تؤكد نتائج الانتخابات الأمريكية النصفية التي جرت يوم الثلاثاء، وهي الأكثر كلفة، والأكثر صخبا وإثارة للجدل النافر، إن الانقسامات السياسية والثقافية التقليدية في البلاد، والتي عمقها انتخاب دونالد ترامب في 2016، سوف تزداد حدة وشراسة على مختلف الأصعدة خلال السنتين المتبقيتين من ولاية الرئيس ترامب.
وكما توقع المحللون حافظ الحزب الجمهوري على سيطرته البسيطة على مجلس الشيوخ (بأكثرية صوت واحد، ولكنها ستصبح أكثرية من صوتين أو ثلاثة، بعد الفرز النهائي). كما نجح الحزب الديمقراطي باستعادة السيطرة على مجلس النواب (ويمكن أن تصل مقاعده إلى أكثر من 35 نائبا)، إضافة إلى وصول مرشحيه إلى حاكمية 7 ولايات جديدة.
عودة الحزب الديمقراطي للمرة الأولى منذ ثماني سنوات للسيطرة على مجلس النواب ولجانه المختصة، تعني من جملة ما تعنيه أن الديمقراطيين سوف يجرون مختلف أنواع التحقيقات في جلسات استماع يمثل فيها المسؤولون الأمريكيون وغيرهم من الشهود لكشف ملابسات قضايا عديدة تتراوح بين طبيعة ومدى التدخل الروسي في انتخابات 2016 واحتمال ضلوع مقربين من ترامب في هذا الانتهاك للقوانين الأمريكية، وكذلك التحقيق في التهم الموجهة للرئيس ترامب وأفراد من عائلته باستغلال مناصبهم لجني الأموال في انتهاك للقوانين الأمريكية.
وفي هذا السياق سيحاول الديمقراطيون ارغام ترامب على الكشف عن سجلاته الضرائبية في محاولة للتعرف على مصادر ثروة ترامب وما إذا كان جزءا من هذه الثروة هو من تبييض الأموال بالتعاون مع أفراد ينتمون إلى ما يسمى الأوليغارشية الروسية القريبة من الرئيس فلاديمير بوتين.
واخيرا سوف تحاول اللجان المعنية بالقضايا الخارجية والعسكرية ارغام إدارة ترامب على إعلام الكونغرس بمضمون الاتصالات مع روسيا وكوريا الشمالية. وأبرز ما هو متوقع من مجلس النواب بالنسبة لسياسة ترامب تجاه الشرق الأوسط، هو مناقشة طبيعة العلاقات الأمريكية-السعودية في أعقاب قتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول. ما هو مؤكد أيضا أن مجلس النواب الديمقراطي سوف يضغط على ادارة الرئيس ترامب لوقف الدعم الأمريكي اللوجستي والاستخباراتي الأمريكي للتحالف العسكري الذي تقوده السعودية في حرب اليمن.
استفتاء على ترامب ورؤيته لأمريكا
اعتبر محللون عديدون فوز الحزب الديمقراطي بمجلس النواب على أنه رفض واضح من أكثرية الناخبين الأمريكيين ليس فقط لطروحات ومواقف ترامب، بل أيضا رفضا لشخصية الرئيس وما يمثله من انتهازية سافرة وميل نافر للتضليل، وتعلق بالشخصنة والجنوح لشيطنة المنافسين والخصوم السياسيين. وبما أن التصويت على مجلس النواب شمل جميع اعضائه (435) في جميع الولايات ما يعني أن عدد الناخبين الذين صوتوا لمرشحي مجلس النواب يفوق كثيرا عدد الناخبين الذين صوتوا لـ 36 عضوا في مجلس الشيوخ من أصل مئة. ومن هنا اعتبار المحللين للأكثرية الديمقراطية الجديدة في مجلس النواب على أن فوزها هو بمثابة استفتاء على ترامب كشخص وكسياسي. لا بل يمكن اعتبار ما جرى على أنه استفتاء على “هوية” أمريكا وعلى أي طريق تسير.
وخلال الأشهر والأسابيع الماضية، ومع اقتراب موعد الانتخابات، اتسمت مواقف وطروحات هذا الرئيس الأمريكي، أكثر من أي رئيس آخر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بالتمييز والعنصرية والصور النمطية. ولجأ الرئيس ترامب إلى تخويف قاعدته الانتخابية مما أسماه “خطر” قافلة من اللاجئين من أمريكا الوسطى يسير أفرادها على أقدامهم باتجاه الحدود الجنوبية للبلاد، وتضم وفقا لتهم ترامب الباطلة عناصر “إجرامية” وأخرى “شرق أوسطية” مشبوهة في تلميح إلى عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية”، وبدأ بترهيب الأمريكيين من “غزو” متوقع للحدود، ما دفعه لاتخاذ خطوة انتهازية غير اعتيادية تمثلت في نشر أكثر من 7 الآف عسكري، على الحدود مع المكسيك لحمايتها من خطر “افتراضي”، وفقا لمعظم الخبراء والمحللين، حيث لم يقدم ترامب أو الأجهزة الحكومية الأمريكية أي أدلة على وجود مثل هذا الخطر، وتحديدا العناصر الإجرامية أو الإرهابيين الإسلاميين. وبينما كان ترامب، والأجهزة الإعلامية التي تدعمه، وأبرزها شبكة التلفزيون فوكس نيوز، يتحدثون يوميا ودون كلل عن خطر القافلة، امتنع ترامب عن ذكر القافلة في اليومين اللذين تليا الانتخابات، كما اختفى هذا الخطر عن نشرات وبرامج فوكس نيوز تماما.
