تشهد الكويت قريباً الذكرى الثانية لتولي كل من أمير الكويت وولي العهد السلطة والتي يرافقها تغيّر في مؤسسات الدولة: رئيس وزراء جديد وحكومة جديدة بالإضافة إلى البرلمان الذي سينتخب في الأسابيع المقبلة وتعيين مرتقب لنائب عام جديد للدولة. جاءت هذه الإجراءات كنتيجة لخطاب أمير البلاد الشيخ نواف الأحمد الصباح في يونيو/حزيران – الذي ألقاه ولي العهد الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح. عُد الخطاب بمثابة مؤشر لمقاربة جديدة تنتهجها الكويت: مقاربة تميزت حتى الآن بـ “وقفة تأمل ومصارحة ومراجعة للنفس”، لكنها لا تحول دون إمكانية اتخاذ “اجراءات ثقيلة الوقع والحدث” حسب ما ورد في الخطاب.
تضمن خطاب يونيو/حزيران العديد من المواقف التي تتخذ لأول مرة. أكد الأمير في مستهل خطابه، بصورة مفصلة، التزامه الصارم بالدستور، وأنه لن يتخذ أي خطوات قد تتعارض مع الدستور. ثانيًا، شدد الأمير على عدم تدخل قيادة الدولة في الانتخابات المقبلة، بما في ذلك انتخابات رئيس مجلس الأمة. ثالثًا، سلط الأمير الضوء على موقعه الدستوري باعتباره فوق السلطات الثلاث، مؤكدًا على حصر الإدارة المباشرة في البلاد في السلطتين التنفيذية والتشريعية. رابعًا، انتقد بشكل واضح أداء الحكومة. خامسًا، وضع الأمير القرار الذي اتخذه بحل مجلس الأمة في إطار استجابته للمطالب الشعبية. وأخيرًا، والأهم من ذلك كله، أن الخطاب تضمن إشارة مبطنة إلى “إجراءات ثقيلة” قد يتم اتخاذها إذا كانت هناك عودة “إلى ما كنا عليه”، في إشارة إلى ما تشهده البلاد في السنوات الأخيرة.
كان الموضوع الرئيسي الذي أبرزه الخطاب هو “عملية تصحيح مسار المشهد السياسي” للكويت، وهي العبارة التي جاء الخطاب على ذكرها أكثر من مرة. لكن السؤال المطروح هو: هل يمكن إرساء هذا المسار دون إصلاحات جذرية من قبل قيادة البلاد؟ وإذا استمرت حالة الجمود والركود بعد الانتخابات، فهل سيكون هناك رغبة ومبرر لـ “اجراءات ثقيلة الوقع والحدث” التي قد تخرج الكويت عن توازنها الدستوري؟
استراتيجية التوقف للمراجعة؟
تُعتبر الكويت إمارة دستورية ذات مسار متباين عن النظم السياسية بشكلها المعتاد. وهو ما جعلها مساحة للتجاذبات المستمرة في منظومتها الداخلية، وتسعى الكويت جاهدة إلى مزج عناصر من النظامين الرئاسي والبرلماني في جغرافيا غير معتادة على أي منهما.
كان انتقال الحكم في البلاد في عام 2020 بمثابة فرصة لتبني مسار جديد. لكن استمرار العمل بنفس النهج – الذي وضعه إلى حد كبير الأمير الراحل- كان خطوة مرحلية مغرية لاقتراب موعد الانتخابات. فبدلاً من أن تفضي نتائج انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2020 إلى تحديد آلية توزيع المناصب القيادية، ظل رئيس الوزراء ورئيس مجلس الأمة في منصبيهما. ومع ذلك، فقد كانا على خلاف مع المعارضة البرلمانية المتنامية؛ الأمر الذي انعكس على التوترات السياسية عام 2021.
