في 24 حزيران/يونيو، سيُسمح للنساء بقيادة سياراتهنّ الخاصة، ما سيضع حدًّا للحظر على قيادة النساء ويُحدِث تغييرًا مفصليًّا في المملكة المحافِظة. لكن يبدو أنّ هؤلاء النساء لا يشملن عددًا من أبرز النساء الناشطات في السعودية اللواتي عملن لأجيالٍ من أجل رفع هذا الحظر. ففي 19 أيار/مايو، أفادت وكالة الأنباء السعودية بالقبض على سبعة نشطاء، هم خمس نساء ورجُلان، على خلفية اتهامات خطيرة تتمحور حول التواطؤ مع جهات خارجية بهدف تقويض أمن الدولة. وما زالت عمليات التوقيف جارية وتم القبض على عشرة نشطاء على الأقل حتى الآن بحسب التقارير.
لتوضيح هذه الحالة التي لا تخلو من التناقض، لا بدّ من استكشاف طبيعة السلطة السياسية في السعودية: أي كيف تتحوّل، وكيف لا تتحوّل، في زمن الانتقال هذا من جيلٍ إلى آخر وزمن التغيير الاجتماعي. وفيما من المبكر استخلاص استنتاجات نهائية، ثمة ما يدل على أن الإدانة العامة الكبيرة للنساء تشكّل محاولةً لإعادة تحديد موقف القيادة السعودية كـ”وسَطيين” نسبيين، وهو إنجازٌ تحقق عبر التوقيف والإذلال العلني لمجموعتين من النشطاء وليس لمجموعة واحدة. كما تُعزز هذه الخطوة اللغة القومية التي تزرعها الدولة، فيما تنبّه الأفراد السعوديين بعباراتٍ لا لبس فيها أن الدولة هي الحَكَم الوحيد في شؤون السياسة، وأنها وحدها من يحاور وسائل الإعلام الأجنبية والمنظمات الدولية والدبلوماسيين.
يبدو أن القيادة السعودية التي يستلمها الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان ستباشر بإصلاحات اجتماعية واقتصادية تراها ضرورية لتنويع الاقتصاد وضم السعوديين إلى القوى العاملة، بما فيها السماح للنساء بالقيادة وبتأدية دور أكبر في الحياة العامة. لكن ما زالت عمليات التوقيف تذكّر بوضوحٍ شديد أن المملكة العربية السعودية ليست متحررة سياسيًا بأي شكلٍ من الأشكال. فبالاستناد إلى نزعة شعبوية قومية تزرعها الدولة، طورت السلطات وسائل للحشد الشعبي وفرضت دعمًا فاعلًا لم تشهده في الحقبات السابقة. ويبدو أن الحركة النسوية الناشئة في السعودية، إلى جانب نشطاء من مختلف الصفوف، أي المتشددين الإسلاميين والدستوريين الإسلاميين وبعض الذين يدفعون نحو الشفافية الاقتصادية، يواجهون خطرًا كبيرًا مع تطور هذا الأسلوب الجديد من السلطة.
حركة الناشطات والحظر على القيادة
يصبح مجتمع النشطاء في مجال حقوق المرأة في السعودية أقوى فأقوى عبر الأجيال. وتمحورت الحملة الأكثر شعبية لهذا المجتمع حول معارضة الحظر على قيادة النساء؛ وبالفعل، شارك معظم النشطاء الموقوفين، مثل عائشة المانع وحصة آل الشيخ ومديحة العجروش، في أول احتجاج شعبي حول القيادة في سنة 1990. وشارك كلٌّ من إيمان آل نفجان ولجين الهذلول وعزيزة اليوسف في حملات “لها حق القيادة” ما بعد 2011، وأصبحن بارزات من خلال تحدي الحظر. واتخذت الناشطات تدابير أخرى، فمارسن ضغطًا ناجحًا للسماح بمشاركة المرأة في الانتخابات البلدية ودافعن عن إنهاء نظام ولاية الأمر بالمعروف: وهو السلطة المعترَف بها للرجال على النساء، التي نص عليها القانون بشتى الطرق، وهي لا تعترف بحق المرأة في التعلّم أو العمل أو الزواج أو السفر من دون الحصول على إذنٍ صريح من ولي أمرٍ من الرجال. وإلى جانب هذه الحملات العامة، أمّن بعض النشطاء مساعدة أقلّ بروزًا إلى النساء السعوديات، وذلك في المآزق القانونية الصعبة والنزاعات العائلية الخطيرة. وربما أدت علاقات النشطاء مع الجمعيات الحقوقية الدولية إلى إثارة غيظ الحكومة السعودية. فعلى سبيل المثال، شاركت الهذلول في إجراءات “اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة” في جنيف في شباط/فبراير.
