أخيرًا انتهت الانتخابات النصفية الأميركية، بعد فوز السناتور الديموقراطي رافاييل وورناك (Raphael Warnock) ضد منافسه الجمهوري هيرشل والكر (Herschel Walker) الذي اختاره ودعمه الرئيس السابق ترامب، وجدد لنفسه ولاية جديدة في مجلس الشيوخ عن ولاية جورجيا، وأنهى التعادل بين الحزبين في هذا المجلس، وأعطى الديموقراطيين أكثرية 51 مقعدًا، وأكد من جديد قوة الديموقراطيين في الولايات التي حسمت السباق الرئاسي في 2020، والتي من المرجح أن تلعب دورًا محوريًا في انتقاء الرئيس المقبل في 2024.
انتصار السناتور وورناك في الجولة الثانية من الانتخابات في جورجيا يعني أن الديموقراطيين هزموا جميع المرشحين لعضوية مجلس الشيوخ أو لمناصب حكام الولايات الذين انتقاهم أو تبناهم الرئيس السابق دونالد ترامب في تلك الولايات التي فاز بها ترامب في انتخابات 2016، والتي استعادها الرئيس بايدن في 2020، وهي ميتشغان وبنسلفانيا وويسكونسن وجورجيا وأريزونا. إضافة الى المرشحين الجمهوريين الذين خسروا سباقاتهم في هذه الولايات، فإن الخاسر الأكبر هو دونالد ترامب الذي تسبب في هذه الخسائر لأنه اصّر على اختيار ودعم مرشحين يفتقرون إلى المؤهلات والخبرات، ولأنه تبناهم بعد أن وافقوا معه على أكاذيبه وادعاءاته بأن انتخابات 2020 كانت مزورة، وأن الديموقراطيين “سرقوها” منه.
هذه الخسائر أظهرت وجود مقاومة متنامية ضد هذه الأكاذيب ليس فقط في أوساط الديموقراطيين، ولكن أيضًا في أوساط الناخبين المستقلين، وتلك الأقلية الجمهورية التي رفضت ترامب وما يمثله هو وقاعدته المتطرفة، خاصة بعد اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير /كانون الثاني 2021. قاد ترامب الجمهوريين إلى ثلاثة خسائر انتخابية في 2018 و2020 و2022.
هذه الخسائر الانتخابية لمرشحي ترامب، جاءت في أعقاب نكسات سياسية وهزائم قضائية مُنى بها ترامب وعلى أكثر من جبهة، وأظهرت الى أي مدى قد انحسرت مكانته في البلاد بشكل عام، وفي أوساط قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس وفي بعض الولايات المحورية، وذلك بعد ثلاثة أسابيع من إعلانه ترشيح نفسه للرئاسة للمرة الثالثة.
السناتور الجمهوري مت رومني (Mitt Romney) لخّص الشعور المتنامي في أوساط الجمهوريين في مجلس الشيوخ حين قال إن ترامب يجب أن يتحمل جزئيًا مسؤولية الأداء الضعيف للمرشحين الجمهوريين في الانتخابات النصفية، مضيفا “الرئيس ترامب خسر مرة أخرى،” وتابع في نقد لاذع أن دعم ترامب للمرشحين الجمهوريين كان بمثابة “قبلة الموت” لهم.
نجاح الحزب الجمهوري في استعادة السيطرة على مجلس النواب بعد فوزه بتسعة مقاعد، ما أعطاه أكثرية بسيطة – أقل بكثير من معدل خسارة الحزب الحاكم في الانتخابات النصفية في العقود الأخيرة بمعدل 30 مقعدًا في المجلس – لا يقلص أبدًا من حجم الانجاز الذي حققه مرشحو الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ ومناصب حكام الولايات والمجالس المحلية للولايات.