في الوقت الذي انخرطت فيه السلطتان التنفيذية والتشريعية في مشاحناتهما المعتادة، كانت القيادة الجديدة تعمل بهدوء على وضع أساسيات المرحلة الانتقالية مع تعيين وجوه جديدة في الديوان الأميري وفي مواقع أخرى، بعد مغادرة الكثير ممن تم تعيينهم من قبل الأمير الراحل. كانت اللحظة الانتقالية البارزة الثانية هي مصادقة الأمير على الحوار الوطني، وقيامه فيما بعد بمنح عفوٍ لـ 36 شخصًا. ورغم التوقعات المتفائلة للحوار الوطني، لم تكن النتائج بمستوى تلك التوقعات، ويعود ذلك إلى أن الطبقة السياسية التي تسببت في التوترات السياسية هي نفسها التي هيمنت على مجريات الحوار. وبالتالي، فإن محاولات التوصل إلى تسوية لم تسفر عن تغيير جوهري في البيئة السياسية المتقلبة للبلاد.
وبصرف النظر عن فرصة الحوار الضائعة، إلا أن هذه الخطوة قد أعطت متنفسًا للبلاد والطبقة السياسية. شهد العام 2021، العام الأول للأمير في السلطة، مرحلتين متباينتين. قوبل التصعيد غير المسبوق في الأشهر الستة الأولى بتراجع كبير في التصعيد خلال الجزء الأخير من عام 2021. لكن العودة إلى العمل بالطريقة المعتادة في عام 2022 كانت أمرًا حتميًا لأنه لم يكن هناك حوار شامل ولا عفو كامل على وشك التحقق، ولم تتم معالجة الأسباب الجذرية للتوترات.
قد يكون لنمط التكرار (تشكيل حكومة، يعقبها استجوابات، ثم استقالة تلك الحكومة) دورٌ أيضًا في استياء قيادة البلادة الجديدة، وهو ما حفز ظهور مقاربتها المختلفة بدءًا من التريث؛ فالحكومة ومجلس الأمة استمرا غير فاعلين لفترة خاصة منذ استقالة الحكومة في أوائل أبريل/نيسان. وسواء كان مقصودًا أم لا، فإن هذا التريث هو أداة جديدة في نظام أصبحت مساراته المتكررة سمته الرئيسية. وتخدم استراتيجية التوقف للمراجعة أهدافًا متعددة، ويمكن قراءتها بطرق مختلفة. اعتبر نواب المعارضة في مجلس الأمة السابق أن التوقف يشكل اعتداء على الدستور وينذر بتعليق بعض بنوده. أدى ذلك إلى مشاركة أغلبية أعضاء مجلس الأمة السابق في اعتصام منظم في البرلمان، واستضافة ندوات حضرها الكثيرون في ديوانياتهم عبر الدوائر الانتخابية الخمس.
لقد ركز خطاب يونيو/حزيران على بعد آخر، إذ أفسح المجال” لوقفة تأمل ومصارحة ومراجعة للنفس” ما أسفر عن صياغة مقاربتها. كما حاولت استراتيجية التوقف هذه وضع حد للتقلبات الدورية التي أدمن عليها النظام السياسي. وفي مقابل لجوء الأمير الراحل المتكرر إلى حل البرلمان والتسمية الفورية لرؤساء الوزراء وغيرهم من المسؤولين، يأتي التريث على الطرف الآخر من هذه السياسة المعتادة. استخدمت القيادة الصبر كأداة سياسية على أمل تهدئة التوترات، وتوفير متنفس لجميع الأطراف لتذكر واستيعاب الغايات التي يصبو إليها النظام السياسي في الكويت على النحو المنصوص عليه في الدستور. أدى ذلك، على سبيل المثال، إلى تشكيل بطيء لأربع حكومات تحت نظر القيادة الجديدة في أقل من عامين، ولم تلجأ فورًا لحل مجلس الأمة، حتى وإن كان ذلك يعني تبني مسارًا ثالثًا لا يتجاهل نص الدستور ولا يطبقه على الفور.
تذهب العديد من تحليلات المراقبين للمشهد الكويتي للقول بأن خطاب يونيو/حزيران قد أنهى توترات البلاد، لكن الخطاب لم ينهِ حالة التوقف. وعمل بدلاً من ذلك على تبريرها ووضع لها خارطة طريق، الأمر الذي كشف عن مقاربة جديدة في طور التكوين تتسم بمسارين: أحدهما “التوقف للمراجعة” والآخر “اجراءات ثقيلة الوقع والحدث”.
