تواصل السلطات الأميركية محاولاتها لاحتواء الأضرار السياسية والاستخباراتية الناجمة عن تسريب مئات الوثائق الاستخباراتية الحساسة من وزارة الدفاع، ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك توفير الأجوبة للرأي العام وللكونغرس وللحلفاء، خاصة وأن التسريبات كشفت عن اخفاقات في الحفاظ على سرية هذه الوثائق، وأحرجت الحكومة الأميركية لأن الوثائق أكدت – مرة أخرى – أن واشنطن تتجسس على حلفائها كما تتجسس على خصومها.
المسؤولون الأميركيون يؤكدون في إيجازاتهم الخلفية للصحفيين أن الوثائق بشكل عام صحيحة، وإن تم تعديل بعضها لاحقًا بعد الاستيلاء عليها، وخاصة الوثائق التي تكشف عن حقيقة عدد الخسائر الروسية في أوكرانيا، والتي يبدو أن الاستخبارات الروسية زورتها قبل نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي لجهة تخفيف أعداد الخسائر الروسية كجزء من حملة تضليل روسية. ولهذا السبب حض المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي، على توخي الحذر، قائلا، “نحن نعلم أنه على الأقل في بعض الحالات تم التلاعب في بعض المعلومات”.
خلال العقدين الماضيين واجهت الولايات المتحدة اخفاقات استخباراتية مماثلة، كان أبرزها تسريبات ويكيليكس قبل 13 سنة لآلاف المذكرات الديبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية، وكشفت طبيعة عمل سفارات واشنطن في العالم، وتقويمات سفرائها الصريحة لحكومات الدول المعتمدين لديها، بمن فيهم الحلفاء والأصدقاء، والتي شملت معلومات قيمة ومثيرة – وحتى ترفيهية – عن قادة وحكومات منطقة الشرق الأوسط، وطبيعة علاقاتهم مع الولايات المتحدة.
وما إن بدت واشنطن وكأنها تخطت المضاعفات السلبية والمحرجة لتلك التسريبات، جاءت تسريبات إدوارد سنودن، الموظف الشاب في وكالة الأمن القومي، والتي كشفت عن القدرات الهائلة للاستخبارات الأميركية في عصر التقنيات الرقمية. هذه التسريبات سببت إحراجًا كبيرا للحكومة الأميركية في علاقاتها مع أصدقائها في أوروبا. في 2022، قامت روسيا بمكافئة سنودن من خلال منحه الجنسية الروسية.
وبعكس تسريبات ويكيليكس وسنودن، التي كشفت عن معلومات قديمة نسبيًا، فإن التسريبات الأخيرة تتعلق بأحداث وتطورات حديثة ومعاصرة، وبعضها يعود لبضعة أسابيع، ما يؤكد خطورتها وحساسيتها ليس فقط للولايات المتحدة بل أيضًا لحلفائها، خاصة الوثائق الهامة المتعلقة بالحرب في أوكرانيا، وهي حرب تشارك فيها الولايات المتحدة بشكل فعلي، من خلال توفير المعلومات الاستخباراتية الحساسة حول الخطط العسكرية الروسية، والتي تسلمها واشنطن بشكل سريع وفوري للسلطات الأوكرانية.
وإضافة الى أوكرانيا، التي كشفت الوثائق عمق اختراق أجهزة الاستخبارات الأميركية لأجهزة الاستخبارات الروسية، شملت الوثائق معلومات سرية ومحرجة لواشنطن ولعدد من حلفائها في العالم، بمن فيهم كندا واسرائيل وكوريا الجنوبية والصين ومصر ودولة الإمارات العربية المتحدة، وما تقوم به الولايات المتحدة وهذه الدول عسكريًا واستخباراتيا في منطقتي الشرق الأوسط والمحيطين الهادئ والهندي.