أصبح الحظر على قيادة النساء اختبارًا لسلطة المؤسسة الدينية ودليلًا قاطعًا على الحالة الاستثنائية السعودية، وبرزت أهميته عبر رغبة الدولة السعودية في الصمود لعقودٍ من الزمن في وجه استنكارٍ عالمي تقريبًا من المجتمع الدولي. وبالتالي، يتّسم قرار 26 أيلول/سبتمبر 2017 حول السماح للنساء بالقيادة بالرمزية السياسية وله تداعيات عملية جدًّا في الوقت نفسه. فإنهاء الحظر والحد من سلطة الشرطة الدينية أمران محوريان في جدول أعمال التغيير الاجتماعي الذي ينتهجه ولي العهد السعودي. كما أن إنهاء الحظر على القيادة يُعتبَر محوريًّا للإصلاحات الاقتصادية وذلك عبر ضم النساء السعوديات إلى الحياة العامة والقوى العاملة. ودافع ولي العهد عن هذه الخطوة في عدة مقابلات مع وسائل الإعلام الدولية لإثبات أن المملكة تسلك اتجاهًا جديدًا.
إذًا ما يسترعي الانتباه هو أن المسألة أدّت دورًا بالغ الأهمية في الحملة لقمع مجموعتين من نشطاء بارزين ومصلحين اجتماعيين داخل المملكة.
عمليات توقيف من “اليمين” و”اليسار”
في أيلول/سبتمبر 2017، اتخذت المملكة تدابير صارمة ضد عشرات الشخصيات الدينية والمفكّرين. وفيما وصفتهم وسائل الإعلام بالإسلاميين، شملت الاستجوابات وعمليات التوقيف شريحة إيديولوجية واسعة من رجال دين متشددين بارزين ينتمون إلى شبكات سياسية إسلامية متخفية؛ ورجال دين ومفكرين محبوبين يدافعون عن تفسيرٍ أكثر تحررًا للإسلام؛ ورائد إصلاحي يكثر أتباعه على شبكة “تويتر”؛ وأحد الشعراء. وفيما لم تُسمّ الدولة الموقوفين، أفادت بعمليات توقيفهم في بيانٍ فظ من وكالة الأنباء السعودية مشيرةً إلى تجميع مجموعة من الأشخاص يعملون “لصالح جهات خارجية ضد أمن المملكة”. وربطت حملة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي تدعم عمليات التوقيف هؤلاء الموقوفين بقطر، رغم غياب الأدلة. ولم تأسر هذه العمليات وسائل الإعلام الدولية لمدة طويلة، ويعود أحد الأسباب إلى إعلان السادس والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر بأن المملكة العربية السعودية ستوقف الحظر على قيادة النساء. ومنذ تلك اللحظة وصاعدًا، ربطت عدة أخبار إعلامية وربط عدة نقّاد هذين الحدثيْن، وشجّعت على هذا الربط رسائل الدولة السعودية، التي صورت اكتساح “الصحوة”، أو الانتعاش الإسلامي، من العقدين الماضيين على أنه ضروري لإحراز تقدّمٍ في جدول أعمال المملكة المتعلق بالإصلاح. وتم التعتيم أكثر فأكثر على عمليات التوقيف من خلال حملة تطهير الفساد في تشرين الثاني/نوفمبر 2017 ضد رجال أعمال وأشخاص ملكيين بارزين.
تشكّل عمليات توقيف الزعماء الدينيين والمفكرين، قبل الإعلان عن السماح للنساء بالقيادة، تناظرًا مثيرًا للاهتمام مع الجولة الحالية من عمليات القبض على نشطاء معنيين بحقوق المرأة فورًا قبل الرفع الفعلي للحظر على القيادة. وكلا العمليتين نفّذتهما “رئاسة أمن الدولة” وهي جهاز أمني أُنشئ في تموز/يوليو 2017 وخاضع لسلطة الديوان الملكي المباشرة. واعتقلت المملكة العربية السعودية على نحوٍ غير معهود بعض المحتجزين الرفيعي المستوى من منازلهم بدلًا من استدعائهم للاستجواب، فاستخدمت سبلًا أقرب إلى عمليات توقيف الإرهابيين. واستند كلا الموجتين من عمليات التوقيف إلى اتهامات بالعمل لتحقيق مصالح خارجية بهدف تقويض الدولة، وتم ضبط إيقاع هاتيْن الموجتين لغاية تحريك الحس القومي والدفاع عن الموطن. وفي حالة الناشطات، تم تضخيم الأمر في تغريدة من إحدى وسائل الإعلام الإلكترونية المنحازة للدولة، فصوّرت هذه الأخيرة المملكة على أنها “مستهدَفة من جهات خارجية”، واعتبرت إحدى الافتتاحيات في صحيفة “عكاظ” القائمة في جدة أن النساء يشكّلن جزءًا من “حربٍ ناعمة شُنَّت على المملكة منذ عام 2011”. وأصبحت هذه الاعتداءات شخصية أكثر فأكثر على نحوٍ غير معهود في حالة بعض الناشطات، اللواتي تمت تسميتهنّ علنًا، ربما بسبب صورهن العامة الرفيعة المستوى في الغرب، ونُشرت صورهن الفوتوغرافية على الصفحة الأولى من صحيفة “عكاظ” مع وصمة “خائن”. ودعمت بعض النساء من أعضاء “مجلس الشورى” عمليات التوقيف، فصرّحن أن “الأمة خطة أحمر”.
