يقال إن أفضل الصيادين يتمتعون بالصبر والمثابرة على حد سواء، ومتيقظون للظروف الناتجة عن جولاتهم السابقة. عاش صباح الأحمد الصباح، الذي أُعلن عن وفاته في 29 سبتمبر/أيلول، حياته كاملة في قلب السياسة الكويتية – وزيراً للخارجية، ورئيساً للوزراء، وأخيراً أميراً – وكان صياداً بارعاً. بصفته دبلوماسياً، ورجل دولة خليجية يفتخر بها ولكنها صغيرة، فقد عمل بصبر للاستفادة من اقتصاد النفط الكويتي والحنكة التجارية ومهارات الوساطة لتحقيق نفوذ أكبر في المنطقة وعلى المسرح العالمي. وكان هذا الإصرار نفسه مطلوباً في الداخل، حيث غالباً ما تحبط السياسات الخلافية بين مختلف أطياف السياسة الكويتية المتنوعة الإجماع الوطني، وتغري ملوك الدول المجاورة غير المرتاحين للنموذج البرلماني الكويتي للتدخل في شؤون البلاد. سوف نفتقد اليد المخضرمة لرجل عُرف بحبه للصيد أثناء إبحار الكويت في مياه الخليج المتلاطمة اليوم.
الدبلوماسي الكويتي
كانت المسيرة الدبلوماسية لصباح الأحمد طويلة بشكل استثنائي. خلال السنوات الأربعين التي قضاها وزيراً لخارجية الكويت، أظهر تقديراً لقيود الكويت، لكونها دولة صغيرة، واتبع أجندة فاعلة للتعويض عن تلك القيود. كان رائداً في السياسة الكويتية في الحفاظ على علاقات جيدة مع مجموعة كبيرة من الدول، وتحقيق التوازن ما بين القوى العظمى وبين تأييد الحركات العربية وحركات عدم الانحياز. تحتفظ وزارة الخارجية الكويتية التي تأسست في عهد صباح الأحمد ببعثات خارجية مكثفة مقارنة بحجمها، بينما تدعم في الوقت نفسه الدول الأجنبية للإبقاء على سفاراتها في الكويت.
لطالما روّج صباح الأحمد لدور الكويت الإنساني المكثف. ففي الآونة الأخيرة، ساهمت الكويت في استقرار المنطقة من خلال استضافتها مؤتمرات دولية للمانحين لسوريا والعراق، إضافة إلى تقديمها أشكالاً أخرى من المساعدات المباشرة. حملت قيادة الكويت الراسخة في هذا المجال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على الاعتراف بصباح الأحمد كقائد إنساني في عام 2014.
ومع ذلك، فإن مستوى التواصل الفعال للكويت لم يقضِ على نقطة ضعفها – وهذا ما اتضح بشكل جلي من غزو العراق واحتلاله للكويت في عام 1990، والذي كاد يكلّف الكويت سيادتها. لقد عززت هذه التجربة الأليمة من تقدير صباح الأحمد للولايات المتحدة والمجتمع الدولي، الذين هبوا للدفاع عن الكويت. وعمقت الكويت تعاونها العسكري والسياسي مع الولايات المتحدة، وهي شراكة اعترفت بها مؤخراً إدارة الرئيس دونالد ترامب، والتي منحت الأمير وسام الاستحقاق الأمريكي، برتبة القائد الأعلى. ودعم صباح الأحمد تحمس الكويت للمشاركة في المؤسسات المتعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة. كما لعب إيمانه بالتعددية كوسيلة لتعزيز أمن الكويت دوراً بارزاً على المستوى الإقليمي. لقد كان القوة المحورية وراء إنشاء مجلس التعاون الخليجي في عام 1981، وكان أقوى المدافعين عنه.
لقد تعزز هذا الالتزام بالتعددية من خلال الوساطة الكويتية الفاعلة لحل النزاعات الإقليمية. وفي مواجهة التوترات الخليجية المتصاعدة مع الجارة إيران، واصل صباح الأحمد البحث عن انفراجات دبلوماسية، حيث سافر شخصياً إلى إيران في عام 2014 وأطلق حوارًا مع الجمهورية الإسلامية في عام 2017. وشعر صباح الأحمد بقلق عميق جراء تعمق الخلاف بين دول الخليج، الناتج عن مقاطعة قطر بقيادة السعودية والإمارات. لقد كافح أكثر من أي شخص آخر لإيجاد صيغة من شأنها إنهاء هذا النزاع الذي يهدد بفقدان مجلس التعاون الخليجي أهميته.
