كلما تغير الشرق الأوسط، ظل كما هو. هذا ما يمكن قوله بعد سنة من اندلاع أطول حرب عربية-إسرائيلية، نعرف أنها بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولكننا لا نعرف في أي وقت، وفي ظل أي ظروف سوف تنتهي. بعد كل حرب عربية-إسرائيلية، نسمع من يقول إنها غيرت كل شيء في المنطقة، أو انها مؤشر حول ولادة ” شرق أوسط جديد”. ولكن الشرق الأوسط القديم والمعهود يعود من جديد مع تعديلات طفيفة تزيد من قسوته وتعقيداته وعدد ضحايا آخر حروبه.
بعد سنة من القتال الضاري في غزة ولبنان والاشتباكات بين إيران وإسرائيل، وبين القوات الحوثية في اليمن وإسرائيل، أظهرت الحرب بشكل سافر محدودية النفوذ الأميركي في المنطقة، وخاصة محدودية وضعف الديبلوماسية الأميركية، في التأثير على إسرائيل وقراراتها العسكرية والسياسية. ضعف الرئيس بايدن المحرج في التصدي للتصعيدات العسكرية الدورية، التي كان يبادر بها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والمصممة لتفادي التوصل إلى وقف لإطلاق النار وتبادل الرهائن والأسرى، ساهمت عملياً في إطالة الحرب، وخلق الانطباع بأن إدارة الرئيس بايدن، على الرغم من انزعاجها من تضليلات نتنياهو واستفزازاته الهادفة لإطالة القتال، إلا أنها لا تريد بالفعل مواجهته أو إرغامه على دفع ثمن لعنجهيته وتطرفه، لأن الرئيس بايدن شخصياً يوافق من حيث المبدأ على مضمون سياسة إسرائيل تجاه حركة حماس وحزب الله وإيران.
الاستياء الدولي الأولي من جرائم حماس ضد المدنيين الإسرائيليين العزل، سرعان ما انحسر بعد الأسابيع الأولى للاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، وحل مكانه غضب دولي ضد الجرائم الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين، والفظاعات التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد سكان القطاع، بما في ذلك تدمير المستشفيات والمدارس، ما أدى إلى اتهامات دولية لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وحتى بشنّ “حرب ابادة” ضد الفلسطينيين في غزة. هذا الغضب وصل إلى الجامعات الأميركية، التي تظاهر طلابها ضد الممارسات الإسرائيلية المخالفة للقوانين الدولية، كما صدر عن مشرعين أميركيين ومثقفين وناشطين يهود انتقادات قاسية ضد إسرائيل وقياداتها اليمينية المتطرفة. عالمياً، ازدادت عزلة إسرائيل في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.
الحرب التي بدأت بالهجوم الذي شنته حركة حماس في جنوب إسرائيل، وأدت في ساعاتها الأولى إلى مقتل 1200 إسرائيلي وإسرائيلية معظمهم من المدنيين، واختطاف 251 منهم، دفعت بإسرائيل إلى اجتياح شامل ومدمر لقطاع غزة، أدى إلى مقتل حوالي 42 ألف فلسطيني، الأكثرية الساحقة منهم مدنيين، بينهم الآلاف من الأطفال. زادت خسائر إسرائيل في القتال عن 300 عسكري. قبل اجتياحها لغزة، قامت إسرائيل خلال بضعة أسابيع بقصف لمدن وبلدات القطاع كان أكثر كثافة ودماراً من كل الحروب التي شهدتها المنطقة في العقود الأخيرة، بمن فيها حربي أفغانستان والعراق. بعد سنة من الاجتياح الإسرائيلي، تحول قطاع غزة إلى أرض يباب، تتخللها آلاف الحفر العميقة، التي تسببت بها القنابل الثقيلة، وآلاف الأهرامات من ركام بنايات السكن والمباني العامة، وحتى المدارس والمستشفيات.
الحرب في قطاع غزة التي توقع معظم المراقبين، وأكثرية الإسرائيليين والفلسطينيين، ألا تستمر لأكثر من بضعة أشهر على الأكثر، بدأت سنتها الدموية الثانية، بعد أن توسعت إلى لبنان، مع اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان بعد حرب استنزاف حدودية بينها وبين حزب الله، الذي بدأ بقصف شمال إسرائيل تضامناً مع حركة حماس منذ بداية القتال في غزة. التحذيرات والمخاوف الإقليمية والدولية من تحول القتال في قطاع غزة إلى نزاع اقليمي، وتحديداً حرب مباشرة بين إسرائيل وإيران ووكلائها في المنطقة كانت في محلها، وأدت في إبريل/نيسان الماضي، وبعد قصف إسرائيلي لمبنى تابع للسفارة الإيرانية في دمشق وقتل عدد من العسكريين الإيرانيين، إلى إطلاق إيران لأكثر من 300 صاروخ ومسيرة ضد إسرائيل، شاركت الولايات المتحدة ودول عربية في صدها، وحوّلت الولايات المتحدة، بعد تأكيداتها العديدة بأنها ستواصل دفاعها عن إسرائيل، إلى طرف مباشر في القتال.
