ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
السجال الأمريكي-الإيراني في الأسابيع والأشهر الأخيرة حافل بالتناقضات وقابل لمختلف التأويلات والاجتهادات، ووفقا لتقلباته تتغير تقييمات المحللين بين أسبوع وآخر وأحيانا بين يوم وآخر ما يفسر قراءة عناوين من نوع: إيران وأمريكا تسيران على طريق المواجهة العسكرية، (في أعقاب الاعتداء على الملاحة في منطقة الخليج) أو انحسار احتمالات المواجهة العسكرية (في أعقاب تراجع الرئيس ترامب عن قراره الأولي بالرد العسكري ضد إسقاط إيران لطائرة أمريكية مسيرة).
يوم الإثنين اتهم الرئيس دونالد ترامب ووزير الخارجية مايك بومبيو النظام الإيراني بالكذب والتضليل الدعائي في سياق نفيهما لاعلان إيران بإلقاء القبض على شبكة تجسس لصالح وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي ايه). الوزير بومبيو قال “الكذب على العالم هو جزء من طبيعة آية الله” في ما يفترض أن يكون إشارة إلى المرشد آية الله علي خامنئي. يوم الخميس أعرب بومبيو عن استعداده لزيارة طهران “ليس لأغراض الدعاية بل لكي أقول الحقيقة للشعب الإيراني حول ما تفعله قيادتهم وكيف أضرت بإيران”. إعلان بومبيو هذا جاء في مقابلة تلفزيونية، ويمكن فقط أن نتمكن بجواب بومبيو لو سأله المذيع: كيف يمكنك التوفيق بين اتهام أعلى سلطة في إيران بالكذب يوم الاثنين، وأعرابك عن الاستعداد لزيارة طهران يوم الخميس؟
الرئيس ترامب يقول إنه مستعد للتفاوض مع إيران “دون شروط مسبقة”، ووزير خارجيته بومبيو يكرر الموقف ذاته، ولكنه يضيف أن التفاوض مع إيران لن يكون مجديا إلا إذا عادت إلى المجتمع الدولي وبدأت تتصرف ” كدولة طبيعية”. يوم الخميس، عاد بومبيو من جديد ليذّكر الإيرانيين بالشروط الاثنتي عشرة “البسيطة” على حد قوله والتي طرحها قبل أكثر من سنة لعودة إيران للتصرف كدولة طبيعية، الأمر الذي سيؤدي إلى التوصل إلى اتفاق نووي جديد يختلف عن الاتفاق الذي انسحبت منه الولايات المتحدة في أيار- مايو 2018. ولكنه استدرك أن قبول إيران بالشروط يعني أنه لن تكون هناك حاجة لاتفاق جديد، في إشارة إلى أن إيران الجديدة ستكون مختلفة جذريا عن إيران الحالية. التصريحات الإيرانية حول التفاوض مع الولايات المتحدة تتسم أيضا بالتناقضات، فهناك الدعوات للتفاوض، ولكن بعد إلغاء العقوبات، ودعوات ترفض التوصل إلى اتفاق نووي جديد.
احتمالات المواجهة العسكرية
ولكن إذا كان السجال اللفظي بين واشنطن وطهران قابل للتفسيرات المتناقضة والتكهنات المثيرة، فإن التطورات الميدانية في مياه وأجواء الخليج معقدة أكثر ومحفوفة بمخاطر المواجهة العسكرية، وخاصة تلك التي يمكن أن تفجرها حوادث غير مقصودة أو سوء حسابات محلية، أو إساءة قراءة كل طرف لصبر الطرف الآخر وقدرته على تحمل واستيعاب الضغوط والأعباء. قبل أسبوع استولت البحرية الإيرانية على ناقلة نفط بريطانية، في تحد سافر لدولة حليفة للولايات المتحدة وطرف مباشر في الاتفاق النووي الدولي مع إيران، ربما لأن طهران ترى أن بريطانيا العظمى لم تعد عظمى، وهو تقييم حتى البريطانيين لا يرفضونه، وربما لأنها تريد استغلال الخلافات بين واشنطن ولندن حول طبيعة الاجراءات العسكرية واللوجستية التي تدرسها الآن الولايات المتحدة وحلفاؤها الخليجيون والأوروبيون لتوفير الحماية للملاحة الدولية في منطقة الخليج وردع إيران. ويوم الأربعاء أجرت إيران تجربة صاروخية هامة، في تذكير للعالم بأن ترسانتها الصاروخية التي لم يشملها الاتفاق النووي لا تزال قيد التطوير.
