بعد أسبوع تقريبا على الهجوم الصاروخي ضد منشآت النفط السعودية التي هزت أسواق النفط في العالم وقلبت المعايير الأمنية في منطقة الخليج للمرة الأولى منذ الغزو الأمريكي للعراق في 2003، لا تزال ملامح الرد على إيران التي حمّلتها السعودية والولايات المتحدة مسؤولية الهجوم غير المسبوق، غير واضحة المعالم، وإن كانت معظم المؤشرات تقول إن الردود الأولية لن تتخطى شنّ حملة ديبلوماسية في مجلس الأمن مع بداية أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع المقبل.
وسوف يتزامن ذلك مع فرض عقوبات اقتصادية إضافية ضد إيران – على الرغم من عدم وجود أي قطاعات إيرانية هامة غير خاضعة للعقوبات – إضافة إلى تعزيز الوجود الأمريكي العسكري في المنطقة. المسؤولون الأمريكيون الذين ناقشوا الهجوم مع قيادات اللجان المختصة في الكونغرس، وإلى حد أقل في إيجازات خلفية مع الصحفيين قدموا معلومات أكدت أن الأسلحة التي استخدمت في الهجوم كانت مزيجا من صواريخ كروز التي تحلق على علو منخفض ومسيرّات، وشددوا على أن دقة الهجوم وخط الصواريخ والطائرات المسيرة تبين أنه هجوم معقد، أي أن دولة تقف وراءه، وأن الأسلحة اطلقت من الشرق ضد المنشآت السعودية، أي من إيران، وليس من الجنوب، أي ليس من اليمن، في دحض واضح لادعاء اعلام الحوثيين أنهم كانوا وراء الهجوم. هذه المعلومات الأولية التي جمعتها الاستخبارات الأمريكية في الساعات الأولى التي عقبت الهجوم، لم تتغير خلال الأيام التالية وإن دعمت بتوثيق أوسع.
وفي الوقت الذي تواصل فيه وزارة الدفاع تطوير الخطط لرد عسكري محدود، يتحدث المسؤولون الأمريكيون عن خيارات أقل “عسكرية”، من بينها أساليب الحرب الالكترونية، والتي يعتقد أن الولايات المتحدة لجأت إليها للرد على اسقاط إيران لطائرة دون طيار قبل أشهر. وعقب إخفاق التجربة الصاروخية الإيرانية، التي كشف عنها الرئيس ترامب في تغريدة ساخرة، قال فيها إن أمريكا ليست مسؤولة عن التجربة الفاشلة، سرت تكهنات تقول بإن الاستخبارات الأمريكية كانت ورائها.
ومقابل تصريحات ترامب الأولية المتشددة، برزت مواقف قوية في الكونغرس لم تقتصر فقط على الحزب الديمقراطي المعارض بل شملت أصوات جمهورية، تحذر الرئيس ترامب من عواقب التورط في رد عسكري ضد إيران، وذّكروا الرئيس بأنه لا يجب أن يقوم بأي تحرك عسكري إلا بعد العودة إلى الكونغرس، وبأن الاعتداء الإيراني كان ضد السعودية، وليس ضد الولايات المتحدة، وأن التورط في قتال مع إيران سوف يضع أكثر من 70 ألف عسكري أمريكي في الشرق الأوسط وجنوب آسيا في خطر.
حقائق محرجة
الهجوم أبرز حقائق مقلقة ومحرجة للسعوديين والأمريكيين، ليس أقلها أن المنشآت النفطية وهي الأكبر في العالم كانت مكشوفة وأي دفاعات كانت تحيط بها لم تكن فعالة. وإذا أدى هجوم واحد إلى مثل هذه الأضرار الضخمة والمكلفة، كيف سيكون المشهد على الساحل العربي من الخليج، في حال انفجر التوتر المتفاقم في الأسابيع والأشهر الماضية إلى مواجهة مفتوحة مع إيران؟ تصريحات المسؤولين الأمريكيين الأولية، وتحديدا الرئيس ترامب، ومن بينها أن الهجوم استهدف السعودية وليس الولايات المتحدة، أو أن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد على النفط السعودي كما كانت قبل عقود، أو أن لديها مخزون احتياطي استراتيجي من النفط يكفيها لشهر على الأقل، وكذلك تقليل ترامب من أهمية الهجوم على أسواق النفط في العالم، وهي كلها حقيقية إلى حد كبير، إلا أنها أرسلت الرسائل الخاطئة إلى دول الخليج العربية وخاصة السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. تصريحات ترامب، وغياب التصريحات من المسؤولين السعوديين الكبار، أظهرت بكل وضوح أنه لا يوجد هناك خطط أو تنسيق بين الطرفين، بعد أشهر طويلة من التوتر والعنف في المنطقة – من تفجير واختطاف الناقلات من قبل إيران، أو قصف الصواريخ الحوثية العشوائية في العمق السعودي- لمواجهة أي تصعيد عسكري حقيقي في الخليج، وكلها أظهرت ما يمكن وصفه بضحالة وضعف التزام ادارة الرئيس ترامب بأمن حلفاء واشنطن في الخليج وتحديدا السعودية والإمارات.