الرئيس ترامب بمواقفه المتشددة من المهاجرين واللاجئين والمسلمين، واستغلاله للاستقطابات الثقافية والاجتماعية، وخاصة فيما يتعلق بالتشدد تجاه قضايا حقوق المثليين، والإجهاض ورفض القيود على اقتناء الأسلحة النارية، وتردده في إدانة الطروحات العنصرية وأعمال العنف التي يقوم بها العنصريون البيض والنازيين، ساهم بطريقة غير مسبوقة في تسميم الأجواء السياسية بطريقة أثارت قلق الأوساط السياسية والاعلامية وغيرها، من احتمال حدوث أعمال عنف منبثقة عن الانتخابات. وفي تصعيد ملحوظ بدأ ترامب في الأسابيع التي سبقت الانتخابات وللمرة الأولى بوصف نفسه في مهرجاناته الانتخابية على أنه “قومي” أمريكي، وهذه الكلمة في القاموس السياسي الأمريكي ملغومة لأنها تشير ضمنا إلى “القومية الإثنية” أي قومية (وتفوق)العنصر الأبيض. هذه الكلمة أثارت قلق جميع الأقليات غير البيضاء وغير المسيحية، مثل المسلمين واليهود وغيرهم، وفي أعقاب مجزرة كنيس “شجرة الحياة” في مدينة بيتسبيرغ التي أودت بحياة 11 مصليا يهوديا، قتلهم متطرف أبيض، رفض بعض قادة الجالية اليهودية في المدينة استقبال ترامب، في الوقت الذي انتقده يهود وغير يهود على مواقف المتشددة التي ساهمت بتسميم الأجواء السياسية في البلاد، حيث قال الكثيرون إن التطرف اللفظي، يؤدي إلى تطرف فعلي.
استقطابات وانقسامات على مختلف المستويات
في الدورات الانتخابية الأخيرة كان الديمقراطيون يفوزون بشكل عام بأصوات سكان المدن الكبرى، بينما ينجح الجمهوريون بنيل أصوات سكان الضواحي، من ذوي الدخل الاعلى نسبيا. ولكن نتائج انتخابات يوم الثلاثاء، عكست استياء الناخبين من سكان الضواحي، وتحديدا النساء من مواقف وأطروحات ترامب الفظة، حيث صوتت أكثرية هؤلاء لصالح المرشحين الديمقراطيين، وذلك في تحول هام في الاتجاهات السياسية لهذه الشريحة الهامة من الناخبين.
وأظهرت النتائج أن أمريكا في حقبة ترامب لا تتسم بالانقسامات السياسية العميقة فحسب حيث يتصرف الديمقراطيون والجمهوريون وكأنهم يعيشون في كوكبين متوازيين، وتحكمهم اعتبارات واتجاهات ثقافية واجتماعية متناقضة. وإذا صوّت ناخبو الضواحي بكثافة للمرشحين الديمقراطيين، فإن ناخبي المناطق الريفية والبلدات الصغيرة تمسكو بالرئيس ترامب وظاهرته بحرارة أكثر مما فعلوه في 2016. وهذا يفسر الاختراقات المحدودة التي حققها مرشحو الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ في ولايات ريفية مثل نورث داكوتا، والمناطق الريفية في ولايات أخرى مثل ميزوري وانديانا.
ولكن أبرز ما ميز هذه الانتخابات النصفية، التي شارك فيها رقم قياسي من الناخبين زاد عن 110 ملايين، هو الموجة النسائية غير المعهودة التي تمثلت بترشح أكثر من 230 امرأة لمقاعد في مجلس النواب، و23 امرأة لمقاعد في مجلس الشيوخ. وأظهرت النتائج أنه تم انتخاب أكثر من 100 أمرأة، وربما وصل الرقم النهائي بعد انتهاء الفرز إلى 110 امرأة، أكثريتهن عن الحزب الديمقراطي. وهذا أبرز إنجاز نسائي في تاريخ الانتخابات في البلاد. ومن بين الفائزات، النائبة إلهان عمر، التي جاءت إلى الولايات المتحدة كطفلة لاجئة من الصومال، عن إحدى مقاطعات ولاية مينيسوتا، ورشيدة طليب الفلسطينية الأصل عن مقاطعة في ولاية ميشيغان. كما انتخبت، دونا شلالا، الأكاديمية والوزيرة السابقة في ولاية الرئيس الأسبق بيل كلينتون للمرة الأولى كنائبة عن إحدى مقاطعات ولاية فلوريدا. وللمرة الأولى في تاريخ الكونغرس الأمريكي تم انتخاب امرأتين متحدرتين من السكان الأصليين في البلاد.