وعلى الرغم من تصريحات الرئيس ترامب المبهمة أحيانا، والمبالغ فيها أحيانا أخرى، وتأرجحه بين تهديد إيران بالتدمير الكامل والتلويح بالتطبيع الكامل، إلا أن موقفه الثابت كان ولا يزال منذ انسحابه من الاتفاق النووي، واستئنافه للعقوبات الشاملة في سياق ما يسمى بسياسة “الضغوط القصوى”، هو تفادي التورط في حرب مع إيران، وهو الذي يسعى لسحب القوات الأمريكية من أفغانستان، وبالتالي إنهاء أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة، وحتى سحب القوات الأمريكية من العراق، وبالتالي إنهاء ثاني أطول حرب في تاريخ البلاد. ولا يزال الرأي السائد في أوساط المحللين الاستراتيجيين في واشنطن هو أنه لا إيران ولا أمريكا تريد حربا مكلفة، وأن حسابات كل طرف، وتحديدا إيران هي في تفادي اجتياز الخطوط الحمر المفترضة لكل طرف. ولكن في الأسابيع الماضية، بدأ بعض المحللين في واشنطن يميلون إلى الاعتقاد بأن الانكماش الكبير الذي يعاني منه الاقتصاد الإيراني بسبب العقوبات التي تعتبرها طهران حربا من نوع آخر، قد يعزز من طروحات تلك الأصوات في طهران التي تقول إن الطريقة الوحيدة لإرغام العالم، وأوروبا بالتحديد، على التحرك هي في استفزاز مواجهة عسكرية محدودة مع الولايات المتحدة، على أمل أن تُخيف دول الخليج العربية وأوروبا وحتى اليابان والصين التي تحتاج لاستيراد النفط من الخليج أكثر من الولايات المتحدة. ويرى هؤلاء المحللون، أن التقييم الإيراني هو أن ترامب الذي لا يريد حربا شاملة، قد يضطر في وجه استفزاز إيراني كبير، مثل التسبب بخسائر بشرية أمريكية ( وهذا خط أحمر تحدث عنه الرئيس) إلى إصدار الاوامر بشن غارات جوية وصاروخية ضد أهداف إيرانية عسكرية وربما اقتصادية قد تستمر لأيام وربما أكثر. ووفقا لهذا السيناريو، فإن إيران سوف تستوعب مثل هذه الضربات، التي ستحّيد في هذه الحالة المعارضة الداخلية، وتضع واشنطن في موقع دفاعي وتعزز من احتمالات حدوث شروخات بين واشنطن وحلفائها الإقليميين والأوروبيين. خلال الحرب العراقية- الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي، تعرضت إيران لضربات عسكرية أميركية مؤلمة، استهدفت مواقع عسكرية واقتصادية ولكنها استوعبتها.