ما هو مؤكد في المدى القريب، هو أنه قبل معرفة نتائج التحقيقات الشاملة التي بدأتها السلطات الأميركية لمعرفة مصدر التسريبات، وما إذا كان المصدر أميركي، ويهدف إلى إحراج السلطات الأميركية أم نتيجة اختراق استخباراتي خارجي، سوف تُرغم التسريبات الاستخبارات الأميركية على إعادة النظر بسرعة بأساليب عملها، وسبل جمعها للاستخبارات، وتعديل هذه الأساليب قبل أن تستغل روسيا وغيرها من الخصوم هذه الإخفاقات الأميركية، كما ستُرغم أوكرانيا ليس فقط على تعديل خططها العسكرية المتعلقة بالحملة العسكرية المضادة لروسيا المتوقعة قريبًا، بل أيضًا على تعديل وتغيير نشر دفاعاتها الجوية والصاروخية، والتي ساهمت واشنطن في نشرها وتطويرها، والتي وفرت لأوكرانيا قبة دفاعية ضد الطيران الحربي الروسي، وأدت عمليًا إلى تحييد سلاح الجو الروسي، خاصة قاذفاته الثقيلة في العمليات العسكرية حتى الآن. طبعًا، ما يسرى على الولايات المتحدة وأوكرانيا، في مسرح العمليات العسكرية في أوكرانيا، يسري أيضًا على الخطط العسكرية الروسية، وعلى كيفية عمل أجهزة الاستخبارات الروسية التي يبدو من الوثائق أن أجهزة التنصت الأميركية قد نجحت في رصد الاتصالات بين القيادة العسكرية في روسيا والوحدات القتالية داخل أوكرانيا.
وإضافة إلى أوكرانيا، تضمنت الوثائق المسربة معلومات حول اتصالات بين المسؤولين في كوريا الجنوبية حول طلب واشنطن الحصول على حوالي 330,000 قذيفة مدفعية، قد تقوم واشنطن بتحويلها إلى أوكرانيا، في موقف يتناقض مع سياسة كوريا الجنوبية التقليدية في عدم تسليح أي دولة في حالة حرب. الوثائق أكدت أن واشنطن على إطلاع على الاتصالات بين المسؤولين الكوريين، وأدت الى انتقادات من المعارضة في سيول، خاصة وأن التسريبات جاءت قبل الزيارة المقررة لرئيس كوريا الجنوبية إلى واشنطن.
وتضمنت إحدى الوثائق معلومات تفيد أن قيادة جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد شجعت موظفيها وغيرهم من المدنيين على المشاركة في التظاهرات الشعبية الاحتجاجية ضد حكومة بنيامين نتنياهو، التي تحاول إدخال تعديلات جذرية على جهاز القضاء الإسرائيلي. حكومة نتنياهو سارعت إلى نفي صحة الخبر. وتضمنت احدى الوثائق تقويم أميركي حول “سيناريوهات” محتملة يمكن بموجبها أن تقوم أسرائيل بتسليح أوكرانيا، وهو موقف يتناقض مع سياسة إسرائيل الراهنة.
إحدى الوثائق تطرقت إلى سعي ميليشيا قوات “فاغنر” التي تستخدمها روسيا كقوات مرتزقة في العالم، والتي تقاتل عناصرها في شرق أوكرانيا، للحصول على الأسلحة من تركيا، وهي دولة عضو في حلف الناتو.
وهناك وثائق مسربة لم يؤكدها المسؤولون الأميركيون بشكل مباشر، ولكنهم لم ينفوها جملة وتفصيلًا، وتمس بعلاقات واشنطن مع دولتين عربيتين تربطها بهما علاقات سياسية وعسكرية متشعبة: مصر ودولة الإمارات.