وفي أول قرار هام يتخذه بعد الانتخابات، تخلص الرئيس ترامب كما كان متوقعا من وزير العدل جيف سيشن وعين بدلا عنه ماثيو ويتاكر، المعروف بتأييده غير المشروط لترامب، وزيرا مؤقتا. وهكذا وللمرة الأولى منذ تعيين المحقق روبرت مولر للتحقيق بالتدخل الروسي في الانتخابات، أصبح التحقيق بكامله تحت اشراف ويتاكر الذي كان قبل تعيينه معروفا بتشكيكه بصدقية تحقيق مولر، ورفضه لحقيقة التدخل الروسي في الانتخابات. وسارع الديمقراطيون إلى مطالبة ويتاكر بالنأي بنفسه عن التحقيق، وهو ما فعله جيف سيشن في بداية التحقيق، وهو قرار أثار غضب ترامب العارم. ويتخوف الديمقراطيون من أن يكون تعيين ويتاكر مقدمة لتقويض تحقيق مولر. هذه المخاوف ساهمت في تنظيم عشرات المسيرات والتظاهرات يوم الخميس والتي شارك فيها الآلاف في عدد هام من المدن الأمريكية من بينها نيويورك وواشنطن، والذين نادوا بحماية تحقيق مولر ورفض التدخل فيه أو وقفه.
السعودية واليمن: خط تماس جديد بين ترامب ومجلس النواب
استبق الرئيس ترامب الاعلان عن النتائج النهائية للانتخابات، ليعلن أنه حقق نصرا “رائعا”، وكأنه في حالة نكران للنكسة الكبيرة التي مني بها بسبب خسارته لمجلس النواب، ووجه تهديدا ضمنيا للأكثرية الديمقراطية في مجلس النواب حين قال إنه مستعد للتعاون معهم بشأن قضايا مطلوبة شعبيا، مثل إعادة بناء البنية التحتية وتخفيض أسعار الأدوية وغيرها، ولكن بشرط ألا يقوموا بإجراء تحقيقات نيابية بسلوكه وبشركاته. وسارع الديمقراطيون بوعد الرئيس وناخبيهم، بأنهم سيقوموا بواجباتهم وبينها إجراء التحقيقات.
وحول سياسة ترامب في الشرق الأوسط، سوف يؤيد الديمقراطيون أي محاولة يقوم بها البيت الأبيض لإحياء المفاوضات بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية، على الرغم من استياء شخصيات ديمقراطية ويهودية من العلاقة الوثيقة بين رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو والرئيس ترامب وكبار مساعديه. ومع أن الحزب الديموقراطي دعم الاتفاق النووي الدولي مع إيران الموقع في 2015، الا أنه لن يكون قادرا على ارغام ترامب على تعديل سياسته بشكل ملحوظ تجاه إيران.
ومن المتوقع أن يؤدي استياء العديد من المشرعين من الحزبين وفي المجلسين من السعودية في اعقاب جريمة قتل جمال خاشقجي، إلى محاولة احياء الجهود الرامية، للضغط على الحكومة الاميركية لوقف مشاركتها في توفير الدعم اللوجستي (مثل تزويد الطائرات الحربية السعودية بالوقود في الجو، إضافة إلى معلومات استخباراتية وغيرها.).وفي السنة الماضية حاول مشرعون في مجلس الشيوخ فرض حظر على تزويد السعودية بالقنابل والصواريخ، بسبب الخسائر المدنية في اليمن، ولكن المحاولة أحبطت بأصوات قليلة.
وفي تصريحات أولية بعد فوزهم قال بعض رؤساء اللجان، إنه سيتم تنظيم جلسات استماع (مغلقة أو علنية) يستدعى للمثول أمامها شخصيات رسمية من وزارتي الخارجية والدفاع وغيرها من الأجهزة الحكومية للتعرف على مدى تعاون السعودية (وتركيا) في التحقيق بالجريمة. وليس من الواضح كيف سيتعامل الديمقراطيون في مجلس النواب مع المفاوضات الجارية بين الأمريكيين والسعوديين، لتوقيع برنامج لإنتاج الطاقة النووية.
وفي هذا السياق سنرى محاولات لمعاقبة السعودية عسكريا من خلال تعليق تنفيذ أي صفقات وخاصة القنابل والصواريخ التي تستخدمها الطائرات السعودية ضد أهداف يمنية . ونظرا لوجود شخصيات جمهورية نافذة في مجلس الشيوخ ومقربة من ترامب مثل السيناتور ليندسي غراهام وماركو روبيو، من دعاة اتخاذ موقف متشدد من السعودية، قد يضطر الرئيس ترامب، الذي لا يزال، نظريا على الأقل، يعارض أي عقوبات عسكرية جوهرية للقبول بحد أدنى من الإجراءات العقابية تجاه السعودية.