وفي موقف فظ ولافت، وإن غير مستغرب من رئيس لا يؤمن إلا بالعلاقات النفعية، قال ترامب إن أي عمليات عسكرية مشتركة بين القوات الأمريكية والسعودية ضد إيران، في حال اتخاذ مثل هذا القرار العسكري، فإن السعودية ” تدرك جيدا” أن عليها أن “تدفع” تعويضات مالية لقاء مثل هذه المساعدة الأمريكية، ما أدى إلى توجيه انتقادات من الكونغرس ومن المحللين لترامب بأنه يتعامل مع القوات الأمريكية وكأنها مرتزقة. أيضا موقف ترامب المبهم من احتمال لقائه بالرئيس الايراني حسن روحاني في الأسبوع المقبل في الأمم المتحدة، أظهر أنه لا يزال يرغب بالتوصل إلى “صفقة” مع إيران تشمل برنامجها النووي وسياستها الإقليمية.
ترامب يلوح بالسيف ثم يلوح بغصن الزيتون
في الساعات الأولى التي أعقبت تفجير المنشأتين السعوديتين، وفي الوقت الذي كانت فيه النيران تلتهم الحديد والصلب والحجر، غرّد ترامب ولوّح ببندقيته مهددا إيران بأن أصبعه “على الزناد” وهددها بالويل والثبور وعظائم الأمور، بلغة ركيكة. وعندما راحت السكرة، وجاءت الفكرة، عاد ترامب المعتدل بنبرته الوفاقية ليقول إنه ليس رجل حرب، وليؤكد خلال استقباله ولي عهد البحرين سلمان بن أحمد الخليفة، “لا أريد الحرب مع أي طرف. أنا أفضل عدم التورط في حرب”. في المقابل كان وزير الخارجية مايك بومبيو أول وأسرع مسؤول بارز يوجه أصبع الاتهام إلى إيران، مؤكدا أن الهجوم لم يأت من الأراضي اليمنية، وصعّد من لهجته في بداية زيارته للسعودية وغيرها من دول الخليج ليعلن بقوة أن الهجوم الإيراني هو “عمل حربي”. ولكن مع اقتراب الأسبوع من نهايته، وقبل مغادرته لابو ظبي عائدا إلى واشنطن يوم الخميس، تغيرت لهجة بومبيو وقال إن ما يريده الرئيس ترامب هو التوصل إلى حل سلمي للأزمة مع إيران، وذّكر بأن الولايات المتحدة بقيت متمسكة بالحل السلمي حتى بعد أن أسقطت إيران طائرة الاستطلاع الأمريكية، وبعد أن هاجمت مركز الطاقة العالمية (بقيق وخريص). وأضاف بومبيو أنه زار الخليج في مهمة “ديبلوماسية” لبناء ائتلاف “بهدف التوصل إلى حل سلمي. هذه هي مهمتي، وهذا ما يريدني الرئيس ترامب أن أحققه، وآمل أن ترى الجمهورية الإسلامية في إيران الأمر من هذا المنظور أيضا”.