الاعتداءات التي استهدفت في الأسابيع الماضية ناقلات نفط سعودية وإماراتية ونرويجية وبريطانية، دفعت بواشنطن وحلفائها لدراسة تنظيم دوريات بحرية دولية لمواكبة ناقلات النفط، والمناقشات بهذا الشأن تجري حاليا في الولايات المتحدة، في مقر القيادة المركزية (التي تشرف على القوات الأمريكية المنتشرة في الشرق الاوسط) في مدينة تامبا بولاية فلوريدا، وتأمل واشنطن بأن تشارك في هذه القوات دول أوروبية وخليجية وآسيوية. وفي هذا السياق برزت اجتهادات مختلفة بين واشنطن ولندن حين أعلن وزير خارجية بريطانيا جيريمي هانت يوم الاثنين أن بلاده سوف ترسل قوات بحرية لمواكبة ناقلات النفط البريطانية في مياه الخليج، وحين دعا إلى إنشاء قوة أوروبية لحماية الملاحة في الخليج. وتأتي الدعوة البريطانية في أعقاب تقارير صحفية ذكرت أن بريطانيا رفضت المشاركة في القوة الأمريكية المقترحة والمسماة Operation Sentinel، وبدا ذلك واضحا في تصريحات الوزير بومبيو الفاترة حول مصير ناقلة النفط البريطانية التي احتجزتها إيران، الذي قال إن بريطانيا “في هذه الحالة هي المسؤولة عن حماية سفنها”. وقال بومبيو قبل أيام إن واشنطن طلبت من بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنرويج واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا وغيرها من الدول المشاركة في مثل هذه القوة الدولية لضمان تدفق النفط عبر مضيق هرمز. وللولايات المتحدة خبرة في تشكيل وإدارة مثل هذه الدوريات البحرية لمواكبة الناقلات في الخليج تعود إلى ثمانينات القرن الماضي.
المأزق الإيراني
قبل أيام تحدث الرئيس ترامب بإحباط عن احتمالات التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران وقال إن التوصل لمثل هذا الاتفاق يزداد صعوبة بسبب “السلوك الإيراني السيء” وعاد للقول إنه مستعد لاحتمالات النجاح واحتمالات الفشل. وأضاف ترامب “إيران لا تعرف أين تقف. حاليا هي دولة في حالة ارتباك”. ويقول ترامب إن إيران تواجه “مشاكل هائلة” بسبب العقوبات الأمريكية، مضيفا أن الولايات المتحدة مستعدة للتوصل إلى اتفاق سريع، أو لمفاوضات طويلة، “وأنا لست مستعجلا”.
الوزير بومبيو رأى أن العقوبات الأمريكية قد نجحت بشكل جذري في تقويض الاقتصاد الإيراني. وقال ” لقد نجحنا في سحب 95 بالمئة من النفط الإيراني من الاسواق”، وتحدث عن الاستياء الشعبي في إيران جراء انكماش الاقتصاد. وأضاف أن انحسار عائدات النفط قد أثر سلبا على قدرة إيران “في إجراء مناورات بحرية أو في تمويل الحملات الإرهابية والاغتيالات في العالم، لأننا حرمانهم من الثروات والموارد”. وكرر بومبيو القول إن الهدف الاستراتيجي الأمريكي هو ارغام المرشد خامنئي وقائد فيلق القدس، قاسم سليماني على القيام ” بتصحيح جوهري واستراتيجي لمسيرتهم”. ويعول بومبيو على أن تؤدي العقوبات الأمريكية إلى ارغام طهران على تعديل سلوكها التخريبي في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ولكن حتى الآن لا تزال سياسات وممارسات إيران في هذه الدول العربية على ما هي عليه، وليس من المتوقع أن تتغير في أي وقت قريب.
معضلة القيادة الإيرانية، هي أنها ليست قادرة على قبول الأمر الواقع الذي جلبته العقوبات الأمريكية إلى حين انتهاء ولاية الرئيس ترامب في 2020، حتى ولو كان الافتراض أنه سيخسر الانتخابات المقبلة. وطبعا تزداد الصورة سوادا كما تبدو لطهران، حين التفكير بأن ترامب قد يجدد لنفسه ولاية ثانية. وهذا يعني أن إيران سوف تضطر إلى تغيير المعادلة وتصعيد تحدياتها للملاحة الدولية والمجازفة بمواجهة عسكرية محدودة مع الولايات المتحدة، إذا كانت هذه الوسيلة الوحيدة لتقويض الوضع الراهن لأن مستقبل النظام الإسلامي سيكون على المحك اذا لم تخرج إيران من فك العقوبات الأمريكية.