في الأسابيع الأخيرة، وبعد أن سيطرت إسرائيل إلى حد كبير على قطاع غزة، وإن بقيت تواجه مقاومة من عناصر حركة حماس، بدأت بتركيز جهودها العسكرية على الجبهة اللبنانية ضد حزب الله، وكثفت من اشتباكاتها العسكرية على الحدود، وألحقتها بهجمات استهدفت قيادات حزب الله العسكرية والمدنية، ما أدى إلى إلحاق نكسات متلاحقة بالحزب، شملت تفجير آلاف أجهزة الاتصال الشخصية (pagers) الخاصة بقياداته وعناصره، ووصلت إلى ذروتها مع اغتيال زعيم الحزب حسن نصر الله مع بعض مساعديه في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت. قبل هذا التصعيد الإسرائيلي ضد حزب الله، والمصمم لاستدراجه إلى قتال أوسع، قامت إسرائيل باغتيال القيادي في حركة حماس، اسماعيل هنية، الذي كان يشارك في المفاوضات الهادفة إلى وقف إطلاق نار محدود يؤدي إلى تبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين.
اغتيال هنية في قلب العاصمة الإيرانية طهران، كان بمثابة صفعة مهينة لإيران، ومؤشر محرج لعمق اختراق الاستخبارات الإسرائيلية لأجهزة الاستخبارات الإيرانية. ومع أن إيران توعدت برد عسكري على اغتيال هنية، إلا أنها لم تقم بأي رد مباشر لأسابيع طويلة، ما ترك الانطباع بأن طهران قد قررت عدم الانتقام لاغتيال هنية. ولكن اغتيال قيادات حزب الله، بمن فيهم زعيمه حسن نصر الله، وهو التنظيم الذي تقوم إيران منذ عقود بتسليحه وتمويله وتدريبه ليكون جزءاً أساسياً من منظومة الردع الإيرانية ضد إسرائيل، شكّل تحدياً محرجاً للقيادة الإيرانية ما أدى إلى رد انتقامي، تمثل بإطلاق حوالي 200 صاروخ باليستي ضد إسرائيل، ساهمت البحرية الأميركية في شرق المتوسط في اعتراض بعضها.
رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو توعد إيران بأنها ستدفع ثمناً باهظاً لهجومها. وفي الأيام الماضية تمحورت التكهنات في المنطقة وفي واشنطن حول طبيعة الرد العسكري الإسرائيلي المتوقع: هل سيكون الرد الإسرائيلي مقتصراً على أهداف عسكرية؟ أم سيشمل المنشآت النفطية؟ أم سيكون جذرياً وغير معهود ليشمل المنشآت والمفاعلات النووية الإيرانية؟ أوضح الرئيس الأميركي جوزيف بايدن في تصريحات علنية عن رغبته بألا تستهدف إسرائيل المنشآت النفطية أو النووية، ولكن إسرائيل لم تستثن أي أهداف. وكان من المتوقع أن يزور وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت واشنطن ليتشاور مع نظيره الأميركي لويد أوستن يوم الأربعاء، إلا أن رئيس الوزراء نتنياهو قرر إلغاء الزيارة يوم الثلاثاء، ربما لإرغام الرئيس بايدن على مكالمته هاتفياً، على خلفية التقارير الصحفية التي تحدثت عن استياء بايدن من نتنياهو. خلال المكالمة التي جرت صباح الأربعاء، أدان بايدن بقوة الهجوم الصاروخي الإيراني، مؤكداً من جديد التزامه الحازم بأمن إسرائيل. وكان من اللافت أن بيان البيت الأبيض لم يتطرق إلى أي تفاصيل حول الرد الإسرائيلي العسكري المتوقع على الهجوم الإيراني، ولكنه أشار إلى أن بايدن ونتنياهو اتفقا على “تواصل وثيق” بهذا الشأن في الأيام المقبلة بشكل مباشر وعبر فريقيهما الأمنيين.