إحدى الوثائق كشفت أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي – الذي يعتبر بلده من أكبر متلقي المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية في الشرق الأوسط – أمر مساعديه بإنتاج 40 ألف صاروخ ليتم شحنها سرًا إلى روسيا، بحسب صحيفة واشنطن بوست، التي كانت أول من كشف عن هذه الوثيقة. ووفقا للوثيقة المؤرخة 17 فبراير/شباط، والتي تلخص محادثات بين الرئيس السيسي وضباط عسكريين بارزين، أمر الرئيس المصري مساعديه إبقاء إنتاج وشحن هذه الأسلحة سرًا ” لتفادي المشاكل مع الغرب”. وبينما نفت مصر صحة مضمون الوثيقة، قال مسؤولون أميركيون للصحيفة أنهم لا يعلمون بـ “تنفيذ هذه الخطة”. الناطق باسم مجلس الأمن القومي كيربي قال للصحيفة، “ليس لدينا ما يبين أن مصر تزود روسيا بقدرات عسكرية قتالية”. مصادر أخرى أشارت إلى احتمال قيام واشنطن بتحذير مصر من اتخاذ مثل هذه الخطوة، لأنه من الواضح أن الاستخبارات الأميركية كانت على علم بهذه الحوارات بين الرئيس السيسي وكبار مساعديه.
وقبل أيام تطرقت وكالة أسوشييتد برس، إلى إحدى الوثائق التي تدعي أن عناصر في الاستخبارات الأميركية رصدوا ضباط في الاستخبارات الروسية وهم يتفاخرون بأنهم أقنعوا دولة الإمارات، التي تربطها علاقات سياسية وعسكرية واقتصادية متشعبة مع الولايات المتحدة، “بالتعاون معهم ضد وكالات الاستخبارات الأميركية والبريطانية”. وقالت الوكالة أن المسؤولين الأميركيين امتنعوا عن التعليق على الوثيقة المصنفة “سري للغاية”، والتي تعود إلى التاسع من مارس/آذار الماضي. ونفت الحكومة الإماراتية صحة مضمون الوثيقة، وقالت إنها “خاطئة بشكل قاطع”. ولكن الوكالة ذكرت أن للولايات المتحدة مخاوف متزايدة من أن الإمارات كانت تسمح لروسيا والروس بالتحايل على العقوبات المفروضة على روسيا بسبب غزو أوكرانيا. وخلصت الوثيقة المسربة إلى القول إن “الإمارات تفكر على الأرجح في التعامل مع الاستخبارات الروسية كفرصة لتعزيز العلاقات المتنامية بين أبوظبي وموسكو، وتنويع الشراكات الاستخباراتية وسط مخاوف من فك ارتباط الولايات المتحدة بالمنطقة”.
النفي المصري والإماراتي لم يمنع بعض المشرعين الأميركيين من انتقاد البلدين، كما أن امتناع واشنطن عن نفي مضمون هاتين الوثيقتين بشكل قاطع، سوف يوفر لمنتقدي مصر ودولة الإمارات في الكونغرس وفي وسائل الاعلام ذخيرة لمواصلة انتقاد حكومتي البلدين في المستقبل المنظور.
وعلى الرغم من انتشار مشاعر الاحباط والغضب في أوساط المسؤولين المدنيين والعسكريين في وزارة الدفاع، وفقًا لتقارير الصحف الأميركية، فإن المسؤولين الأميركيين يقولون إنهم سوف يتخطون أضرار هذه التسريبات المحرجة بسرعة نسبية، ويشيرون إلى أن تسريبات ويكيليكس وإدوارد سنودن على الرغم من أهميتها وأضرارها لم تؤثر جذريًا على طبيعة التعاون والتنسيق الاستخباراتي بين الولايات المتحدة وحلفائها، بمن فيهم أولئك الذين تجسست عليهم الاستخبارات الأميركية.
ولكن هذا التقويم المتفائل لا يلغ حقيقة أن التسريبات الراهنة سوف تؤثر سلبًا – وإن ليس من الواضح إلى أي مدى – على مسألتين جوهريتين في سياسة الرئيس جوزيف بايدن الخارجية: تعزيز التحالفات العسكرية والاستخباراتية مع الحلفاء بعد الأضرار التي لحقت بها خلال ولاية سلفه دونالد ترامب، وتوفير الدعم العسكري والاستخباراتي الشامل لأوكرانيا لصد الغزو الروسي.