منذ وصوله إلى البيت الأبيض قبل ثلاثة أسابيع، وقع الرئيس دونالد ترامب على مئات القرارات التنفيذية، كان بعضها غريباً أو مفاجئاً، أو مبني على أسس قانونية واهية، وتزامنت هذه القرارات مع تصريحات – أو ربما الأصح القول – اجتهادات شخصية لم يتم تطويرها، أو تبريرها بشكل كاف، أو مقنع – مثل حديث ترامب المفاجئ عن طموحاته التوسعية في إعادة السيطرة الأميركية على قناة بنما، أو ضم جزيرة غرينلاند الضخمة في أوروبا، أو ضم كندا واعتبارها الولاية الواحدة والخمسين في الاتحاد الفيدرالي الأميركي. وأخيراً، الصدمة التي أحدثها ترامب خلال زيارة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو إلى البيت الأبيض: فرض السيطرة الأميركية على قطاع غزة، وتهجير سكانه إلى كل من الأردن ومصر.
بعض القرارات التنفيذية المثيرة للكثير من الجدل القانوني الحاد تم وقف تنفيذها أو تجميدها من قبل قضاة فيدراليون عينهم في مناصبهم رؤساء جمهوريون وديموقراطيون، ما خلق الاحباط وردود الفعل السلبية والحادة من قبل الرئيس وكبار مساعديه على ما اعتبروه قرارات اعتباطية من قضاة ليبراليين يتصرفون كناشطين سياسيين. على سبيل المثال، أمر قاض من ولاية نيوهامبشير بوقف تنفيذ القرار الذي وقعه ترامب، والذي ألغى فيه الجنسية لكل من يولد في الولايات المتحدة من أبويين غير أميركيين، وهو حق يضمنه التعديل الرابع عشر في الدستور، بينما قام قاض آخر من ولاية رود آيلاند بوقف تنفيذ قرار ترامب القاضي بتجميد صرف المبالغ المخصصة للمنح وغيرها من البرامج الحكومية. هذه عينة بسيطة من التحديات القضائية التي تواجهها قرارات ترامب التنفيذية، التي أدت إلى رفع أكثر من أربعين دعوى ضد إدارة ترامب خلال أقل من شهر.
في الأيام الأخيرة، ألمح بعض كبار المسؤولين، ومن بينهم نائب الرئيس جي دي فانس، إلى إمكانية تحدي إدارة ترامب للأوامر القضائية ورفض تنفيذها، الأمر الذي لم يحدث منذ الحرب الاهلية، والذي يمكن أن يخلق أزمة دستورية لا أحد يعلم نتائجها.
سياسة الرئيس ترامب الرامية لـ “تعطيل” الأعراف والتقاليد المعمول بها، وزعزعة أسس الديموقراطية في الولايات المتحدة، يسري أيضاً على السياسة الدولية من أوكرانيا إلى غزة. اتفق الرئيس ترامب مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين على بدء المفاوضات بين البلدين “فوراً” لإيجاد حل للحرب الروسية-الأوكرانية، وهو حل من المتوقع أن يكون على حساب سيادة أوكرانيا. قال وزير الدفاع بيت هيغسيث للحلفاء في حلف الناتو، إن استعادة اوكرانيا لجميع أراضيها التي احتلتها روسيا منذ 2014 “غير واقعي”، كما قال إن الولايات المتحدة ترفض عضوية أوكرانيا في الناتو، وهي مطالب يصر عليها الرئيس بوتين، ويبدو أن الولايات المتحدة تنازلت عنها حتى قبل بدء المفاوضات. هذا الموقف يتعارض مع موقف الولايات المتحدة منذ الغزو الروسي في 2022، كما يتناقض مع بقية دول الناتو.
قبل أيام، استقبل الرئيس ترامب العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، أول زائر عربي في البيت الأبيض منذ تنصيب ترامب في يناير/كانون الثاني، حيث كرر أمامه وعلناً إصراره على السيطرة على قطاع غزة، قائلا “سوف نسيطر على [القطاع] ونتمسك به. وحين سؤاله بأي صلاحية سيفعل ذلك، أجاب ببساطة “بالسلطة الأميركية”. وادعى ترامب أن سيطرة الولايات المتحدة على غزة سوف “توفر الاستقرار في الشرق الأوسط للمرة الأولى،” مكرراً القول، “إن الفلسطينيين سيعيشون في أمان في أماكن أخرى”. ويتحدث ترامب عن قطاع غزة وكأنه عقار ينتظر التطوير، وأن الولايات المتحدة “سوف تديره بشكل مناسب. في النهاية ستحدث تنمية حضارية في منطقة مزقتها الحرب. سيتم بناء أشياء جميلة، مثل الفنادق والمكاتب والمنازل”. في هذه الرؤية الترامبية، لا يبدو أن للفلسطينيين جذور عميقة في غزة وبقية الأراضي الفلسطينية، وهو يتحدث عنهم وكأنهم عابرون، يمكن تهجيرهم بسهولة، “وتخصيص قطعة أرض لهم في الأردن، وقطعة أرض أخرى في مصر،” كما قال بحضور العاهل الاردني، مكرراً التأكيد على رفض حقهم في العودة إلى غزة، بعد إعادة إعمارها.
