تطرح او تذكر. ولكن الرسالة الضمنية للمشرعين الجمهوريين لرئيسهم كانت واضحة. مساء اليوم التالي، أعلن ريتشارد نيكسون أنه سيستقيل من منصبه، وأن الاستقالة ستصبح سارية المفعول في التاسع من آب- أغسطس 1974. ما يصدم المراقب اليوم، هو أنه لا يوجد في الكونغرس الحالي مشرعين، أو حتى مشرع واحد يقترب من مكانة وصدقية المشرعين الذين صارحوا نيكسون بشأن مستقبله السياسي. الحزب الجمهوري اليوم، هو حزب دونالد ترامب، وهو يسيطر عليه كما يسيطر أي زعيم أوتوقراطي في دولة نامية على حزبه.
أثر محاكمة ترامب على السياسة الخارجية
الرئيس ترامب ليس معروفا بولعه بالسياسة الخارجية، كما كان معروفا عن الرئيس نيكسون، وحتى الذين ينتقدون سياسات ترامب بشدة، عليهم ان يعترفوا بأنه يميل بحدسه إلى عدم التورط في النزاعات الخارجية، وهو يسعى منذ وصوله إلى البيت الأبيض إلى “الانسحاب” من العالم، وخاصة سحب القوات الأمريكية من ما يسميه عن حق “النزاعات التي لا نهاية لها” مثل حربي أفغانستان والعراق. نقول هذا لاستبعاد لجوء ترامب إلى استغلال السياسة الخارجية لإبعاد الأنظار عن مشاكله الداخلية. طبعا، صعوبة قراءة ترامب الذي لا يعرف الكثير عن العالم الخارجي، وميله لاتخاذ القرارات الاعتباطية والمتهورة، قد يدفعه لاساءة فهم تطورات خارجية معقدة ما يمكن أن يؤدي إلى التورط في نزاع عسكري.
ولكن الوجه الآخر لهذه المعضلة مقلق أكثر، وهو احتمال قيام خصوم الولايات المتحدة مثل ايران او كوريا الشمالية، وربما الصين إلى “امتحان” الرئيس ترامب، الذي سيصبح مهووسا بالسياسة الداخلية مع اقتراب موعد الانتخابات. امتناع ترامب عن الرد العسكري على إيران عقب اسقاطها لطائرة مسيرة بالغة الكلفة في الصيف الماضي، وامتناعه عن توجيه ضربة عقابية لإيران في أعقاب تفجير ناقلات للنفط في الخليج، وقصف أهم منشآت النفط في السعودية، على الرغم من توفر أدلة حول مسؤولية ايران، يمكن ان يشجع الجمهورية الإسلامية على امتحان رئيس محاصر. وحتى قبل إحالة ترامب للمحاكمة، تحدث زعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون عن تجارب صاروخية جديدة ستقوم بها بلاده، وسوف تؤدي إلى إحراج “صديقه” الأمريكي الرئيس ترامب.
محاكمة ترامب نفسّت كبريائه، وجرحت غروره، و أضعفته في تعامله مع خصوم وحتى أصدقاء أمريكا في العالم. خلال السنوات الثلاثة الماضية، أضعف ترامب وقوض صداقات وتحالفات الولايات المتحدة مع الدول الأوروبية ومع اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا. وفي المقابل عزز ترامب من علاقاته مع “الرجال الأقوياء” الاوتوقراطيين مثل الروسي فلاديمير بوتين، والتركي طيب رجب اردوغان والبرازيلي جايير بولسونارو وغيرهم. ولم يكن من المستغرب أن يدافع الرئيس بوتين عن الرئيس ترامب بعد إحالته للمحاكمة، وقوله إنه يتوقع من مجلس الشيوخ تبرئته واعتبار قرار مجلس النواب جزءا من الحملة الديموقراطية ضد ترامب، حين قال “الحزب الذي خسر الانتخابات (في 2016) أي الحزب الديموقراطي يحاول تحقيق أهدافه بطرق مختلفة”. خصوم الولايات المتحدة التقليديين مثل روسيا والصين سيرحبون ببقاء ترامب في البيت الأبيض إلى نهاية ولايته، وحتى انتخابه لولاية جديدة، لأن ذلك سيضمن استمرار لا بل تفاقم الاستقطابات السياسية والثقافية والعرقية الخطيرة ، وحالة والفوضى وانعدام اليقين، وانهيار نوعية الخطاب السياسي والايديولوجي في البلاد لدرجة جددت المخاوف من احتمال حدوث أعمال عنف طالما بقي ترامب في البيت الأبيض. وحتى ولو تمت تبرئة ترامب في مجلس الشيوخ، فإن محاكمته ستتحول الى لطخة داكنة سوف تبقى ملتصقة به إلى الأبد، وهو جالس قرب سلفيه الملطخين : أندرو جونسون، وبيل كلينتون. وبغض النظر عن سجل دونالد ترامب كرئيس، يمكن أن نقول بدرجة عالية من الثقة، أن الفقرة الأولى من نعي الرئيس ترامب سوف تذكر بشكل بارز ان ممثلي الشعب الأمريكي في الكونغرس اتهموه بانتهاك واساءة استخدام صلاحياته الدستورية وحاكموه.