في الأشهر الأولى للقتال، رفضت إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، الدعوات الإقليمية والدولية لوقف إطلاق النار إلى أن يتم القضاء على حركة حماس كتنظيم قتالي. وخلال هذه الفترة، واصلت الولايات المتحدة تزويد إسرائيل بمختلف أنواع الأسلحة، بما فيها القنابل التي يصل وزنها إلى ألفي باوند، والمصممة لتدمير التحصينات الضخمة، باستثناء تعليق شحن هذه القنابل لحوالي شهرين، بعد أن تجاهل رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو دعوات واشنطن لوقف استخدامها في غزة، وخاصة بعد الدمار المادي الهائل الذي تسببت فيه هذه القنابل، التي تقضي على مئات وآلاف الضحايا المدنيين. ما هو واضح أن مصلحة نتنياهو السياسية الضيقة وحفاظه على ائتلافه الحكومي المتطرف تقضي بإطالة المناخ التصعيدي في المنطقة لإلحاق نكسات استراتيجية موجعة بحركة حماس وحزب الله، وإضعاف إيران عسكرياً وسياسياً في المنطقة، ولتأجيل “يوم الحساب” داخلياً لنتنياهو وائتلافه، لأن وقف القتال سيعقبه انطلاق آلاف الدعوات من الإسرائيليين لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين من سياسيين واستخباراتيين عن الاخفاق في توقع وصد هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
قد يكون من المبكر الحديث الآن عن ضرورة المحاسبة والمسائلة في لبنان، وتحديداً داخل أجهزة حزب الله، طالما ظل الاجتياح الإسرائيلي مستمراً لجنوب لبنان. ولكن هذا لم يمنع، ويجب ألا يمنع بروز الأصوات الوطنية النقدية من مختلف فئات ومكونات المجتمع اللبناني، التي يجب أن تطرح على قيادات حزب الله الأسئلة الصعبة من نوع: من فوضكم لجّر لبنان إلى حرب مدمرة مع إسرائيل؟ لماذا لم تتوقعوا اجتياحاً برياً إسرائيلياً؟ ولماذا لم تدركوا أن المزاج الشعبي الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول سوف يؤيد هجوماً إسرائيلياً برياً لإلحاق نكسة كبيرة بحزب الله وبإيران. وإن ما كان يسمى “قواعد اللعبة” على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، أي إبقاء القتال محدوداً ومقتصراً على المناطق الحدودية، لم يعد مجدياً من منظور نتنياهو، الذي يريد في اعقاب اجتياحه لغزة وجنوب لبنان الاستفادة من المناخ التصعيدي الذي خلقه للقضاء على أعدائه الذين يحيطون بإسرائيل، وعدم الاكتفاء باحتوائهم؟ قيادة حزب الله، التي ستزداد اعتماداً على إيران، لن تمارس أي عملية نقذ ذاتي، لأن أي مراجعة نقدية، ولو صادقة جزئياً، سوف تكشف الاخفاق الاستراتيجي للرهان على الجمهورية الإسلامية في إيران، وإفلاس لعب دور رأس الحربة الإيرانية ضد إسرائيل. أي مراجعة ذاتية ولو محدودة، سوف تكشف أيضا كيف تحول حزب الله إلى تنظيم سياسي لبناني آخر ينخره الفساد والترهل والمحسوبية والتعصب والاستئثار بالسلطة السياسية على حساب الفئات اللبنانية الاخرى. عناصر الترهل والفساد والغطرسة هي في صلب الاخفاق الاستخباراتي الصارخ لحزب الله في منع الاستخبارات الإسرائيلية من اختراق أجهزته وقياداته، الأمر الذي أدى إلى النكسات الكبيرة التي تعرض لها الحزب عسكرياً وسياسياً.
إصرار نتنياهو على مواصلة القتال على الجبهتين الفلسطينية (ضد حركة حماس في غزة، وتصعيد العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية) واللبنانية، مع ما يحمله ذلك من ضرب إيران عسكرياً، يعني أنه لا يسعى إلى حل سياسي قريب أو مخرج من الحرب، لإعادة بناء الردع الإسرائيلي وفق قواعد جديدة، بل إنه يسعى إلى خلق واقع استراتيجي إقليمي جديد، عبر تحقيق انتصارات ضد أعداء إسرائيل على هذه الجبهات.
ولكن قدرة حماس على مواصلة القتال، وبقاء الاحتلال الإسرائيلي لغزة بعد سنة من بدء الاجتياح، وفي غياب أي أفق سياسي في غزة والضفة الغربية، ومع توغل الجيش الإسرائيلي في الجنوب اللبناني واستمرار حزب الله، على الرغم من النكسة التي أصيب بها، في مقاومة الغزو، يعني أن إسرائيل سوف تبقى كقوة محتلة في غزة أو في أجزاء من القطاع، كذلك من المحتمل أن يتحول الاجتياح “المحدود” لجنوب لبنان إلى احتلال يستمر في المستقبل المنظور، كما تبين تجارب الماضي. التوازن الراهن للقوة، هو في صالح إسرائيل، ولكن إعادة احتلالها للقطاع ولجنوب لبنان، كما تبين أيضا دروس الماضي، لن يجلب لها “السلام” الذي تدعي أنها تسعى إليه أو الاستقرار والأمن، بل سيعمق من التوتر والحقد بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، بغض النظر عمن سيمثل الفلسطينيين في المستقبل، واحتمال وصول هذا التوتر إلى قلب إسرائيل بين المواطنين اليهود والفلسطينيين. كما أن مقاومة اللبنانيين لأي احتلال إسرائيلي، ولو لبقعة صغيرة من الأراضي اللبنانية، سوف يُبقى إسرائيل في حالة استنزاف دائم على الحدود مع لبنان، بغض النظر عن مستقبل حزب الله. وأخيراً، سوف يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل أن “تترجم” إسرائيل هذه الانتصارات العسكرية الواهية إلى حلول سلمية مع الفلسطينيين ومع جيرانها العرب الأخرين، بمن فيهم بقية دول الخليج العربية، التي لا تزال خارج دائرة السلام الفاتر التي تربطها ببعض دول المنطقة.