كما يتجاهل ترامب الأعراف والتقاليد، وحتى القوانين الاميركية، يتجاهل الأعراف والقوانين الدولية. وخلال حواره مع المراسلين خلال استقباله للملك عبد الله، تجاهل ترامب الإجابة على سؤال حول ما إذا كان تهجير الفلسطينيين يرقى إلى مستوى “التطهير العرقي”، وتحدث عن بناء منازل جديدة “جميلة” للفلسطينيين خارج وطنهم بدلاً من “الجحيم” الذي يعيشونه حالياً، معتبراً أن تهجير مليوني شخص هو “عدد صغير جداً من الناس مقارنة بأحداث أخرى وقعت على مر العقود والقرون”.
خلال لقائه مع ترامب، تفادي الملك عبد الله التعليق مباشرة على خطة ترامب تهجير الفلسطينيين إلى الأردن ومصر، واكتفى بالإشارة إلى “خطة تضعها مصر والدول العربية الأخرى” سوف تناقش قريباً في السعودية. ولكنه بعد مغادرة البيت الأبيض أكد في سلسلة من المداخلات على منصة أكس (تويتر سابقاً) إنه كرر لترامب في الاجتماع المغلق موقف الأردن الصامد ضد تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، مؤكداً تمسكه بالموقف العربي الموحد، أي إعادة بناء غزة دون تهجير الفلسطينيين، ومعالجة الوضع الإنساني الصعب، يجب أن يكون الأولوية للجميع.
وكان ترامب قد قال قبل استقباله للملك عبد الله إنه يمكن أن يقطع المساعدات العسكرية والاقتصادية لكل من مصر والأردن إذا لم يوافقا على توطين فلسطينيي قطاع غزة. ومع إنه بدا وكأنه يتراجع عن هذا الموقف بحضور العاهل الأردني، إلا أن هذا التراجع التكتيكي يجب ألا يُطمئن الأردن، الذي يتلقى حوالي مليار ونصف مليار دولار سنويا من الولايات المتحدة. إعلان العاهل الأردني أن بلاده سوف تولي العناية الطبية لألفي طفل من غزة من المصابين بالسرطان والأمراض الأخرى، لقي ترحيباً حاراً من ترامب، ولكن هذه الخطوة الإنسانية ليست كافية لتحقيق ما يريده ترامب. وسوف يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على العاهل الأردني الموازنة بين رفضه توطين فلسطينيي غزة في بلاده كما يريد ترامب، والمحافظة في الوقت ذاته على علاقات جيدة مع ترامب ومواصلة استلام المساعدات الأميركية.
الحديث عن خطة ترامب غير دقيق، والأصح تسميتها “اجتهاد” ترامب لأنه يعطي هذا الاجتهاد تنويعات مختلفة كل مرة يُثار فيها الموضوع، ما يؤكد أن ترامب لم يفكر بعمق باجتهاده، بل اقتبس فكرة السيطرة على غزة عندما سمع صهره جاريد كوشنر يثير مسألة تطوير غزة كعقار سياحي في مارس/آذار الماضي. فهو أولاً لم يستبعد استخدام القوة العسكرية لاحتلال القطاع، بعدها تراجع عن ذلك، وقال إن اسرائيل بعد انتهاء القتال سوف تسلم القطاع للولايات المتحدة التي “ستشتري” غزة. ولكنه خلال استقباله للملك عبد الله قال إنه لن يشتري القطاع، بل سيسطر عليه.
ولكن اصرار ترامب على اجتهاده الغريب غير الأخلاقي وغير القانوني، حتى في غياب التفاصيل السياسية والقانونية واللوجستية الضرورية لتنفيذه، إذا افترضنا إن ترامب سينفذ مثل هذا العمل بالفعل، فإن مجرد إصراره على هذا الاجتهاد سوف يهدد علاقات الولايات المتحدة ليس فقط مع الأردن ومصر، أول بلدين عربيين يتوصلان إلى اتفاقيات سلام مع إسرائيل، بل أيضاً مع السعودية، وربماً أيضا مع دولة الإمارات العربية المتحدة وغيرها.
هذه الدول يمكن أن تقول بصوت واحد لترامب إن إصراره على تهجير الفلسطينيين من غزة سيهدد هدفه السياسي الأوسع في المنطقة، أي تحقيق السلام وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية. خلال ولايته الأولى أقام ترامب علاقات وثيقة مع قادة هذه الدول العربية التي اتخذت موقفاً فاتراً من الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة الرئيس أوباما مع إيران في 2015. ولكن ترامب العائد إلى البيت الأبيض هذه المرة بثقة متزايدة ودعم شعبي أوسع، يتصرف بعنجهية وتعال في علاقاته الدولية، حيث يهدد بسهولة باستخدام سلاح الرسوم الجمركية (التعريفات) ضد الدول الحليفة كما ضد الدول التي تعارضه.
هناك خطوط تماس محتملة بين ترامب والدول العربية المنتجة للنفط، حيث سيعمل الرئيس الأميركي على زيادة إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة، الأمر الذي سيضعه في تنافس مع منظمة الدول المصدرة للنفط، التي تفرض حدوداً على إنتاج أعضائها. ولكن إصرار ترامب على تهجير الفلسطينيين من غزة، والتلويح بتعليق المساعدات الأميركية للأردن ومصر، والإصرار على الدفع باتجاه تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية في الوقت ذاته، سيضع العلاقات الأميركية-العربية في أزمة حقيقية.