والد الكويت
في عام 2003، عهد الأمير جابر الأحمد الصباح إلى صباح الأحمد بقيادة الحكومة، وهو المنصب الذي كان تقليدياً يشغله ولي العهد. وبصفته رئيساً للوزراء، تحول صباح الأحمد من التوسط بين الدول إلى إدارة الخلاف بين الفصائل السياسية الكويتية المتنافسة. لقد أثبت نفسه كسياسي ماهر. في عام 2005، لعب صباح الأحمد دوراً مركزياً في رعاية إقرار حق المرأة في التصويت في البرلمان، بعد ست سنوات من رفض مجلس الأمة منح المرأة الحقوق السياسية بفارق صوتين. وقد تجلت هذه المهارة السياسية نفسها، عندما نجح في إدارة المداولات العائلية والبرلمانية ليبرز كخليفةً لجابر الأحمد وأميراً في عام 2006. وقد تمت هذه الخلافة غير التقليدية بعد أن تم اعتبار ولي العهد، سعد عبد الله السالم الصباح، غير لائق. وتم عزله من منصبه ما فتح الباب لصباح الأحمد.
كان يبدو أن المنافسة الحادة التي أوصلته إلى قمة السلطة في الكويت قد تضاءلت بمجرد تحقيقه لذلك. وبصفته أميراً، تولى صباح الأحمد دوراً أكبر في تحقيق التوازن، حيث كان هو المحكم في النزاع بين منافسيه من الجيل التالي، والحد من التوترات الاجتماعية والسياسية المتزايدة بين التجار والشعبويين والليبراليين والإسلاميين والشيعة والسنة. وعلى مدار العقد الماضي، كان هناك ترسيخ للمصالح المالية في البلاد، وعودة العائلات التجارية البارزة إلى البرلمان، وصاحب ذلك تزايد في الشعبوية كرد فعل. أما الاحتجاجات الشبابية التي اندلعت في عام 2006 فقد ازدادت ضراوة في 2010-2012، منتقدين الأمير لبعض السلبية في مكافحة الفساد داخل عناصر النخبة الحاكمة، وعدم الإصرار بما يكفي لإجراء إصلاحات طارئة لحكومة الكويت المتضخمة في مواجهة التحدي المتمثل بمستقبل ما بعد النفط.
ومع ذلك، ومع التهديدات التي تشكلها الاضطرابات الإقليمية باكتساح الإمارة الصغيرة، حظيت نداءات الأمير المتكررة بضبط النفس السياسي والحفاظ على الوحدة الوطنية بالمزيد من الترحيب. وقد تجلى هذا الأمر بشكل أكبر في عام 2015، عندما تعرضت الكويت لأسوأ هجوم منذ حرب الخليج، وهو تفجير انتحاري قام به مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) لمسجد الإمام الصادق، والذي أسفر عن 27 قتيلاً. كان وصول الأمير إلى المسجد حيث كان الأمن قد وصل للتو، واحتضانه العاطفي للمصلين الشيعة الذين سقطوا كأبنائه، من أعظم مواقفه القيادية، وأتبع ذلك الصلاة في المسجد الكبير بالكويت تجسيداً للوحدة الوطنية في وجه العنف الطائفي الذي يسمم المنطقة.
وقد تزايد هذا التقدير لحنكة الأمير السياسية بشكل أكبر في تعامله مع أزمة الخليج، ووضع الكويت بعيداً عن منافستها قطر ودول المقاطعة الأربع، لتتولى دور المدافع عن مجلس التعاون الخليجي والتضامن الخليجي.
مستقبل الكويت
سيعمل رحيل صباح الأحمد على دفع الكويت إلى عدد من التحولات ذات الصلة، والتي قد تكون محفوفة بالمخاطر. إذ إنه من دون الدور المتوازن للأمير، فإن بعض الخصومات المحلية والإقليمية تهدد بالخروج عن نطاق السيطرة.
من المتوقع أن يتولى ولي العهد الأمير نواف الأحمد الصباح القيادة، وقد يوفر فترة من المستحسن أن تكون متنفساً للوحدة في المرحلة الانتقالية. ومع ذلك، ولكونه في الثالثة والثمانين من العمر، ومن دون أي برنامج وطني واضح، فمن غير المرجح أن ينجح حكمه في ردع المنافسة الشديدة الجارية بالفعل للمطالبة بلقب خليفته.