الديموقراطيون قلبوا مقعدًا جمهوريًا في مجلس الشيوخ لصالحهم في ولاية بنسلفانيا، وفازوا بمنصب الحاكم في ولايتين جديدتين. وللمرة الأولى منذ سنة 1934 نجح حزب الرئيس الحاكم في الانتخابات النصفية بزيادة عدد أعضاء حزبه في مجلس الشيوخ ومناصب حكام الولايات. كما فاز الحزب الديموقراطي بالأكثرية في المجالس التشريعية في ولايات جديدة هي ميتشغان ومينيسوتا وبنسلفانيا. هذه النتائج وضعت الحزب الديموقراطي ومرشحيه في وضع جيد نسبيًا في طريقهم إلى الانتخابات التشريعية والرئاسية في 2024.
نتائج الانتخابات النصفية أظهرت، من جملة ما أظهرته أن الناخبين الديموقراطيين الذين يسكنون بأكثريتهم في المدن الكبيرة وضواحيها في البلاد أقبلوا على التصويت بنسب عالية، وهؤلاء يعكسون التنوع الديموغرافي والاجتماعي الذي شهدته الولايات المتحدة في العقود الماضية: الناخبون البيض وغير البيض من حملة الشهادات الجامعية، الأميركيون من أصل افريقي، النساء، العمال والمنحدرين من المهاجرين من دول أميركا اللاتينية وغيرهم من الأقليات. جغرافيًا، أكدت الانتخابات أن الديموقراطيين حققوا في السنوات الماضية اختراقات هامة في الولايات الجنوبية والغربية (مثل جورجيا ونيفادا وأريزونا وكولورادو)، والتي كانت تقليديًا تقف في الصف الجمهوري.
لا يزال الرئيس السابق ترامب يحظى بتأييد أكثرية الناخبين الجمهوريين، وهذا هو السبب الرئيسي الذي يمنع ممثلي الحزب في الكونغرس من انتقاده بشكل علني أو الدعوة إلى تخطيه. ويرى المراقبون المحايدون أنه طالما ظل ترامب مهيمنًا على الحزب الجمهوري فإن الحزب ومرشحيه سيتعرضون لهزيمة انتخابية رابعة في 2024. وإذا فاز ترامب بترشيح الحزب فإنه لن يستعيد دعم الناخبين المستقلين إضافة إلى الجمهوريين المعتدلين. وإذا خسر معركة ترشيح الحزب، فإنه سيدّعي أنه ضحية مؤامرة أو تزوير ما يعني أنه سيضعف مرشح الحزب في الانتخابات العامة. وهناك من يتخوف في الحزب من أن اخفاق ترامب في الحصول على ترشيح حزبه سيدفعه لدخول السباق الرئاسي كمرشح مستقل، وإن كان هذا الاحتمال ضئيل للغاية.
وفي الأسابيع القليلة التي تلت إعلانه عن ترشيح نفسه للرئاسة، تعرض ترامب لنكسات انتخابية وسياسية وقضائية مهينة، بعضها ألحقها بنفسه. في أواخر الشهر الماضي، دعا ترامب مغني الراب كونيي ويست (Kanye West) المعروف بعدائه للسامية واعجابه بهتلر، وكذلك نيكولاس فوينتيس (Nicholas Fuentes) أحد دعاة تفوق الجنس الأبيض، والذي ينفي حدوث المحرقة النازية لليهود خلال الحرب العالمية الثانية، إلى مائدة عشاء في منتجعه ومقر إقامته في مارا لاغو بولاية فلوريدا. ولا يزال ترامب يرفض إدانة المواقف العنصرية لضيفيه على الرغم من الانتقادات والاحتجاجات التي واجهها ولا يزال. وإذا لم يكن هذا الاستفزاز كافيًا، دعا ترامب في الأسبوع الماضي إلى “إلغاء” بعض بنود الدستور الأميركي في سياق مطالبته بإلغاء نتائج انتخابات 2020 وإعادته إلى البيت الأبيض. ترامب طالب بإلغاء بنود الدستور ذاته الذي يفترض بالرئيس الاميركي، وأي مسؤول آخر أن يدلي بقسم اليمين لحمايته والدفاع عنه. ويوم الثلاثاء تعرض ترامب لضربة قضائية حين أصدرت هيئة محلفين في نيويورك حكمها بأن شركة ترامب قد انتهكت القوانين في 17 تهمة تتعلق بالتهرب من دفع الضرائب فيما اعتبرته ” ثقافة احتيال وتضليل” تمارسها الشركة التي تحمل اسم الرئيس السابق منذ سنوات. ومساء اليوم ذاته تعرض ترامب إلى آخر نكسة انتخابية في الانتخابات النصفية بعد هزيمة مرشحه والكر الذي فرضه على الحزب في ولاية جورجيا.