تطوير إدارة الدولة من خلال اصلاحات جذرية
استراتيجية التوقف وحدها غير كافية لتغيير مسار الكويت إلى الأفضل. وقد تمت الإشارة إلى هذا الأمر ضمنيًا في الخطاب – حيث وضع الانتخابات القادمة في إطار الفرصة الأخيرة لتجنب الوضع القائم قبل اللجوء إلى التدابير الأخرى التي ذكرها الخطاب. إن النظام السياسي، والممارسات السيئة في الماضي، والثقافة التي أعقبت ذلك تجعل الحال أقرب لإعادة إنتاج الصراع (الوضع القائم) أكثر من المصالحة. إن مطالبة الشعب بـحُسن الاختيار في الانتخابات المقبلة، إن لم تكن مصحوبة بإصلاحات شاملة وجذرية، ليست سوى إعادة إنتاج نفس الوضع الراهن. ليس لقلة وعي الكويتيين بالتحديات التي تواجههم– خصوصًا أن غالبية الشعب من جيل الشباب الواعي– ولكن لأن تقليص حريات التعبير، وتقييد القوانين الانتخابية، وتعدد الهويات التي تتنافس مع الهوية الوطنية لا تمنحهم الفرص الكافية لتحقيق تطلعاتهم كما يجب.
تعد الدعوة للوحدة الوطنية خطوة في الاتجاه الصحيح من الناحية السياسية، ولكنها غير مفيدة إن لم يكن هناك سياسات حكومية حازمة تدعمها وتدفعها قدمًا. إن إرث سوء الإدارة والسياسات غير الحكيمة يحتاج إلى وقت للمعالجة ولا يمكن محوه في غضون أسابيع تسبق الدورة الانتخابية التي ستشهدها البلاد. لهذا السبب ربما جاء الخطاب ليمهد الطريق لإصلاح المنظومة السياسية إذا ما ظهر النزاع مرة أخرى بعد تنصيب الحكومة وانتخاب مجلس الأمة المقبلين. وسوف تأتي التوترات الجديدة كنهاية لاستراتيجية التوقف المطولة التي ميزت العامين الماضيين إلى حد كبير.
يمكن للحكومة الجديدة أن تفعل الكثير خلال المرحلة الراهنة لتفادي الانتقال إلى الإجراءات التي تم التلويح بها في خطاب الأمير. يجب على الحكومة أن تدعم إصلاحات جذرية، مثل إلغاء القوانين التي تقيد الحريات؛ والتغيير الإداري الشامل: بإلغاء ديوان الخدمة المدنية، وتعديل نظام التوظيف في القطاع العام؛ وإعادة توجيه آلية توزيع الثروات بالتقسيم العادل للريع عن طريق الأسهم وليس الرواتب؛ وإجراء تغييرات في إدارة المؤسسات، خاصة على مستوى الوكلاء والوكلاء المساعدين؛ وتكليف الشباب بالملفات الحساسة؛ والسعي للحصول على عفو عام من الأمير في القضايا ذات الطابع السياسي؛ والعودة للعمل بقانون الانتخابات لعام 2006 مع تمهيد الطريق لإصلاحات شاملة في قانون الانتخابات تمهد وتنظم عمل الأحزاب السياسية؛ وتحرير الأراضي والبدء الفوري بالمشاريع الإسكانية؛ وإلغاء قانون المناقصات ونظام الكفيل. والأهم من ذلك كله، إعادة صياغة قانون الجنسية لحل قضايا المواطنة المتعلقة بمجتمع البدون. ويجب العمل عبر حملات الضغط لتمرير هذه المقترحات داخل مجلس الأمة، وتنفيذها بشفافية من قبل فريق حكومي نشط يتمتع بالقدرة والتكامل.
ما يمكن لمجلس الأمة القادم أن يفعله في غضون ذلك هو تجنب شخصنة السياسة، والعمل على برنامج واقعي للإصلاح، وتلبية نداء الأمير بالتعاون مع السلطة التنفيذية. يمكن لكل ذلك أن يُترجم إلى سلوكيات مختلفة، مثل تجنب الاستجواب المبكر لرئيس الوزراء الجديد. ولكن لا يمكن لمجلس الأمة القيام بذلك إلا إذا كان هناك على الجانب الحكومي شريك لديه الإرادة – رجل دولة قادر على وضع تصور للكويت الجديدة والعمل على تنفيذه.