وبعد ظهر الخميس وضع مساعد وزير الدفاع جوناثان هوفمان في لقاء مع الصحفيين مسؤولية تحديد هوية الجهة المسؤولة عن الهجوم ومن أين جاء على عائق السعودية، التي يساعدها فريق أمريكي من الخبراء الذين يواصلون معاينة المنشأتين، وقال هوفمان “سوف نترك للسعوديين الاعلان عن مصدر الهجوم ومن يتحمل المسؤولية النهائية”. وكان مسؤولون في وزارة الدفاع في الأيام الماضية قد أوضحوا في تسريبات خلفية أنهم نصحوا البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي بالتروي قبل الحديث عن خيارات عسكرية حتمية. ويرى بعض الخبراء أن وزارة الدفاع التي تدير نزاعات عسكرية معقدة في أفغانستان وسوريا والعراق، لا تريد التورط في مواجهة مع دولة كبيرة مثل إيران اثبتت منذ أن غزاها العراق قبل حوالي 40 سنة قدرتها على تحمل أعباء وأوجاع لا تستطيع دول أخرى تحملها.
إيران قادرة على تحمل ضربة عسكرية
وحين سألت روبرت مالي رئيس “مجموعة حل الأزمات الدولية” والمسؤول السابق عن قسم الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي خلال ولاية الرئيس أوباما عن التصريحات المتباينة بين ترامب وبومبيو، أجاب ضاحكا ” وماذا عن التصريحات المتباينة بين ترامب وترامب؟”، وأضاف مالي أن ترامب يريد تفادي مواجهة عسكرية مع إيران والاكتفاء بردود الكترونية وضغوط اقتصادية أكثر، ولكنه قال إن ترامب قد يضطر إلى استخدام القوة بشكل محدود، ويرى أن ترامب يواجه معضلة كبيرة، لأن رفضه لاستخدام القوة سوف يفسر في إيران وفي عواصم المنطقة على أنه مؤشر ضعف “ولكن في المقابل إذا أمر بضربة عسكرية محدودة، فإنه لن يكون قادرا على التنبؤ برد إيران، التي يمكن ان تصعّد أكثر مما يتوقعه ترامب، ما يعني ان الولايات المتحدة ستجد نفسها في حالة حرب مع إيران، وهذا ما لا يريده ترامب والأمريكيون”. ويضيف مالي ” نظريا، ترامب قادر على تفادي الرد العسكري، ولكن الضغوط السياسية والتطورات الميدانية قد ترغمه على القبول بخيار عسكري محدود”.
ويوافق مالي مع ما يقوله محللون عسكريون من أن هناك مؤشرات تقول بأن ايران ربما تحاول استدراج ترامب إلى مواجهة عسكرية لكسر الجمود الراهن، خاصة وأن الثمن الاقتصادي الذي تدفعه الآن بسبب العقوبات الأمريكية باهظ للغاية ولا تستطيع تحمله لوقت أطول. ويرى مالي أن “إيران قادرة على استيعاب ضربة عسكرية محدودة” لانها تدرك ان ترامب لن يشن حربا شاملة ضدها، أكثر مما يمكنها أن تتحمله نتيجة لحصار اقتصادي طويل الأمد. وأظهر الهجوم ضد بقيق وخريص أن إيران قادرة على إلحاق أضرار فادحة بمنشآت النفط على الساحل العربي للخليج، بحيث تحقق مقولتها بأن منع إيران من تصدير النفط يجب أن يؤدي إلى منع الجميع من تصدير النفط من الخليج.
الأسبوع الأول بعد الهجوم الإيراني، لم يزج المنطقة في أتون حرب شاملة لا تريدها الولايات المتحدة ولا حلفائها الغربيين، وتتخوف من مضاعفاتها الجسيمة دول الخليج العربية. وتقول مصادر مطلعة على الاتصالات بين واشنطن وحلفائها العرب في الخليج، ان مسؤولي هذه الدول قد وصلوا إلى قناعة، بسبب تقلبات الرئيس ترامب، وهي أنهم لا يستطيعون الاعتماد على المساعدة العسكرية الأمريكية القوية والثابتة خلال ولاية دونالد ترامب، لأنه كما وصفه الأكاديمي والكاتب ستيفن كوك ” يحمل عصى غير مرئية”. ولهذا فأنهم سوف يدعون إلى إجراءات عقابية ضد إيران، قد تشمل استخدام أساليب الحرب الالكترونية وغيرها من الضغوط، ولكن تفادي حرب تقليدية سوف تكون مدمرة للجميع.