احتقار ترامب للدستور وضيافته لعنصري ومعاد للسامية عرضته لانتقادات من قيادات جمهورية في مجلس الشيوخ، وإن ظلت في سياق الانتقادات الناعمة أو الخجولة، والتي لم تصل إلى مستوى الإدانة المباشرة والقوية أو الدعوة العلنية لنبذ الرئيس السابق والتعهد بعدم دعم ترشيحه.
ولكن هذه الانتقادات الخجولة، وخاصة تلك الصادرة عن شخصيات كانت متفانية في السابق في دعمها لترامب، سوف تشجع أولئك الجمهوريين الطامحين للرئاسة على تحدي الرئيس، أو على الأقل التفكير بتحديه، وهي تصب في التقويم القائل بأن مكانة ترامب في أوساط الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ قد انحسرت بشكل ملحوظ لا يمكن نكرانه.
ولكن التحديات القضائية التي يواجهها ترامب قد تريح الجمهوريين من أعباء التصدي السياسي المكلف للرئيس السابق، خاصة وأنها تتراكم عليه بشكل غير مسبوق. التحقيقات التي تجريها وزارة العدل بدور ترامب في اجتياح مبنى الكابيتول مستمرة، وكذلك التحقيقات الجنائية بمسؤوليته عن الاستيلاء على وثائق رسمية ونقلها ووضعها سرًا في مقر اقامته في مارا لاغو بشكل مخالف للقانون مستمرة، حيث يتوقع بعض المراقبين مقاضاة ترامب رسميًا. ومن المتوقع أن توصي لجنة مجلس النواب الخاصة التي حققت باقتحام الكابيتول وزارة العدل بمقاضاة بعض المسؤولين عن الاقتحام، ويتوقع البعض أن تشمل هذه التوصيات (غير الملزمة قانونيًا، ولكن المهمة سياسيًا) مقاضاة الرئيس السابق. كل هذه التحديات والكبوات تطرح من جديد السؤال القديم-الجديد: هل هذه بداية النهاية لظاهرة ترامب؟
خلال تاريخه السياسي الوجيز والذي بدأ في 2015، تميز سلوك ترامب خارج وداخل البيت الأبيض بسقطات أخلاقية سافرة، وانتهاكات قانونية مذهلة، تتراوح بين الفساد والتهرب من دفع الضرائب إلى التحريض على استخدام العنف أوصلته إلى محاكم عديدة، وتضليل سياسي متعمد وغير مسبوق في تاريخ الرئاسة الأميركية. وكان يعقب كل هذه الانتهاكات تعليقات وتوقعات حول السقوط الحتمي لترامب وظاهرته السياسية. ومع ذلك كان ترامب يفلت من قبضة القانون، أو يتفادى المحاسبة الأخلاقية والسياسية على انتهاكاته وأكاذيبه وتدنيسه للدستور.
من السابق لأوانه القول بثقة كبيرة أن التحديات القضائية والسياسية الخطيرة التي يواجهها ترامب حاليًا قد تشكل بداية النهاية لظاهرة ترامب. ولكن مما لا شك فيه أنها تختلف نوعيًا عن التحديات التي واجهها في السابق. كما أن ترامب يجد نفسه اليوم محاصرًا ومعزولًا بشكل لم يعهده في السابق وهو يراقب بغضب واضح حلفائه وأصدقائه السابقين يتخلون عنه أو يرفضون الدفاع عن تجاوزاته وانتهاكاته واهاناته. ولكل هذه الأسباب لن يكون مستغربًا أن يطرح من جديد السؤال القديم-الجديد: هل هذه بداية النهاية لظاهرة ترامب؟