من المثير للاهتمام النظر إلى هذه الأعمال كشكلٍ من إعادة تحديد الموقف، إذ إنّ عمليات توقيف النشطاء، من اليمين الإسلامي الظاهري واليسار النسوي، تسمح للدولة باحتلال الوسط المحقون بالقومية. ووضّحت مصادر إخبارية سعودية مقرّبة من الحكومة هذا الأمر، مشيدةً بـ”الحزم الذي ينبذ التطرف اليساري واليميني”، ومعتبرةً أنّ “الوسطية شعار السعودية”.
السياسات كلها محلية
سينكشف مع الوقت سواء إذا ما تشكّل عمليات التوقيف بداية انحسار النزعة المحافِظة. وثمة بعض الأدلة على تنازلات تجري لصالح المؤسسة الدينية بالإضافة إلى عمليات تذكير باستمرار احتلال العقيدة الدينية قلب الجهاز الأمني للدولة. وتعكس اللغة التي تستخدمها وزارة الداخلية، متهمةً المحتجزين بـ”التجاوز على الثوابت الدينية والوطنية”، دفاع الدولة الإيديولوجي، الذي ما زال مترسخًا في المعتقدات الدينية التقليدية.
كما توحي مجموعتان من التدابير الأخرى المتّخَذة في الشهر الماضي بعودةٍ ما نحو الاستراتيجية السعودية الأكثر تقليدية المتمثلة في تحقيق التوازن بين الليبراليين والمحافظين. ففي 24 نيسان/أبريل، أجرى محمد بن سلمان زيارة تُظهر الاحترام وانتشرت كثيرًا إلى منزل أحد الأعضاء المحافظين من “مجلس هيئة كبار العلماء” صالح الفوزان. وكان ولي العهد يعتمد حتى وقتٍ متأخر على عالِميْن تم تعيينهما في المجلس في سنة 2016 وخارجًا عن المألوف كثيرًا في ما سبق بتوجهه المتشدد؛ وفي خطوة غير متوقعة، لم يُظهر محمد بن سلمان اختلافًا كبيرًا إزاء المؤسسة الدينية. ومؤخّرًا جدًّا، تم فرض حظر على رجل الدين عدنان ابراهيم الذي يُقيم في فيينا، يمنعه من القدوم إلى السعودية ومن الظهور على القنوات التلفزيونية السعودية. ويُعرف ابراهيم بدعمه للإصلاح التقدمي بما فيه مسائل المرأة؛ وقد انتقد بشدة نظام ولاية الأمر في السعودية. وكان برنامجه الرمضاني الاستفزازي في سنة 2016 “صحوة” البرنامج الديني الأكثر مشاهدةً في المملكة تلك السنة، ويُشهَد على أنه خرق احتكار الخطاب الديني داخل المملكة. وكلّف البرنامج ابراهيم سخط المجلس، الذي أصدر إنذارًا عامًّا بشأن “الضلالات” التي ينشرها.
لكنّ الأدلة حتى الآن تشير إلى أن الحملة على الناشطات تتمحور حول إعادة تحديد الموقف السياسي أكثر من الإصلاحات الاجتماعية الانقلابية. وباشرت وسائل الإعلام الحكومية التي تهاجم المدافعين عن حقوق المرأة بامتداح ما بدأت به القيادة تجاه النساء. فملاحقة هؤلاء الناشطات على اليسار والتقرب من بعض الرجال من المؤسسة الدينية يسمح للحكّام السعوديين باحتلال موقف أفضل ضد ردود الفعل العكسية المحافِظة قبل بدء النساء بالقيادة في 24 حزيران/يونيو.
ما من شكّ في أن محمد بن سلمان ألحق ضررًا كبيرًا بسُمعته كمُصلِح، بعد أن أنفق الكثير من الوقت ومن رأس المال لتكوين هذه الفكرة عنه في الغرب. وربما ثمة المزيد من التكاليف الواجب تكبدها لتحقيق إصلاحات رؤية 2030، التي تتطلب الاستثمار وإنشاء شراكات دولية حتى تنجح. وفي الوقت نفسه، ربما رأى البعض داخل المملكة أن زيارته المطوَّلة إلى الولايات المتحدة وتوسّعه الكبير على أنهما امتدادٌ تجاوزَ الحدود. لكن النقد الدولي القاسي الذي رحّب بهذه الخطوة سيتحول على الأرجح إلى دفاعٍ قومي ودليلٍ على الاستقلال السعودي وعلى حالة سعودية استثنائية جديدة.