شهد الأسبوع الماضي تصعيدا غير مسبوق في التوتر بين دول مجلس التعاون الخليجي، وصل إلى حد قيام السعودية والإمارات والبحرين بقطع علاقاتها مع قطر. وبهذه المرحلة يقدم معهد دول الخليج العربية في واشنطن رؤى وتحليلات في التوتر المستمر ويسعى إلى توضيح التداعيات بالنسبة لدولة قطر ودول مجلس التعاون الخليجي المجاورة لها.
تلقي الجهود السعودية والبحرينية والإماراتية الرامية إلى عزل قطر دبلوماسيًا ولوجستيًا عن شركائها في مجلس التعاون الخليجي الضوء على نقاط ضعف هيكلية في العديد من الدول الخليجية إذ لا يقتصر هذا الأمر على قطر فحسب.
وتجدر الإشارة إلى أن ثمة عدد من نقاط الضعف المشتركة بين الاقتصادات الخليجية، والتي تعود بشكل خاص إلى اعتمادها على تحصيل إيراداتها من صادرات النفط والغاز، وتترتب أيضًا عن حقيقة أن هذه الدول لا تنتج بنفسها المواد الغذائية التي تستهلكها، وأنها تتأثر إلى حد كبير جدا بسبب اعتمادها على مدى امكانية توليد الكهرباء لغرض توفير الطاقة وتحلية المياه، وأن جغرافيتها تجعلها سريعة التأثر بالتهديدات التي تطال منافذها الجوية والبحرية، فضلًا عن أن أسواق العمل فيها تعتمد على الأجانب. قد يتم توظيف العقلية الانعزالية والفوقية هذه، كما والتبعية الهيكلية بالضد من مصلحة هذه الدول، إلا أن هذين السببين قد تتسببا أيضًا في اتحادها، لتحقيق الهدف عينه الذي تشكّل مجلس التعاون الخليجي من أجله.
ولعل إحدى أنجح الجهود التي بذلها مجلس التعاون الخليجي لتحقيق التكامل الاقتصادي قد سجّلت على المستوى الفردي، إذ منح المواطنين في كل دولة من دول المجلس حقوقًا متساوية لجهة شراء العقارات، والحصول على الرعاية الصحية وامتيازات الضمان التي تقدمهما الدولة، وقد كرّس حق الفرد في امتلاك شركة وإدارتها بالكامل، والحق في الاستحواذ على ملكية أسهم شركة ما في أيّ من الدول الأعضاء الأخرى. ونتيجة للتوترات الحالية في العلاقات بين قطر وجيرانها في المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة، سيدفع المواطنون الخليجيون ثمنًا باهظًا، ولاسيما في ما يتعلق بحرّية تنقل أولئك الذين يقطنون ويعملون ويتابعون دراساتهم في دولة مجاورة. ولقد أعطت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والبحرين المواطنين القطريين مهلة أسبوعين لمغادرة أراضيها فيما أعطت الدبلوماسيين مهلة 48 ساعة للرحيل.
ويهدد اتخاذ إجراءات انتقامية بحق المواطنين الذين يقطنون ويعملون ويستثمرون في دولة مجاورة، إمكانية تحقيق الهدف المشترك المتمثل في توسيع نطاق النمو في القطاع الخاص في كافة دول مجلس التعاون الخليجي. وعلاوة على ذلك، بات الإحساس المتزايد بالهوية الخليجية بخطر، وهو الإحساس الذي يدفع مواطني المجلس إلى العمل على تكوين هوية خليجية مشتركة، والذي عزّزه تزواج الخليجيين من بعضهم البعض، وإقدامهم على متابعة تحصيلهم العلمي في الخارج، وإقامة العلاقات التجارية. أما بالنسبة إلى طلاب الجامعات، والعائلات الشابة، ورجال الأعمال في الخليج، ستشكّل الأحداث الأخيرة عائقًا أمام عمليات التبادل والسفر لبعض الوقت.
ولعل الثغرة الأكبر والأوضح في الخليج تتمثل في إمكانيات الدولة في مجال الاتصالات الاستراتيجية، ومستوى الثقة الاجتماعية المتبادلة المنخفض داخل المجتمعات الخليجية. ويعبّر أسلوب شراء وتكديس البضائع المتّبع في دولة قطر عن ردود الفعل الطبيعية على الإحساس بالشحة والحصار، إلا أنه ينمّ أيضًا عن انعدام الثقة إلى حد كبير ببيانات الحكومة واستراتيجيتها.
وعلى مر التاريخ، يعتبر مستوى التكامل الاقتصادي لمجلس التعاون الخليجي أقل بكثير مما هو منشود، نظرًا إلى أن التدفقات التجارية بين الدول الخليجية لا تنفكّ تزداد بوتيرة بطيئة. إلا أن ما يتم تداوله بين دول المجلس، ولاسيما من غذاء وغاز، يعتبر حيويًا. ولقد شكّلت مسألة تضخّم أسعار المواد الغذائية مشكلة اعترضت الكثير من الدول، ولاسيما قطر، على مدى العقد الماضي نظرًا إلى تسارع وتيرة النمو السكاني. وستتفاقم هذه المشكلة نظرًا إلى الخطر المحدق بقطر والمتمثل بوقف إمداد دول المجلس لها بالمواد الغذائية الأساسية التي تستوردها منها كالسكر على سبيل المثال. ولا يخفى على أحد أن إغلاق الحدود بين المملكة العربية السعودية وقطر سيصعّب عملية إيصال المواد الغذائية المستوردة، على الرغم من أن مسألة اعتماد قطر على إعادة تصدير المواد الغذائية التي استوردتها من المملكة العربية السعودية هي محدودة النطاق (بحيث لا تشكّل إلا حوالى 10 بالمئة من واردات قطر من المواد الغذائية، وهي بمعظمها من منتجات الألبان). تعتمد قطر على العديد من الشركاء عينهم في تجارة المواد الغذائية الذين تعتمد عليهم دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، مما قد يُشكل عامل ضغط إضافي يتم استغلاله ضد قطر في حال تشديد التدابير الانتقامية. وقد يجد الشركاء التجاريون أنفسهم مجبرين على الإنحياز لصالح فريق من الفريقين، مما سيزيد من عزلة قطر ويؤدي إلى تثبيط عزيمة كل من قطر وأولئك الشركاء عن إبرام الاتفاقيات الثنائية فضلًا عن تثبيط تدفقات العقود المبرمة مع القطاع الخاص.