المضي قدمًا نحو “إجراءات ثقيلة الوقع والحدث“؟
عدم الاستقرار والجمود اللذان يخيمان على البلاد يحتّمان الأمل الحذر على ضوء المقاربة الجديدة. لكن الأحداث السابقة، وانتشار نمط العمل التقليدي، وتعقيدات النظام السياسي الكويتي، تشير إلى أن السلطة التنفيذية لن تقدم ما هو مطلوب في الوقت المناسب، ولن يتخلى مجلس الأمة بسهولة عن سلطته الرقابية. وهذا قد يعني نهاية استراتيجية التوقف والعودة للوضع القائم: تعثر جديد وحكومة غير فعالة ومجلس أمة تتخطفه النزاعات. وقد تشهد الكويت بعد ذلك المسار الثاني من المقاربة الجديدة –
“الإجراءات الثقيلة” – التي تمت الإشارة إليها في خطاب يونيو/حزيران. سوف تأتي عملية إعادة الضبط بعد استنفاد استراتيجية التوقف، وسوف تتجنب نمط التكرار عديم المعنى.
إحدى القراءات المحتملة للإجراءات الثقيلة هي اللجوء للأحكام العرفية (أو المادة 69 من الدستور). تم الإعلان مرتين عن الأحكام العرفية: في عام 1967 لمدة سبعة أشهر في خضم الحرب العربية-الإسرائيلية، وفي عام 1991 لمدة ثلاثة أشهر بعد تحرير البلاد من احتلال العراق. لم يحدد الدستور أحوال الضرورة التي قد تستدعي الأحكام العرفية، وتركها للقانون رقم 22 لعام 1967. أربعة من السيناريوهات الخمسة التي تبرر فرض الأحكام العرفية تتعلق بالأمن أو التهديدات الخارجية. تتضمن المادة الأولى بشكل واضح سيناريو خامس: الاضطرابات الداخلية. لذلك، فإن الأحكام العرفية في الأشهر المقبلة ليست بعيدة المنال إذا طفت التوترات على السطح من جديد، وعاد نمط التكرار في الكويت مرة أخرى.
تنص المادة 69 على ضرورة موافقة مجلس الأمة على هذا الاجراء خلال 15 يومًا إذا كان منعقدًا أو في أول جلسة له بعد ذلك. وفي غضون ذلك، تعمل المادة 181 على تحصين مجلس الأمة من الأحكام العرفية، حيث لا يُسمح بتعطيله. ولكن من الممكن حل مجلس الأمة قبل إعلان الأحكام العرفية مباشرة، ليدخل بعد ذلك حيز التنفيذ تعطيل بعض بنود الدستور بموجب الأحكام العرفية في المادة 181. وهذا يعني أنه قد يمر شهران من الأحكام العرفية دون إشراف من مجلس الأمة إلى أن تجري الانتخابات وفقًا للمادة 107. وهذا السيناريو المحتمل قد يكتنف مضامينه بعض التغيرات، ويعتمد ذلك على البنود الدستورية المحتمل تعطيلها ومدتها الزمنية.
إذا حدث ذلك دون طرحه للنقاش في مجلس الأمة ومع المجتمع المدني وفي غياب خارطة طريق واضحة تتضمن إصلاحًا جذريًا خلال مرحلة الأحكام العرفية، فمن المرجح أن تقود هذه الخطوة إلى استياء شعبي. تبقى هذه السيناريوهات افتراضية في ظل غياب التوجيهات الواضحة حول هذه القضية، ولكنها تبرز أهمية خطاب يونيو/حزيران لما نص عليه بوضوح، والأهم من ذلك هو ما نص عليه ضمنيًا.
حقبة جديدة من الأمل المرتقب تنتظر الكويت
تحمل مقاربة الكويت الجديدة في طياتها إيذانًا بإمكانية الدخول في حقبة جديدة، من شأنها أن تؤدي إما إلى تغيير جذري نحو الأفضل، أو إلى مزيد من التقهقر، أو ترسيخ حالة الجمود الراهنة. ولكن لا يمكن تجاهل التحديات الكبيرة التي تنتظر الكويت والمشاركة السياسية الشعبية في المنطقة بشكل عام.