لقد جرى هذا الصراع منذ عقد من الزمان في منافسة علنية مفاجئة، في البداية بين أبناء أشقاء الأمير المتنافسين، رئيس الوزراء السابق ناصر المحمد الصباح، ووزير التخطيط السابق وأحد الأقارب الأبعد نسبياً، أحمد الفهد الصباح. يُعتقد أن حملتهما العلنية أضرت بكليهما، على الرغم من أن ناصر المحمد أنشأ شبكة هائلة من المؤيدين في العائلة والدوائر السياسية، ولا يزال على تواصل نشط مع المجتمع الدبلوماسي الدولي. ومن المرجح أن يكون منافسه الرئيسي اليوم هو الأكبر منه في عائلة الصباح الحاكمة، نائب رئيس الحرس الوطني، مشعل الأحمد الجابر الصباح، الذي يتمتع بميزة بالمعايير التقليدية. ومن الفارقات إن الدور الخارجي تم توليه من قبل نجل الأمير، ناصر صباح الأحمد الصباح، الذي قام بشن حملة عامة لمكافحة الفساد الحكومي. أدى ما كشف عنه ناصر صباح من اختلاس في عهد سلفه وزير الدفاع إلى إسقاط الحكومة الأخيرة، وأفقده منصبه الحكومي. وفي الآونة الأخيرة، كان يحث على محاكمة كبار أفراد العائلة المالكة، بمن فيهم نجل رئيس الوزراء السابق، لتورطه في فضيحة ماليزيا للتنمية بيرهاد-1، أو 1MDB.
ما تنفرد به الكويت من بين الممالك الخليجية، هو أن للبرلمان كلمة في هذا الانتقال للسلطة: يمنح الدستور الكويتي البرلمان الحق في الموافقة على اختيار الأمير لولي العهد، وفي حالة الرفض، يتم الاختيار من بين ثلاثة مرشحين آخرين على الأقل يقترحهم الأمير. وهذا من شأنه أن يحول النفوذ إلى رئيس مجلس النواب، الذي يتمتع بشخصية كاريزمية، مرزوق الغانم، وربما أيضاً إلى رئيس الحكومة الحالي، وزير الخارجية السابق صباح الخالد الصباح. وقد كان الاثنان في وقت ما على خلاف.
وبصرف النظر عن الفائز من بين المتنافسين الرئيسيين، سيكون للكويت أمير وولي عهد يزيد عمرهما عن 70 عاماً. وهذا يتناقض مع شعب الكويت الذي يغلب عليه الطابع الشبابي، ويضع الكويت خارج نطاق صعود الأمراء الشباب في المنطقة، الأمر الذي وضع القادة الطموحين في الصدارة في كلٍ من الإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية. وقد أظهر هؤلاء القادة قدراً أقل من المبالاة لكبار السن وإصراراً أكبر في التأكيد على المصالح الوطنية خارج مظلة الأمن الأمريكية. وقد تضمن ذلك استعداداً لتحدي الأُسر الخليجية الحاكمة بشكل مباشر، ويتجلى ذلك في الإدانات التي تقودها السعودية والإمارات للقيادة القطرية. كانت هذه المنافسات الإقليمية أحياناً تهدد بإيقاع الكويت في شرك، ويتجلى ذلك بوضوحٍ في حملات وسائل التواصل الاجتماعي، حيث لم تتراجع الحسابات الوطنية المقربة من السلطة في هذه الدول عن التعليقات التي تنتقد السياسة الداخلية في الكويت. ويأتي هذا النوع من التدخل الإعلامي في وقت حساس، لإثارة شبح تأثير الحملات الخليجية في الكويت، وما يمهد الطريق لهذه الاحتمالية هو انفتاح النظام السياسي الكويتي والجدال.
من المؤكد أن الكويتيين سوف يلتفون حول نواف الأحمد، وهو الشخصية الشعبية التي يُنظر إليها خارج الخصومات السياسية السائدة. ولكن مع احتدام التنافس على الخليفة، يبقى أن نرى ما إذا كانت القيادة الكويتية ستمتلك العزم على الحفاظ على تلك المساحة السياسية الداخلية التي تنفرد بها داخل الخليج، والمهارات اللازمة لتنفيذ نهج مستقل يزيد من امتيازات الكويت في الشؤون الخارجية دون استفزاز الدول القوية المجاورة.