وتشكّل مسألة إيصال صادرات الغاز من قطر إلى الإمارات العربية المتحدة فإلى سلطنة عُمان عبر خط أنابيب دولفين مشكلة أخرى مثيرة للقلق، بالنسبة إلى المتلقّين أكثر منها إلى المصدّرين. تعتمد الإمارات العربية المتحدة على الغاز المستورد في توليدها للكهرباء. وفيما لا يزال العقد نافذًا، ثمة ثغرة كامنة في إيصال الغاز عبر خط أنابيب دولفين من منبعه في المياه القطرية.
وثمة مسألة أكثر إلحاحًا تتمثل في التخوف من أن يؤثر إغلاق الحدود سلبًا على صادرات الغاز من قطر، وعلى عمليات إيصال منتجات وقود (الديزل) ذات الصلة وإعادة تزويد ناقلات الغاز الطبيعي المسال، التي تنقل البضائع من الخليج إلى آسيا. ونظرًا إلى أن الناقلات تعبر الخليج وتدور حول عمان، لتتوقف بشكل روتيني في العديد من الموانئ، أعلن رئيس مرفأ ميناء الفجيرة في الإمارات العربية المتحدة أنه لا يُسمح لأي سفينة يرفرف عليها علم دولة قطر أو أي سفينة متجهة إلى أي من المؤانئ القطرية أو قادمة منه، أن تتوقف في ميناء الفجيرة أو مرسى الفجيرة، بغض النظر عن طبيعة توقفها في أي منهما. وأعلنت شركة “ميرسك”، التي تعدّ أضخم خط ملاحي لشحن الحاويات، أنها لم تعد تستطيع أن تنقل البضائع إلى داخل قطر أو إلى خارجها بعدما فرضت الدول العربية قيودًا على التجارة مع هذه الدولة الخليجية.
المصدر: شركة دولفين للطاقة
أما في ما يتعلق بالوساطة المالية، فقد شهدت قطر على ما حلّ بسوق الأسهم فيها يوم الإثنين، إذ تراجعت التجارة في أسهم كل من المصارف وقطاع الاتصالات ومقدمي الخدمات العامة بنسبة 10 بالمئة. ووفقًا لوكالة رويترز، افتتح بنك قطر الوطني مؤخرًا مكتبًا للبيع بالتجزئة في الرياض وكان يعتزم أن يتقدم بطلب يخوّله أن يعمل كبنك استثمار في المملكة العربية السعودية. ولم يتّضح حتى هذه الساعة كيف ستعامل السلطات السعودية والإماراتية والبحرينية الشركات القطرية، ولاسيما تلك التي تربطها علاقات بالدولة أو التي تعود ملكيتها بشكل كامل إلى الدولة. ووفقًا لرويترز، يعتزم مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي تعميم تعليمات “تصفية” على المصارف والشركات التي تتمتع بعلاقات مع قطر. أما بالنسبة إلى المصارف القطرية، فقد يخلق هذا الأمر بعض المشاكل في ما يتعلق بالسيولة والتمويل المشترك بين المصارف في دول خليجية أخرى. وفقًا لتقرير بحثي صادر عن شركة ستاندرد تشارترد بتاريخ 6 حزيران/يناير، ارتفعت الديون الخارجية للمصارف القطرية إذ باتت تشكّل نسبة 35 بالمئة من مجموع ديونها لعام 2017، بعدما كانت تشكّل 23 بالمئة منها في نهاية العام 2014. وتتألف هذه الديون من الاقتراض بين المصارف وودائع غير المقيمين.
أما خطوط النقل الجوي فهي الأكثر تضررًا على الفور، إلا أن الوقت ما زال مبكرًا لتحديد الخسائر التي ستتكبدها شركة الخطوط الجوية القطرية ومدى زيادة إنفاقها على الوقود نظرًا إلى المسارات الجديدة التي لا بدّ أن تسلكها لتتجنب التحليق فوق الدول المجاورة لقطر. وستؤثر التداعيات المتراكمة لانخفاض سفر رجال الأعمال بين العواصم الخليجية والمحاور المالية في الدوحة وأبوظبي ودبي، سلبًا على الفنادق وشركات البيع بالتجزئة في قطر، وستعرقل عمليات التوظيف في الشركات الخدماتية المهنية.
ويبدو جليًا أن ثمة حاجة ملحّة للتوصل إلى حلّ دبلوماسي في مكامن الضعف هذه لوضع حدّ للمواجهة بين قطر وكل من المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة شركائها في مجلس التعاون الخليجي. وعلى الرغم من ذلك، ستتقلّص الجهود الرامية إلى إقامة علاقات اقتصادية وأخرى بين شعوب دول الخليج، حتى وإن تم التوصل بسرعة إلى حل للمأزق الحالي.